نتائج البحث عن (وَالْأَسْقَاطُ)
1-موسوعة الفقه الكويتية (إبراء 1)
إِبْرَاء -1التَّعْرِيفُ بِالْإِبْرَاءِ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَرِئَ: تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، فَالْإِبْرَاءُ عَلَى هَذَا: جَعْلُ الْمَدِينِ- مَثَلًا- بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ. وَالتَّبْرِئَةُ: تَصْحِيحُ الْبَرَاءَةِ، وَالْمُبَارَأَةُ: الْمُصَالَحَةُ عَلَى الْفِرَاقِ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهَهُ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ السُّكْنَى الْمُوصَى بِهِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ. وَقَدِ اخْتِيرَ لَفْظُ (إِسْقَاطٍ) فِي التَّعْرِيفِ- بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَيَيْنِ، هُمَا الْإِسْقَاطُ وَالتَّمْلِيكُ- تَغْلِيبًا لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهِ إِسْقَاطٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَرَاءَةُ، وَالْمُبَارَأَةُ، وَالِاسْتِبْرَاءُ:
2- (الْبَرَاءَةُ): هِيَ أَثَرُ الْإِبْرَاءِ، وَهِيَ مَصْدَرُ بَرِئَ. فَهِيَ مُغَايِرَةٌ لَهُ فِي الْفِقْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ كَمَا تَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الدَّائِنِ، تَحْصُلُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى غَيْرِهِ، كَالْوَفَاءِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ الْكَفِيلِ، وَتَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِالِاشْتِرَاطِ، كَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّبَرُّؤِ أَيْضًا، وَتَفْصِيلُهُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَالْكَفَالَةِ.
وَقَدْ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّمَانِ، أَوْ بِمَنْعِ صَاحِبِ التَّضْمِينِ مِنْ إِزَالَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ إِنْ أَرَادَ رَدْمَهَا فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صِيغَةُ إِبْرَاءٍ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ التَّبَايُنَ بَيْنَهُمَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ تَقْيِيدِ الْبَرَاءَةِ بِالْإِبْرَاءِ أَوِ الْإِسْقَاطِ لِتَمْيِيزِهَا عَنِ الْبَرَاءَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ: الْبَرَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ لَا تَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ، بَلْ بِفِعْلِ الطَّالِبِ- أَيْ الدَّائِنِ- فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُضَافَةً إِلَى الْكَفِيلِ. وَنَحْوَهُ بَحَثَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي تَلْفِيقِ شَهَادَتَيْ الْإِبْرَاءِ وَالْبَرَاءَةِ، كَأَنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ بَرِئَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَرَجَّحُوا جَوَازَهُ وَاعْتِبَارَ الشَّهَادَةِ مُسْتَكْمِلَةَ النِّصَابِ
3- أَمَّا (الْمُبَارَأَةُ) فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ وَتَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْبَرَاءَةِ. وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخُلْعِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا. لَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ. فَالْمُبَارَأَةُ صُورَةٌ خَاصَّةٌ لِلْإِبْرَاءِ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِإِيقَاعِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ- إِجَابَةً لِطَلَبِ الزَّوْجَةِ غَالِبًا- مُقَابِلَ عِوَضٍ مَالِيٍّ تَبْذُلُهُ لِلزَّوْجِ، هُوَ تَرْكُهَا مَا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقٍ مَالِيَّةٍ، كَالْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ، أَوِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الْعِدَّةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَا أَيُّ حَقٍّ إِلاَّ بِالتَّسْمِيَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَائِلَيْنِ بِسُقُوطِ جَمِيعِ حُقُوقِهَا الزَّوْجِيَّةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْطِنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ (الْخُلْعِ).
وَلِابْنِ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رِسَالَةٌ فِي الطَّلَاقِ الْمُوَقَّعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاءِ، حَقَّقَ فِيهَا أَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا لِوُقُوعِهِ بِعِوَضٍ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: مَتَى ظَهَرَ كَذَا وَأَبْرَأْتِنِي مِنْ مَهْرِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَيْسَ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِالْإِبْرَاءِ، فَالْإِبْرَاءُ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ عِوَضًا.
4- وَأَمَّا (الِاسْتِبْرَاءُ) فَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، أَيْ طَهَارَتُهُ مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ. وَهُوَ حَيْثُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ عِدَّةٌ. وَأَحْكَامُهُ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِهِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: هُوَ طَلَبُ نَقَاءِ الْمَخْرَجَيْنِ مِمَّا يُنَافِي التَّطَهُّرَ، وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءِ الْحَاجَةِ).
ب- الْإِسْقَاطُ:
5- الْإِسْقَاطُ لُغَةً: الْإِزَالَةُ، وَاصْطِلَاحًا: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ. وَهُوَ قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، عَلَى سَبِيلِ الْمَدْيُونِيَّةِ (كَالْحَالِ فِي الْإِبْرَاءِ) كَمَا قَدْ يَقَعُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ بِالشَّرْعِ لَمْ تُشْغَلْ بِهِ الذِّمَّةُ (كَحَقِّ الشُّفْعَةِ) وَيَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، فَالْإِبْرَاءُ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ إِبْرَاءٍ إِسْقَاطٌ، وَلَا عَكْسَ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ تَقْسِيمُ الْقَرَافِيِّ الْإِسْقَاطَ إِلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: بِعِوَضٍ، كَالْخُلْعِ. وَالْآخَرُ: بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمَثَّلَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنَ الدُّيُونِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
وَالْإِسْقَاطُ مُتَمَحِّضٌ لِسُقُوطِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، فِي حِينِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ مُخْتَلِفٌ فِي أَنَّهُ إِسْقَاطٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، أَوْ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ، أَوْ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
هَذَا وَإِنَّ الْقَلْيُوبِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَفَادَ أَنَّ غَيْرَ الْقِصَاصِ لَا يُسَمَّى تَرْكُهُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاءٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَأْلُوفِ الْمَذْهَبِ.
وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْإِبْرَاءُ فِي مَوْطِنِ الْإِسْقَاطِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، فَالْإِبْرَاءُ مِنَ الْعَيْبِ كِنَايَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ.
ج- الْهِبَةُ:
6- الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، أَوِ التَّبَرُّعُ بِمَا يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ مُطْلَقًا. وَهِيَ شَرْعًا: تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ.
وَالَّذِي يُوَافِقُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْهِبَةِ هُوَ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، فَهِيَ وَالْإِبْرَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُجِيزُونَ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْجُمْلَةِ فَالْإِبْرَاءُ مُخْتَلِفٌ عَنْ هِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْإِبْرَاءِ بَعْدَ قَبُولِهِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا تَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ.
أَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ- عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الَّذِي مَوْطِنُهُ الْهِبَةُ وَالدَّيْنُ- فَلَا صِلَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ.
د- الصُّلْحُ:
7- الصُّلْحُ لُغَةً: التَّوْفِيقُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ. وَهُوَ شَرْعًا: عَقْدٌ بِهِ يُرْفَعُ النِّزَاعُ وَتُقْطَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُتَصَالِحَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الصُّلْحَ يَكُونُ عَنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ. فَإِذَا كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، وَكَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى إِسْقَاطِ جُزْءٍ مِنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَدَاءِ الْبَاقِي، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُشْبِهُ الصُّلْحُ الْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهَا أَخْذٌ لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءٌ عَنْ بَاقِيهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصُّلْحُ هُنَا عَلَى أَخْذِ بَدَلٍ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ.
وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ وَتَضَمَّنَ إِسْقَاطَ الْجُزْءِ مِنْ حَقِّهِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعِي إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، فِي حِينِ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءٌ لِلْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ.
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الصُّلْحَ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطٌ وَإِبْرَاءٌ، وَقَالَ: هُوَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَالْآخَرُ: صُلْحٌ عَلَى عِوَضٍ، وَقَالَ فِيهِ: هُوَ جَائِزٌ إِلاَّ إِنْ أَدَّى إِلَى حَرَامٍ.
هـ- الْإِقْرَارُ:
8- مِنْ مَعَانِي الْإِقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الْإِيقَانُ وَالِاعْتِرَافُ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ: الْإِخْبَارُ بِحَقِّ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالْإِقْرَارُ قَدْ يَرِدُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِمَّا إِبْرَاءُ اسْتِيفَاءٍ، وَإِمَّا إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَكُلٌّ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ عَلَى إِطْلَاقِهِ يَقْطَعُ النِّزَاعَ وَيَفْصِلُ الْخُصُومَةَ. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَا عُبِّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنْ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.
وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا، فَإِذَا قَالَ: أَبْرَأْتَنِي مِنْ كَذَا، أَوْ: أَبْرِئْنِي، فَهُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ وَادِّعَاءٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَعَلَيْهِ بَيِّنَةُ الْإِبْرَاءِ أَوِ الْقَضَاءُ.
و- الضَّمَانُ:
9- الضَّمَانُ لُغَةً: الْكَفَالَةُ وَالِالْتِزَامُ بِالشَّيْءِ. وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْتِزَامُ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ أَوْ إِحْضَارُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَالضَّمَانُ عَكْسُ الْإِبْرَاءِ، فَهُوَ يُفِيدُ انْشِغَالَ الذِّمَّةِ
فِي حِينِ يُطْلَقُ الْإِبْرَاءُ عَلَى خُلُوِّهَا، وَلِصِلَةِ الضِّدِّيَّةِ هَذِهِ وَضَعَ الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْإِبْرَاءِ فِي بَابِ الضَّمَانِ.
هَذَا وَإِنَّ لِلْإِبْرَاءِ صِلَةً بِالضَّمَانِ، وَهِيَ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَسْبَابِ لِسُقُوطِهِ، بَلْ إِنَّ لَهُ مَدْخَلًا إِلَى أَكْثَرِ الِالْتِزَامَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَطَرَّقُ لَهُ فِي سُقُوطِهَا؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَسْقُطَ بِالْوَفَاءِ- أَيْ الْأَدَاءِ- أَوِ الْمُقَاصَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ز- الْحَطُّ:
10- الْحَطُّ لُغَةً: الْوَضْعُ، أَوِ الْإِسْقَاطُ. وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِسْقَاطُ بَعْضِ الدَّيْنِ أَوْ كُلِّهِ. فَالْحَطُّ إِبْرَاءٌ مَعْنًى، وَلِذَا قَدْ يُطْلَقُ الْحَطُّ عَلَى الْإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِالْكُلِّ أَوِ الْجُزْءِ. وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَطِّ لِلْإِبْرَاءِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، أَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ عَنْ كُلِّهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ تَسْمِيَةُ وَضْعِ بَعْضِ الدَّيْنِ إِبْرَاءً، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِبْرَاءٌ جُزْئِيٌّ. وَقَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ إِبْرَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يُشْعِرُ بِقَنَاعَةِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ.
ح- التَّرْكُ:
11- مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ فِي اللُّغَةِ: الْإِسْقَاطُ، يُقَالُ: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ. وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ صِلَتِهِ بِالْإِبْرَاءِ مَا جَاءَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إِنْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ (التَّرْكِ) كَأَنْ يَقُولَ: تَرَكْتُ الدَّيْنَ، أَوْ: لَا آخُذُهُ مِنْكَ، فَهِيَ كِنَايَةُ إِبْرَاءٍ. وَلَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِبْرَاءٌ صَرِيحٌ. وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَالْمُقْرِي.
وَالتَّرْكُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِسْقَاطِ عُمُومًا بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ مَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ الْإِسْقَاطِ وَيُعْطَى أَحْكَامَهُ، وَلِذَا أَوْرَدَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي عِدَادِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ الْإِسْقَاطُ فِيهَا إِلَى قَبُولٍ- كَالْإِبْرَاءِ عِنْدَهُمْ- فِي حِينِ يَحْتَاجُ لَفْظُ الصُّلْحِ إِلَى الْقَبُولِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ التَّرْكُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ دُونَ إِسْقَاطِهِ، كَتَرْكِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ وَمَنْحِهِ لِلزَّوْجَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ لَهَا الرُّجُوعَ وَطَلَبَ الْقَسْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْغَالِبُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ لَفْظُ التَّرْكِ فِي الدَّعْوَى، فَالْمُدَّعِي فِي أَشْهَرِ تَعْرِيفَاتِهِ «مَنْ إِذَا تَرَكَ (أَيْ دَعْوَاهُ) تُرِكَ» وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَصْدُرْ دَفْعٌ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَعْوَاهُ، فَإِنْ حَصَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي التَّرْكُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِهِ الْكَيْدَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيُلْزَمُ بِالِاسْتِمْرَارِ فِي الدَّعْوَى لِلْفَصْلِ فِيهَا. وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي كَذَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُ طَلَبُ دَفْعِ التَّعَرُّضِ.
صِفَةُ الْإِبْرَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
12- الْإِبْرَاءُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ الْمَعْرُوفَةُ:
فَيَكُونُ وَاجِبًا إِذَا سَبَقَهُ اسْتِيفَاءٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِالْبَرَاءَةِ لِمُسْتَحِقِّهَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وَالْمُؤَكَّدِ بِالْحَدِيثِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي بَابِ السَّلَمِ: إِذَا أَحْضَرَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالَ السَّلَمِ الْحَالَّ لِغَرَضِ الْبَرَاءَةِ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى الْقَبُولِ أَوِ الْإِبْرَاءِ. فَهَذَا وَاجِبٌ تَخْيِيرِيٌّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُفْلِسِ فَلَهُ إِجْبَارُ الْغُرَمَاءِ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، أَوْ إِبْرَائِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا لَوْ جَاءَ ضِمْنَ عَقْدٍ بَاطِلٍ، لِأَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْبَاطِلِ حَرَامٌ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بُطْلَانِ الْإِبْرَاءِ.
وَتَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا أَبْرَأَ وَارِثَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ، وَمُسْتَنَدُ الْكَرَاهَةِ مَا فِي ذَلِكَ الْإِبْرَاءِ مِنْ تَضْيِيعِ وَرَثَتِهِ، «لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ هَمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ: إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ.
13- عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ لَهُ النَّدْبُ، وَلِذَا يَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: «الْإِبْرَاءُ مَطْلُوبٌ، فَوُسِّعَ فِيهِ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ» ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ الْحَقِّ عَنِ الْمُعْسِرِ الَّذِي يُثْقِلُ الدَّيْنُ كَاهِلَهُ. وَحَتَّى إِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ لِمَنْ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ، فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه- حِينَ قَامَ بِوَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ، وَخَبَرُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، حِينَ أَعْسَرَا، حَيْثُ ثَبَتَ حَضُّهُ - عليه الصلاة والسلام- الدَّائِنِينَ عَلَى إِسْقَاطِ كُلِّ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضِهِ عَنْهُمْ.
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لِلْمُعْسِرِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَرْضِ، وَأَنَّ الْقَرْضَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَالْإِبْرَاءُ فِي غَيْرِ الْأَحْوَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا هُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْجَارِيَةِ فِي مُعْظَمِ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالَةِ عَجْزِ الْمُبْرِئِ عَنْ تَحْصِيلِ حَقِّهِ مِنْ مُنْكِرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُنَا غَيْرُ وَارِدٍ، لِفُقْدَانِ مَحَلِّهِ.
أَقْسَامُ الْإِبْرَاءِ:
14- يُقَسِّمُ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ الْإِبْرَاءَ إِلَى قِسْمَيْنِ: إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ، وَإِبْرَاءُ الِاسْتِيفَاءِ. وَيَعْتَبِرُونَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا هُوَ الْجَدِيرُ بِالْبَحْثِ تَحْتَ هَذَا الِاسْمِ، فِي حِينِ أَنَّ الثَّانِيَ (الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ) هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ فِي الْكَفَالَةِ الْوَاقِعِ مِنَ الطَّالِبِ (الدَّائِنِ) إِنْ جَاءَ بِلَفْظِ «بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَالِ» بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْمَدِينُ كِلَاهُمَا مِنَ الْمُطَالِبِ، وَرَجَعَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ بَرَاءَةُ قَبْضٍ وَاسْتِيفَاءٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: دَفَعْتَ إِلَيَّ. أَمَّا إِنْ قَالَ: بَرِئْتَ مِنَ الْمَالِ، أَوْ: أَبْرَأْتُكَ، بِدُونِ لَفْظِ (إِلَيَّ) فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ، لَا إِقْرَارٌ بِالْقَبْضِ. عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ الْكَفَالَةُ.
وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمَا قِسْمَيْنِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِبْرَاءِ وَالْإِقْرَارِ يُرَادُ بِهِ قَطْعُ النِّزَاعِ وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ وَعَدَمُ جَوَازِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَهُمَا. فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ. وَلِذَا عَبَّرُوا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنِ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا.
وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ لَيْسَ لِلْإِبْرَاءِ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِثَمَرَةِ الْإِبْرَاءِ وَمَقْصُودِهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ- وَمِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ- غَيْرُ الْإِبْرَاءِ فِي الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ وَالْآثَارِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فِي حِينِ يَخْتَصُّ إِبْرَاءُ الْإِسْقَاطِ بِالدُّيُونِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَسَيَقْتَصِرُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ مَا يَتَّصِلُ بِإِبْرَاءِ الِاسْتِيفَاءِ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِقْرَار).
وَلَمْ نَقِفْ فِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ لِلْإِبْرَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ لِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ صُوَرٌ يُمَيِّزُونَ فِيهَا بَيْنَ بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ.
وَهُنَاكَ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِلْإِبْرَاءِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، تَبَعًا لِلصِّيغَةِ الَّتِي يَرِدُ بِهَا، وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (أَنْوَاع الْإِبْرَاءِ) بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ.
الْإِبْرَاءُ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ:
15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ لِلْإِسْقَاطِ أَوِ التَّمْلِيكِ. وَتَبَايَنَتْ أَقْوَالُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْجِيهِ الْأَحْكَامِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ رَأْيٌ غَالِبٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لِلْإِسْقَاطِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: لَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكًا لَصَحَّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْأَعْيَانِ.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ. قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: الْإِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا، الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ.
الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: مَا نَقَلَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ أَيْضًا، أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحَنَابِلَةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَقَالُوا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إِسْقَاطٌ، فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ ثُمَّ سَقَطَ.
وَهُنَاكَ اتِّجَاهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، هُوَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ- فِي غَيْرِ مُقَابَلَتِهِ لِلطَّلَاقِ- تَمْلِيكٌ مِنَ الْمُبْرِئِ، إِسْقَاطٌ عَنِ الْمُبْرَأِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
غَلَبَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ تَسَاوِيهِمَا:
16- الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ اشْتِمَالُ الْإِبْرَاءِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ: الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ، وَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ تَبَعًا لِلْمَوْضُوعِ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأَعْيَانِ، فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ. أَمَّا فِي الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجْرِي الْمَعْنَيَانِ كِلَاهُمَا. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَمَثَّلَ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
وَمَثَّلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ لِمَا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ، فَأَبْرَأَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَهَذَا إِسْقَاطٌ. وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِبْرَاءُ عَنِ الزَّكَاةِ، لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ.
وَنَقَلَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا عَنِ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ قَوْلَهُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ كَوْنَ الْإِبْرَاءِ تَمْلِيكًا أَوْ إِسْقَاطًا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُطْلَقُ فِيهَا تَرْجِيحٌ، بَلْ يَخْتَلِفُ الرَّاجِحُ بِحَسَبِ الْمَسَائِلِ، لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَضَعْفِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ.
وَمِمَّا غَلَبَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحُهُمْ اشْتِرَاطَ الْقَبُولِ فِي الْإِبْرَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي.
عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَا يَصْلُحُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ (الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ بِالتَّسَاوِي). وَمِنْهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْوَارِثُ مَدِينَ مُوَرِّثِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ بَانَ مَيِّتًا، فَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ يَصِحُّ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ تَمْلِيكًا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَوْ بَاعَ عَيْنًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ ثُمَّ ظَهَرَ مَوْتُهُ صَحَّ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَهُنَا بِالْأَوْلَى.
اخْتِلَافُ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ:
17- قَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ اعْتِبَارِ الْإِبْرَاءِ، هَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا لَوْ وَكَّلَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ، نَظَرًا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ التَّمْلِيكِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ.
أَرْكَانُ الْإِبْرَاءِ
تَمْهِيدٌ:
18- لِلْإِبْرَاءِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، بِحَسَبِ الْإِطْلَاقِ الْوَاسِعِ لِلرُّكْنِ، لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَاهِيَّتِهِ أَمْ خَارِجًا عَنْهَا، كَالْأَطْرَافِ وَالْمَحَلِّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. فَالْأَرْكَانُ عِنْدَهُمْ هُنَا: الصِّيغَةُ وَالْمُبْرِئُ (صَاحِبُ الْحَقِّ أَوِ الدَّائِنُ) وَالْمُبْرَأُ (الْمَدِينُ) وَالْمُبْرَأُ مِنْهُ (مَحَلُّ الْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ حَقٍّ)
وَرُكْنُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْمُتَعَاقِدَانِ وَالْمَحَلُّ فَهِيَ أَطْرَافُ الْعَقْدِ وَلَيْسَتْ رُكْنًا، لِمَا سَبَقَ.
الصِّيغَةُ:
19- الْأَصْلُ فِي الصِّيغَةِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَوَقُّفَ الْإِبْرَاءِ عَلَى الْقَبُولِ. أَمَّا مَنْ لَا يَرَى حَاجَةَ الْإِبْرَاءِ إِلَيْهِ فَالصِّيغَةُ هِيَ الْإِيجَابُ فَقَطْ.
الْإِيجَابُ:
20- يَحْصُلُ إِيجَابُ الْإِبْرَاءِ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَهُوَ التَّخَلِّي عَمَّا لِلدَّائِنِ عِنْدَ الْمَدِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاضِحَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَثَرِ (سُقُوطُ الْحَقِّ وَالْمُبْرَأِ مِنْهُ)، فَيَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً أَوْ كِنَايَةً مَحْفُوفَةً بِالْقَرِينَةِ، سَوَاءٌ أُورِدَ مُسْتَقِلًّا أَمْ تَبَعًا ضِمْنَ عَقْدٍ آخَرَ.
وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَفِيَ احْتِمَالُ الْمُعَاوَضَةِ، أَوْ قَصْدُ مُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا، فَهُوَ صُلْحٌ بِمَالٍ، عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَهُوَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، لَا لِسُقُوطِهَا.
وَالْإِبْرَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى التَّأْبِيدِ اتِّفَاقًا. فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ الْمُؤَقَّتُ، كَأَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ مِمَّا لِي عَلَيْكَ سَنَةً، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. وَهُوَ مُسْتَفَادُ عِبَارَاتِ غَيْرِهِمْ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ. أَمَّا تَقْيِيدُ الْإِبْرَاءِ بِأَنَّهُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ وَإِنْ سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ تَجَوُّزًا (إِبْرَاءً مُؤَقَّتًا).
وَمِثْلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْمَرْسُومَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، أَوِ الْإِشَارَةُ الْمَعْهُودَةُ، بِشُرُوطِهِمَا الْمُفَصَّلَةِ فِي مَوْطِنِهِمَا.
21- وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى لَفْظِ الْإِبْرَاءِ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى حُصُولِ الْإِيجَابِ بِهِ- أَمْثِلَةً عَدِيدَةً لِمَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. وَلَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى انْحِصَارِ الصِّيغَةِ فِيمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا صِيغَتُهُ: الْإِسْقَاطُ، وَالتَّمْلِيكُ، وَالْإِحْلَالُ، وَالتَّحْلِيلُ، وَالْوَضْعُ، وَالْعَفْوُ، وَالْحَطُّ، وَالتَّرْكُ، وَالتَّصَدُّقُ، وَالْهِبَةُ، وَالْعَطِيَّةُ. قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْحَارِثِيِّ قَوْلَهُ: لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ. كَمَا اسْتَدَلَّ مِنْ مَثَّلَ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ التَّصَدُّقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَهْرِ {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وقوله تعالى فِي شَأْنِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدِّيَةِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} وقوله تعالى فِي شَأْنِ إِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَبِقَوْلِهِ - عليه الصلاة والسلام- دَاعِيًا لِإِبْرَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» وَقَدْ يَحْصُلُ الْإِبْرَاءُ بِصِيغَةٍ يَدُلُّ تَرْكِيبُهَا عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِي عِنْدَ فُلَانٍ حَقٌّ، أَوْ: مَا بَقِيَ لِي عِنْدَهُ حَقٌّ، أَوْ: لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ دَعْوَى، أَوْ: فَرَغْتُ مِنْ دَعْوَايَ الَّتِي هِيَ مَعَ فُلَانٍ، أَوْ: تَرَكْتُهَا.
22- وَيُسْتَفَادُ مِمَّا أَوْرَدَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ تَعْقِيبٍ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ أَنَّ هُنَاكَ صِيَغًا مُخَصِّصَةٌ لِلْإِبْرَاءِ مِنَ الْأَمَانَاتِ أَوِ الدُّيُونِ، وَأُخْرَى لَا يَحْصُلُ عُمُومُ الْإِبْرَاءِ إِلاَّ بِهَا- يُسْتَفَادُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِبْرَاءُ أَصْلًا، أَوْ تَعْمِيمًا، أَوْ تَخْصِيصًا بِمَوْضُوعٍ دُونَ آخَرَ، كَمَا يُنْظَرُ إِلَى الْقَرَائِنِ فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنْ إِطْلَاقٍ. وَمِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ «بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ» الَّتِي تَحْتَمِلُ نَفْيَ الْمُوَالَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْحُقُوقِ. فَإِذَا جَرَى الْعُرْفُ، أَوْ دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا هِيَ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُمَثِّلُوا بِهِ لِلْإِيجَابِ عَنِ الْإِبْرَاءِ، كَعِبَارَةِ «التَّنَازُلِ» أَوِ «التَّخَلِّي عَنِ الْحَقِّ». فَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْعُرْفِ.
الْقَبُولُ:
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ أَوْ لَا، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ حَاجَةِ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لِأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَالْإِسْقَاطَاتُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعِتْقِ، وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَذْهَبُ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: الْإِبْرَاءُ إِسْقَاطٌ أَمْ تَمْلِيكٌ.
الِاتِّجَاهُ الْآخَرُ: حَاجَةُ الْإِبْرَاءِ إِلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، أَيْ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ، وَهِيَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقَبُولِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ- أَيْ الِافْتِقَارُ لِلْقَبُولِ- بِأَنَّ الْمِنَّةَ قَدْ تَعْظُمُ فِي الْإِبْرَاءِ، وَذَوُو الْمُرُوءَاتِ وَالْأَنَفَاتِ يَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَجَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُمْ قَبُولَ ذَلِكَ أَوْ رَدَّهُ، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَرْبِطُونَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ الْخِلَافِ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ، عَلَى مَا سَبَقَ.
24- وَلَا فَرْقَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْقَبُولِ أَوْ عَدَمِهَا بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِبْرَاءِ، أَوِ التَّعْبِيرِ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَإِثْبَاتُ الْفَرْقِ هُوَ مَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ قَالُوا فِيهَا بِالْحَاجَةِ لِلْقَبُولِ لِمَا فِي اللَّفْظِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَهَا آكَدَ فِي الِافْتِقَارِ لِلْقَبُولِ- عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ عُمُومًا- لِأَنَّهَا نَصٌّ فِي التَّمْلِيكِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، لِنَظَرِهِمْ إِلَى وَحْدَةِ الْمَقْصُودِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ.
هَذَا، وَبِالرَّغْمِ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مِنِ اعْتِبَارِ الْقَبُولِ مَحْدُودًا بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ مَا دَامَ قَائِمًا فَقَدِ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْقَبُولِ فِي صُورَةِ مَنْ يُوَكِّلُ فِي إِبْرَاءِ نَفْسِهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَبُولِ عَنِ الْإِيجَابِ، وَلَوْ بِالسُّكُوتِ عَنِ الْقَبُولِ زَمَانًا، فَلَهُ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
25- وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ التَّوَقُّفِ عَلَى الْقَبُولِ: الْعُقُودَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ (أَيْ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ) فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا الْإِبْرَاءُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ يَفُوتُ بِهِ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ، وَنَقْضُ الْعَقْدِ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ، فَإِنْ قَبِلَهُ بَرِئَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَا يَبْرَأُ. وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ لِعَقْدٍ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ، وَمَعْنَى الْإِسْقَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَوْ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَهُوَ جَائِزٌ بِدُونِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِسْقَاطُ شَرْطٍ.
رَدُّ الْإِبْرَاءِ:
26- يَنْبَنِي اخْتِلَافُ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ. وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَاجَتُهُ لِلْقَبُولِ أَوْ عَدَمُ حَاجَتِهِ. فَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ حَاجَتِهِ لِلْقَبُولِ، ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْخِيَارِ وَالطَّلَاقِ، لَا تَمْلِيكُ عَيْنٍ، كَالْهِبَةِ.
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ (وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْآخَرِ وَمَعَهُمْ فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ رَاعَوْا مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِالرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ) يَرَوْنَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ هَلْ يَتَقَيَّدُ الرَّدُّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ، أَوْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَالَّذِي فِي الْبَحْرِ وَالْحَمَوِيِّ عَلَى الْأَشْبَاهِ إِطْلَاقُ صِحَّةِ الرَّدِّ فِي مَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَالرَّدُّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْمُبْرِئِ، أَوْ مِنْ وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَخَالَفَ فِي الثَّانِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسَائِلَ لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:
1، 2- الْإِبْرَاءُ فِي الْحَوَالَةِ (وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْأَرْجَحِ) لِأَنَّهُمَا مُتَمَحِّضَانِ لِلْإِسْقَاطِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِتَلَاشِي السَّاقِطِ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ، لِعَوْدِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ.
3- إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِبْرَاءِ طَلَبٌ مِنَ الْمُبْرَأِ بِأَنْ قَالَ: أَبْرِئْنِي، فَأَبْرَأَهُ فَرَدَّ، لَا يَرْتَدُّ.
4- إِذَا سَبَقَ لِلْمُبْرَأِ أَنْ قَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
2-موسوعة الفقه الكويتية (إبطال)
إِبْطَال1- الْإِبْطَالُ لُغَةً: إِفْسَادُ الشَّيْءِ وَإِزَالَتُهُ، حَقًّا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَوْ بَاطِلًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وَشَرْعًا: الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْبُطْلَانِ، سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ سَبَبُ الْبُطْلَانِ، أَوْ وُجِدَ وُجُودًا حِسِّيًّا لَا شَرْعِيًّا. فَالْأَوَّلُ كَمَا لَوِ انْعَقَدَتِ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يُبْطِلُهَا، وَالثَّانِي كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَى إِحْدَى الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَأْتِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْفَسْخِ، وَالْإِفْسَادِ، وَالْإِزَالَةِ، وَالنَّقْضِ، وَالْإِسْقَاطِ، لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ مُقَارَنَتِهِ بِهَا. وَالْأَصْلُ فِي الْإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّارِعِ، كَمَا يَحْدُثُ الْإِبْطَالُ مِمَّنْ قَامَ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّصَرُّفِ، وَقَدْ يَقَعُ مِنَ الْحَاكِمِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي سَلَّطَهُ عَلَيْهَا الشَّارِعُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِبْطَالُ وَالْفَسْخُ:
2- يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَارَةً بِالْإِبْطَالِ، وَتَارَةً بِالْفَسْخِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِبْطَالَ يَحْدُثُ أَثْنَاءَ قِيَامِ التَّصَرُّفِ وَبَعْدَهُ، وَكَمَا يَحْصُلُ فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ يَحْدُثُ فِي الْعِبَادَةِ.
أَمَّا الْفَسْخُ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَالِبًا فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَيَقِلُّ فِي الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهُ فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَفَسْخُ نِيَّةِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ، وَيَكُونُ فِي الْعُقُودِ قَبْلَ تَمَامِهَا، لِأَنَّهُ فَكُّ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ أَوِ التَّصَرُّفِ.
ب- الْإِبْطَالُ وَالْإِفْسَادُ:
3- يَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِبْطَالِ وَالْإِفْسَادِ تَفْرِيعًا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ وَالْفَاسِدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْعِبَادَاتِ، إِنِ اسْتَثْنَيْنَا الْحَجَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَغَيْرُ الْعِبَادَةِ كَذَلِكَ غَالِبًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي أَغْلَبِ الْعُقُودِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ، فَالْبَاطِلُ مَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا لَا بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ، وَالْفَاسِدُ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ. وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ (ر: بُطْلَان، فَسَاد.)
ج- الْإِبْطَالُ وَالْإِسْقَاطُ:
4- الْإِسْقَاطُ فِيهِ رَفْعٌ لِحَقٍّ ثَابِتٍ. وَفِي الْإِبْطَالِ مَنْعٌ لِقِيَامِ الْحَقِّ أَوِ الِالْتِزَامِ.
وَقَدْ يَأْتِي كُلٌّ مِنَ الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَحْيَانًا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: الْوَقْفُ لَا يَبْطُلُ بِالْإِبْطَالِ، وَقَوْلُهُمْ: أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أَوْ أَبْطَلْتُهُ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
5- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِبْطَالُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا. وَفِي رَأْيٍ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ نِيَّةَ إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا صَحِيحَةً تُبْطِلُهَا.
وَيَحْرُمُ إِبْطَالُ الْفَرْضِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ دُونَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَلِكَ النَّفَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَيَجِبُ إِعَادَتُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِبْطَالُ النَّافِلَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، عَدَا الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. أَمَّا فِيهِمَا فَيَحْرُمُ الْإِبْطَالُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمَا كَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ. وَمِثْلُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ اللاَّزِمَةُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا الْإِبْطَالُ بَعْدَ نَفَاذِهَا إِلاَّ بِرِضَا الْعَاقِدَيْنِ، كَمَا فِي الْإِقَالَةِ.
وَفِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ إِبْطَالُهَا مَتَى شَاءَ. وَفِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ مِنْ جَانِبٍ دُونَ آخَرَ، يَصِحُّ الْإِبْطَالُ مِمَّنِ الْعَقْدُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِبْطَالُ بِمَعْنَى الْفَسْخِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6- أَحْكَامُ الْإِبْطَالِ قَبْلَ الِانْعِقَادِ تُذْكَرُ فِي «بُطْلَان» وَبَعْدَهُ تُذْكَرُ فِي «فَسْخ».
وَلَمَّا كَانَ الْإِبْطَالُ يَعْتَرِي الْعِبَادَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّهُ يَصْعُبُ سَرْدُ مَوَاطِنِهِ تَفْصِيلًا، لِذَلِكَ يُرْجَعُ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ إِلَى سَبَبِ إِبْطَالِهَا، وَفِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ إِلَى مَوْضِعِهِ مِنْ كُلِّ عَقْدٍ أَوْ تَصَرُّفٍ، كَمَا يُفَصِّلُ الْأُصُولِيُّونَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
3-موسوعة الفقه الكويتية (استسعاء)
اسْتِسْعَاءٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِسْعَاءُ لُغَةً: سَعْيُ الرَّقِيقِ فِي فِكَاكِ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّهِ إِذَا عَتَقَ بَعْضُهُ، فَيَعْمَلُ وَيَكْسِبُ، وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَى مَوْلَاهُ.وَاسْتَسْعَيْتُهُ فِي قِيمَتِهِ: طَلَبْتُ مِنْهُ السَّعْيَ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ
وَإِعْتَاقُ الْمُسْتَسْعَى غَيْرُ الْإِعْتَاقِ بِالْكِتَابَةِ، فَالْمُسْتَسْعَى لَا يُرَدُّ إِلَى الرِّقِّ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لَا إِلَى أَحَدٍ، وَالْإِسْقَاطُ لَا إِلَى أَحَدٍ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْإِقَالَةُ وَالْفَسْخُ لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْكِتَابَةَ فِي أَنَّهُ إِعْتَاقٌ بِعِوَضٍ.
وَمَحَلُّ الِاسْتِسْعَاءِ: مَنْ أُعْتِقَ بَعْضُهُ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ فَإِنَّهُ يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ، وَلَا يُسْتَسْعَى؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَبَعَّضُ ابْتِدَاءً وَلِحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ غُلَامٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ»، وَأَجَازَ عِتْقَهُ.رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي لَفْظٍ: «هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ، لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ».
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَسْعَى فِي الْبَاقِي.
3- أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا، وَأَعْتَقَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَقَدْ خَيَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّرِيكَ الْآخَرَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْعِتْقُ، أَوْ تَضْمِينُ الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ، أَوِ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ.وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَبَيْنَ الِاسْتِسْعَاءِ فَقَطْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُنَا: لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ، وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ، وَقَوْلُهُمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» أَيْ لَا يُغْلِي عَلَيْهِ الثَّمَنُ.وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ مَعَ الْيَسَارِ يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى الْبَاقِي، وَيَغْرَمُ الْمُعْتِقُ قِيمَةَ حِصَّةِ الشُّرَكَاءِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا سِرَايَةَ وَلَا اسْتِسْعَاءَ.
4- وَيَقَعُ الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ دَبَّرَ، أَوْ أَوْصَى بِعَبِيدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ جُزْءٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَيُسْتَسْعَى فِي بَاقِيهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُعْتَقُ ثُلُثُهُمْ بِالِاقْتِرَاعِ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ عَتَقَ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُسْتَسْعَى دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، يُقَدِّرُهَا عَدْلٌ، وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ، وَقَالَ الْبَعْضُ: لَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْحُرِّ إِلاَّ بَعْدَ الْأَدَاءِ.وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْإِتْلَافِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5- الْكَلَامُ عَنِ الِاسْتِسْعَاءِ مَنْثُورٌ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَأَغْلَبُ ذِكْرِهِ مَعَ السِّرَايَةِ، وَفِي بَابِ (الْعَبْدُ يُعْتَقُ بَعْضُهُ) (وَالْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ) كَمَا يُذْكَرُ فِي الْكَفَّارَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
4-موسوعة الفقه الكويتية (إسراف 2)
إِسْرَافٌ -2الْإِسْرَافُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ
17- الْمَحْظُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَا مُنِعَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ شَرْعًا، وَيَشْمَلُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الْحَرَامَ وَالْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، فَالْمَحْظُورَاتُ بِهَذَا الْمَعْنَى هِيَ الْمَمْنُوعَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تُوجِبُ الْعِقَابَ.
وَارْتِكَابُ الْمُحَرَّمَاتِ يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ إِسْرَافًا، لِأَنَّهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ.يَقُولُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} الْإِسْرَافُ فِي كُلِّ شَيْءٍ الْإِفْرَاطُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الذُّنُوبُ الْعَظِيمَةُ الْكَبِيرَةُ.قَالَ أَبُو حَيَّانَ الْأَنْدَلُسِيُّ: (ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا) مُتَقَارِبَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَجَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.وَقِيلَ: الذُّنُوبُ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ.ثُمَّ إِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي ارْتِكَابِ الْمَمْنُوعِ تُوجِبُ تَشْدِيدَ الْعِقَابِ، فَالْعُقُوبَةُ بِقَدْرِ الْجَرِيمَةِ، كَمَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَإِدَامَتُهَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْكَبِيرَةِ فِي إِسْقَاطِ الْعَدَالَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ كَثُرَتْ صَغَائِرُهُ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا.
18- لَكِنْ هُنَاكَ حَالَاتٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ الْإِتْيَانُ بِالْمُحَرَّمِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يُسْرِفَ أَيْ لَا يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ وَذَلِكَ مِثْلُ:
أ- حَالَةِ الْإِكْرَاهِ: كَمَا إِذَا أَجْبَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَكْلِ أَوْ شُرْبِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا.
ب- حَالَةِ الِاضْطِرَارِ: كَمَا إِذَا وُجِدَ الشَّخْصُ فِي حَالَةٍ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلِ الْمُحَرَّمَ هَلَكَ، وَلَا تَكُونُ لِلْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى، كَحَالَةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ الشَّدِيدَيْنِ.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ يَجُوزُ اتِّفَاقًا- بَلْ يَجِبُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ- أَكْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يُسْرِفَ الْآكِلُ وَالشَّارِبُ، وَلَا يَتَجَاوَزُ الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُقَرَّرَةَ الَّتِي سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
وَتَتَّفِقُ حَالَةُ الْإِكْرَاهِ مَعَ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُمَا تَخْتَلِفَانِ فِي سَبَبِ الْفِعْلِ، فَفِي الْإِكْرَاهِ يَدْفَعُ الْمُكْرَهَ إِلَى إِتْيَانِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ شَخْصٌ آخَرُ وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْعَمَلِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَيُوجَدُ الْفَاعِلُ فِي ظُرُوفٍ تَقْتَضِي الْخُرُوجَ مِنْهَا، أَنْ يَرْتَكِبَ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ لِيُنْجِيَ نَفْسَهُ.وَبِهَذَا نَكْتَفِي بِذِكْرِ حُكْمِ الْإِسْرَافِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَقَطْ.
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ، وَلَوْ كَانَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ مَالَ الْغَيْرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لَكِنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَالَ الِاضْطِرَارِ مَحْدُودٌ بِحُدُودٍ لَا يَجُوزُ التَّجَاوُزُ عَنْهَا وَالْإِسْرَافُ فِيهَا، وَإِلاَّ يُعْتَبَرُ مُسِيئًا وَآثِمًا.
وَالْجُمْهُورُ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ مَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُهُ أَوْ شُرْبُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ هُوَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، فَمَنْ زَادَ عَنْ هَذَا الْمِقْدَارِ يُعْتَبَرُ مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ.فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ وَالتَّزَوُّدِ بِالْمُحَرَّمِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَيَّدَ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِقَوْلِهِ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، وَالْمُرَادُ أَلاَّ يَكُونَ الْمُضْطَرُّ بَاغِيًا فِي أَكْلِ الْمُحَرَّمِ تَلَذُّذًا، وَلَا مُتَعَدِّيًا بِالْحَدِّ الْمَشْرُوعِ، فَيَكُونُ مُسْرِفًا فِي الْأَكْلِ إِذَا تَنَاوَلَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمِقْدَارِ الَّذِي يُمْسِكُ الرَّمَقَ، فَمَتَى أَكَلَ بِمِقْدَارِ مَا يَزُولُ عَنْهُ الْخَوْفُ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْحَالِ فَقَدْ زَالَتِ الضَّرُورَةُ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ لِسَدِّ الْجَوْعَةِ، لِأَنَّ الْجُوعَ فِي الِابْتِلَاءِ لَا يُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ إِذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا يَتْرُكُهُ
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا، لِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ بِهِ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ، بَلِ الْمَالِكِيَّةُ جَوَّزُوا التَّزَوُّدَ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ، وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا، لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ مِمَّنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ، فَإِذَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا مَا شَاءَ، حَتَّى يَجِدَ غَيْرَهَا فَتَحْرُمَ عَلَيْهِ، وَجَوَازُ التَّزَوُّدِ لِلْمُضْطَرِّ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَالْأَكْلُ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ لَا يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ، كَمَا أَنَّ التَّزَوُّدَ مِنَ الْمَيْتَةِ لَا يُعَدُّ إِسْرَافًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ ر: (اضْطِرَار).
الْإِسْرَافُ فِي الْعُقُوبَةِ:
20- الْأَصْلُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ بِقَدْرِ الْجَرِيمَةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَلَا تَجُوزُ فِيهَا الزِّيَادَةُ وَالْإِسْرَافُ قَطْعًا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُعْتَبَرُ تَعَدِّيًا مَنْهِيًّا عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- الْإِسْرَافُ فِي الْقِصَاصِ:
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْإِسْرَافُ وَالزِّيَادَةُ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أَيْ لَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ فِيهِ، فَلَا يُقْتَلُ غَيْرُ قَاتِلِهِ، وَلَا يُمَثَّلُ بِالْقَاتِلِ كَعَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قُتِلَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ قَتَلُوا بِهِ جَمَاعَةً، وَإِذَا قَتَلَ مَنْ لَيْسَ شَرِيفًا لَمْ يَقْتُلُوهُ، وَقَتَلُوا بِهِ شَرِيفًا مِنْ قَوْمِهِ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ.
22- وَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى حَامِلٍ لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَإِذَا وَضَعَتْ لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَسْقِيَ وَلَدَهَا اللِّبَأَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ مَنْ يُرْضِعُهُ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا حَتَّى يَجِيءَ أَوَانُ فِطَامِهِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ عَمْدًا لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا، وَحَتَّى تُكْفِلَ وَلَدَهَا».وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْحَامِلِ قَتْلًا لِوَلَدِهَا، فَيَكُونُ إِسْرَافًا فِي الْقَتْلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}، وَلِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ مِنَ الْحَامِلِ قَتْلًا لِغَيْرِ الْجَانِي وَهُوَ مُحَرَّمٌ إِذْ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
23- وَنَشْتَرِطُ الْمُمَاثَلَةَ فِي قِصَاصِ الْأَعْضَاءِ فِي الْمَحَلِّ وَالْمِقْدَارِ وَالصِّفَةِ، بِأَلاَّ يَكُونَ الْعُضْوُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْعُضْوِ التَّالِفِ، وَإِلاَّ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَلَا تُؤْخَذُ يَدٌ صَحِيحَةٌ بِيَدٍ شَلاَّءَ، وَلَا رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِرِجْلٍ شَلاَّءَ، وَلَا تُؤْخَذُ يَدٌ كَامِلَةٌ بِيَدٍ نَاقِصَةٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فَوْقَ حَقِّهِ، وَلَوْ وَجَبَ لَهُ قِصَاصٌ فِي أُنْمُلَةٍ فَقَطَعَ أُنْمُلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَامِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الزِّيَادَةِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
24- وَلِكَيْ يُؤْمَنُ الْإِسْرَافُ وَالتَّعَدِّي، صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِلاَّ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، لِأَنَّهُ يُفْتَقَرُ إِلَى اجْتِهَادِهِ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْحَيْفُ مَعَ قَصْدِ التَّشَفِّي، وَيَلْزَمُ وَلِيَّ الْأَمْرِ تَفَقُّدُ آلَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْأَمْرُ بِضَبْطِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ فِي غَيْرِ النَّفْسِ، حَذَرًا مِنَ الزِّيَادَةِ وَاضْطِرَابِهِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْحَاكِمُ الْقَاتِلَ لِوَلِيِّ الدَّمِ لِيَقْتُلَهُ نَهَى الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالْقَاتِلِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ.
وَفِي قِصَاصِ الْأَطْرَافِ يُشْتَرَطُ إِمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا زِيَادَةٍ، بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، حَذَرًا مِنَ الْإِسْرَافِ.
وَلِأَنَّ الْجَرْحَ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا زِيَادَةٍ هُوَ كُلُّ جُرْحٍ يَنْتَهِي إِلَى عَظْمٍ كَالْمُوضِحَةِ، اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِيهَا الْقِصَاصَ، وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْقِصَاصِ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّهُ يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ، أَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْجُرُوحِ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالْحَيْفِ خَوْفًا مِنَ الْإِسْرَافِ، وَلَوْ زَادَ الْمُقْتَصُّ عَمْدًا فِي مُوضِحَةٍ عَلَى حَقِّهِ لَزِمَهُ قِصَاصُ الزِّيَادَةِ لِتَعَمُّدِهِ كَمَا نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاص).
ب- الْإِسْرَافُ فِي الْحُدُودِ:
25- الْحَدُّ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَاجِبَةٌ حَقًّا لِلَّهِ.وَالْمُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ: أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ وَمُحَدَّدَةٌ لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَحَدُّ مَنْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ أَوْ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَاحِدٌ.وَمَعْنَى أَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْعَفْوَ وَالْإِسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِبْدَالُ عُقُوبَةٍ أُخْرَى بِهَا، لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا التَّعَدِّي وَالْإِسْرَافِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَلِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْحَامِلِ، لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكُ الْجَنِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا إِسْرَافٌ بِلَا شَكٍّ.وَيُشْتَرَطُ فِي الْحُدُودِ الَّتِي عُقُوبَتُهَا الْجَلْدُ، كَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَالزِّنَى فِي حَالَةِ عَدَمِ الْإِحْصَانِ أَلاَّ يَكُونَ فِي الْجَلْدِ خَوْفُ الْهَلَاكِ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، وَيَكُونُ الضَّرْبُ وَسَطًا، لَا مُبَرِّحًا وَلَا خَفِيفًا، وَلَا يُجْمَعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِلَ، وَهِيَ الرَّأْسُ وَالْوَجْهُ وَالْفَرْجُ، لِمَا فِيهَا مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَلاَّدُ عَاقِلًا بَصِيرًا بِأَمْرِ الضَّرْبِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِلتَّحَرُّزِ عَنِ التَّعَدِّي وَالْإِسْرَافِ.
فَإِنْ أَتَى بِالْحَدِّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَإِسْرَافٍ لَا يَضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ بِالسَّلَامَةِ، أَمَّا إِذَا أَسْرَفَ وَزَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ الْمَحْدُودُ وَجَبَ الضَّمَانُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوَاضِعِهَا.
ج- الْإِسْرَافُ فِي التَّعْزِيرِ:
26- التَّعْزِيرُ هُوَ: التَّأْدِيبُ عَلَى ذُنُوبٍ لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا حَدٌّ وَلَا كَفَّارَةٌ.وَهُوَ عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَةِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ، فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ، وَمِقْدَارِ مَا يَنْزَجِرُ بِهِ الْجَانِي، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالْيَسِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِالْكَثِيرِ وَلِهَذَا قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ فِي الضَّرْبِ لِلتَّأْدِيبِ أَلاَّ يَكُونَ مُبَرِّحًا، وَلَا يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ، وَلَا عَلَى الْمَوَاضِعِ الْمَخُوفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ تَأْدِيبًا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيْرُ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الضَّرْبَ لَا يُفِيدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا لَمْ يَجُزِ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ، وَإِلاَّ كَانَ ضَامِنًا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الضَّرْبَ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، وَاَلَّذِي لَا يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ أَدَبًا، تَعَدٍّ وَإِسْرَافٌ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ.
27- أَمَّا إِذَا ضَرَبَ لِلتَّأْدِيبِ عَلَى النَّحْوِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ- كَمَا فَسَّرَهُ الرَّمْلِيُّ- بِأَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مُعْتَادًا كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا- كَمَا عَبَّرَ الطَّحْطَاوِيُّ- فَتَلِفَ، كَضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ لِنُشُوزِهَا، فَتَلِفَتْ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ، لَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَضْمَنُ عَنِ التَّلَفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ كَانَ الضَّرْبُ مُعْتَادًا، لِأَنَّ التَّأْدِيبَ حَقٌّ، وَاسْتِعْمَالُ الْحَقِّ يُقَيَّدُ بِالسَّلَامَةِ عِنْدَهُمَا، وَلَا يُقَيَّدُ بِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهَا.
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ (مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ) عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ لَا تَتَجَاوَزُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ».لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ حَدٌّ كَامِلٌ لِلرَّقِيقِ، فَإِذَا نَقَصَتْ سَوْطًا أَصْبَحَ الْحَدُّ الْأَعْلَى لِلتَّعْزِيرِ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا فِيمَا يَكُونُ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ نَقْلًا عَنِ الْقَاضِي: إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.وَيُفَوَّضُ مِقْدَارُهُ مُطْلَقًا- وَإِنْ زَائِدًا عَلَى الْحَدِّ- لِلْحَاكِمِ بِشَرْطِ أَلاَّ يَتَجَاوَزَ عَمَّا يَكْفِي لِزَجْرِ الْجَانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ رَأَى الْقَاضِي أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ، فَلَا يَجُوزُ الْإِسْرَافُ وَالزِّيَادَةُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَنْزَجِرُ بِهِ الْمُجْرِمُ فِي الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا.
الْحَجْرُ عَلَى الْمُسْرِفِ:
28- الْمُسْرِفُ فِي الْأَمْوَالِ يُعْتَبَرُ سَفِيهًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ يُبَذِّرُ الْأَمْوَالَ وَيُضَيِّعُهَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى السَّفَهِ عِنْدَهُمْ.
وَلِهَذَا جَرَى عَلَى لِسَانِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَالسَّفِيهُ هُوَ الْمُبَذِّرُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْإِسْرَافُ النَّاشِئُ عَنِ السَّفَهِ سَبَبٌ لِلْحَجْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الصَّاحِبَيْنِ: أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِسَبَبِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ.
وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَجْر).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
5-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 1)
إِسْقَاطٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْقَاطِ لُغَةً: الْإِيقَاعُ وَالْإِلْقَاءُ، يُقَالُ: سَقَطَ اسْمُهُ مِنَ الدِّيوَانِ: إِذَا وَقَعَ، وَأَسْقَطَتِ الْحَامِلُ: أَلْقَتِ الْجَنِينَ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ، أَيْ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ، أَوِ الْحَقِّ، لَا إِلَى مَالِكٍ وَلَا إِلَى مُسْتَحِقٍّ، وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، لِأَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى وَلَا يَنْتَقِلُ، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ وَبِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ: الْحَطُّ، إِذْ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ.وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي إِسْقَاطِ الْحَامِلِ الْجَنِينَ.وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (إِجْهَاضٌ).
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِبْرَاءُ:
2- الْإِبْرَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الدَّيْنِ إِسْقَاطًا مَحْضًا، أَمَّا مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا فَيَقُولُ: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ.وَتَوَسَّطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: هُوَ تَمْلِيكٌ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، إِسْقَاطٌ فِي حَقِّ الْمَدِينِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ لِبَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ لَا لِبَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهِهِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ.وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ.غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ أَعَمَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ يَقُولُ: الْإِسْقَاطُ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْإِبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ.
ب- الصُّلْحُ:
3- الصُّلْحُ اسْمٌ بِمَعْنَى: الْمُصَالَحَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالسِّلْمِ.
وَشَرْعًا: عَقْدٌ يَقْتَضِي قَطْعَ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.
وَيَجُوزُ فِي الصُّلْحِ إِسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ أَمْ سُكُوتٍ.فَإِذَا كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَخْذِ الْبَدَلِ فَالصُّلْحُ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَ إِسْقَاطًا، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.
ج- الْمُقَاصَّةُ:
4- يُقَالُ تَقَاصَّ الْقَوْمُ: إِذَا قَاصَّ كُلٌّ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي الْحِسَابِ، فَحَبَسَ عَنْهُ مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ.
وَالْمُقَاصَّةُ نَوْعٌ مِنَ الْإِسْقَاطِ، إِذْ هِيَ إِسْقَاطُ مَا لِلْإِنْسَانِ مِنْ دَيْنٍ عَلَى غَرِيمِهِ فِي مِثْلِ مَا عَلَيْهِ.فَهِيَ إِسْقَاطٌ بِعِوَضٍ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ الْمُطْلَقَ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْمُقَاصَّةُ أَخَصَّ مِنَ الْإِسْقَاطِ.وَلَهَا شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا.
د- الْعَفْوُ:
5- مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ: الْمَحْوُ وَالْإِسْقَاطُ وَتَرْكُ الْمُطَالَبَةِ، يُقَالُ: عَفَوْت عَنْ فُلَانٍ إِذَا تَرَكْتَ مُطَالَبَتَهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}.أَيِ التَّارِكِينَ مَظَالِمَهُمْ عِنْدَهُمْ لَا يُطَالِبُونَهُمْ بِهَا.فَالْعَفْوُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي تَرْكِ الْحَقِّ مُسَاوٍ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْعَفْوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَعَمُّ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالَاتِهِ.
هـ- التَّمْلِيكُ:
6- التَّمْلِيكُ: نَقْلُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْقُولُ عَيْنًا كَمَا فِي الْبَيْعِ، أَمْ مَنْفَعَةً كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ كَمَا سَبَقَ، أَمْ بِدُونِهِ كَالْهِبَةِ.وَالتَّمْلِيكُ بِعُمُومِهِ يُفَارِقُ الْإِسْقَاطَ بِعُمُومِهِ، إِذْ التَّمْلِيكُ إِزَالَةٌ وَنَقْلٌ إِلَى مَالِكٍ، فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ إِزَالَةٌ وَلَيْسَ نَقْلًا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ إِلَى مَالِكٍ، لَكِنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا، كَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ فِيهِ الْقَبُولَ.
صِفَةُ الْإِسْقَاطِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
7- الْإِسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ هُوَ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، دُونَ أَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ حَقًّا لِغَيْرِهِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى.فَيَكُونُ وَاجِبًا، كَتَرْكِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ الشُّفْعَةَ الَّتِي وَجَبَتْ لِلصَّغِيرِ، إِذَا كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي مَالِهِ بِمَا فِيهِ حَظٌّ وَغِبْطَةٌ لَهُ.وَكَالطَّلَاقِ الَّذِي يَرَاهُ الْحَكَمَانِ إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الرَّجُلِ إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَمْ يَفِئْ إِلَيْهَا.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ قُرْبَةً، كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، وَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ، وَالْعِتْقِ، وَالْكِتَابَةِ.وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّدْبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}.فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَفْوِ وَالتَّصَدُّقِ بِحَقِّ الْقِصَاصِ.وَفِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ إِنْظَارِهِ.، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْمَنْدُوبَ هُنَا وَهُوَ الْإِبْرَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْإِنْظَارُ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ طَلَاقُ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ، وَكَذَلِكَ عَفْوُ وَلِيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْقِصَاصِ مَجَّانًا.
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَالطَّلَاقِ بِدُونِ سَبَبٍ يَسْتَدْعِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ».
الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْقَاطِ:
8- تَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهِ لَا تَأْتِي عَفْوًا، بَلْ تَكُونُ لَهَا بَوَاعِثُ، قَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً، فَيَكُونُ التَّصَرُّفُ اسْتِجَابَةً لِأَوَامِرِ الشَّرْعِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ.
وَالْإِسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الْبَاعِثُ الشَّرْعِيُّ وَالشَّخْصِيُّ.
فَمِنَ الْبَوَاعِثِ الشَّرْعِيَّةِ:
الْعَمَلُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِكُلِّ النَّاسِ، وَذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي حَثَّ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ.
وَمِنْهَا: الْإِبْقَاءُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْقِصَاصِ مِمَّنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ.
وَمِنْهَا: مُعَاوَنَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُمْ إِنْ وُجِدَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: إِرَادَةُ نَفْعِ الْجَارِ، كَمَا فِي وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِذِكْرِهِ.
أَمَّا الْبَوَاعِثُ الشَّخْصِيَّةُ:
فَمِنْهَا: رَجَاءُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مِمَّا يَدْعُو الزَّوْجَةَ إِلَى إِبْرَاءِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ إِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ.
وَمِنْهَا: الْإِسْرَاعُ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ، إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي أَدَاءِ الْمَالِ الْمُكَاتَبِ، عَلَيْهِ، فَعَجَّلَ أَدَاءَ النُّجُومِ (الْأَقْسَاطِ)، فَإِنَّ السَّيِّدَ يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْمَالِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، حَتَّى لَوْ أَبَى السَّيِّدُ أَخْذَ الْمَالِ جَعَلَهُ الْإِمَامُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ.
وَمِنْهَا: الِانْتِفَاعُ الْمَادِّيُّ، كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ.
أَرْكَانُ الْإِسْقَاطِ
9- رُكْنُ الْإِسْقَاطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمُ: الطَّرَفَانِ- الْمُسْقِطُ وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَالْمُسْقَطُ عَنْهُ الَّذِي تَقَرَّرَ الْحَقُّ قِبَلَهُ- وَالْمَحَلُّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِسْقَاطُ.
الصِّيغَةُ:
10- مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ أَنَّ الصِّيغَةَ تَتَكَوَّنُ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَلُ بِعِوَضٍ كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ.وَفِي غَيْرِهَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَبُولِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الْإِيجَابُ فِي الصِّيغَةِ:
11- الْإِيجَابُ فِي الصِّيغَةِ، هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْقَاطِ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْقَوْلِ، مِنْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ سُكُوتٍ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ قَدْ مُيِّزَ بَعْضُهَا بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ تُعْرَفُ بِهَا، فَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنِ الرِّقِّ عِتْقٌ، وَعَنِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ طَلَاقٌ، وَعَنِ الْقِصَاصِ عَفْوٌ، وَعَنِ الدَّيْنِ إِبْرَاءٌ.
وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْإِسْقَاطَاتِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَرِيحَةً، أَمْ كِنَايَةً تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ.ر: (طَلَاق، عِتْق).
أَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهَا هُوَ الْإِسْقَاطُ.وَمَا بِمَعْنَاهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظًا مُتَعَدِّدَةً تُؤَدِّي مَعْنَى الْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ مِثْلُ: التَّرْكِ وَالْحَطِّ وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ وَالْإِبْرَاءِ فِي بَرَاءَةِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ وَالْإِحْلَالِ وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعَطِيَّةُ حِينَ لَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَتُهَا وَهِيَ التَّمْلِيكُ، وَيَكُونُ الْمَقَامُ دَالًّا عَلَى الْإِسْقَاطِ، فَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: مَنْ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ وَهَبَهُ لِمَدِينِهِ، أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ، أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ، أَوْ تَرَكَهُ لَهُ، أَوْ مَلَّكَهُ لَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ عَفَا عَنِ الدَّيْنِ، صَحَّ ذَلِكَ جَمِيعُهُ، وَكَانَ مُسْقِطًا لِلدَّيْنِ.وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الْإِبْرَاءِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ الْهِبَةِ.
وَكَمَا يَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ بِالْقَوْلِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ الْمُعَنْوَنَةِ الْمَرْسُومَةِ، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنْ فَاقِدِ النُّطْقِ.
كَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ بِالسُّكُوتِ، كَمَا إِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ، وَسَكَتَ مَعَ إِمْكَانِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ سُكُوتَهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ.
وَيَحْصُلُ الْإِسْقَاطُ أَيْضًا نَتِيجَةَ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، كَمَنْ يَشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَبِيعِ بِوَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ.
الْقَبُولُ:
12- الْأَصْلُ فِي الْإِسْقَاطِ أَنْ يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهُ، لِأَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا دَامَ لَمْ يَمَسَّ حَقَّ غَيْرِهِ.
وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاطَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّذِي لَمْ يُقَابَلْ بِعِوَضٍ، يَتِمُّ بِصُدُورِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، كَالطَّلَاقِ، فَلَا يَحْتَاجُ الطَّلَاقُ إِلَى قَبُولٍ.
13- وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاطَ الَّذِي يُقَابَلُ بِعِوَضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى قَبُولِ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَاوَضَةً، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى قَبُولِ دَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، إِذِ الْمُعَاوَضَةُ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ.
وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْقِسْمِ الصُّلْحَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْجَانِي، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّلْحُ.وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إِحْسَانِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ، فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ قَوْلٌ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، إِذَا أَرَادَ أَخْذَ الدِّيَةِ بَدَلَ الْقِصَاصِ، فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْجَانِي، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ».وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
14- وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ.وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِسْقَاطِ هُوَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَسَاسِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبَيِ الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، نَظَرُوا إِلَى جَانِبِ الْإِسْقَاطِ فِيهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ أَوْ بَعْضِهِ.وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالشُّفْعَةِ.بَلْ إِنَّ الْخَطِيبَ الشِّرْبِينِيَّ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ.
وَيَسْتَوِي عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، إِلاَّ مَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْهِبَةِ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ.جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: هِبَةُ الدَّيْنِ مِنَ الْكَفِيلِ لَا تَتِمُّ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَإِبْرَاؤُهُ يَتِمُّ بِدُونِ قَبُولٍ.
15- وَلَمَّا كَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مِمَّا يُشْعِرُ بِالتَّعَارُضِ مَعَ رَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ، فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى الْقَبُولِ فِيهِمَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِيهِمَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ لِحَقِّ الشَّارِعِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ، فَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْآخَرِ.
وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِبْرَاءَ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ- عَلَى رَأْيِهِمْ- نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْهِبَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُولُ.
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هِيَ تَرَفُّعُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ عَمَّا قَدْ يَحْدُثُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ مِنَّةٍ، وَمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنْ ضَرَرٍ بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَكَانَ لَهُمُ الرَّفْضُ شَرْعًا، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.
رَدُّ الْإِسْقَاطِ:
16- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّتِي لَمْ تُقَابَلْ بِعِوَضٍ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ لَا تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، وَبِالْإِسْقَاطِ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَالْحَقُّ، فَيَتَلَاشَى وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرَّدُّ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.وَلَا يَخْتَلِفُونَ كَذَلِكَ فِي أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَلُ بِعِوَضٍ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ مَا لَمْ يَسْبِقْ قَبُولٌ أَوْ طَلَبٌ.
17- أَمَّا مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، نَظَرًا لِجَانِبِ التَّمْلِيكِ فِيهِ، وَلِمَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ قَابِلِيَّتِهِ لِلرَّدِّ مِنْ ضَرَرِ الْمِنَّةِ الَّتِي يَتَرَفَّعُ عَنْهَا ذَوُو الْمُرُوءَاتِ.
18- هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ لِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:
أ- إِذَا أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.
ب- إِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ فَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَقِيلَ يَرْتَدُّ.
ج- إِذَا طَلَبَ الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ فَأَبْرَأَهُ الدَّائِنُ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
د- إِذَا قَبِلَ الْمَدِينُ الْإِبْرَاءَ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ خُرُوجًا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ وَالْكَفَالَةَ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ.
وَأَمَّا الْقَبُولُ إِذَا تَمَّ فَلَا مَعْنَى لِلرَّدِّ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْمَدِينِ الْبَرَاءَةَ يُعْتَبَرُ قَبُولًا.
19- وَمَعَ اتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مِنْ حَيْثُ تَقْيِيدُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هُمَا قَوْلَانِ.وَفِي الْفَتَاوَى الصَّيْرَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى افْتَرَقَا، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ رَدَّ لَا يَرْتَدُّ فِي الصَّحِيحِ.
التَّعْلِيقُ وَالتَّقْيِيدُ وَالْإِضَافَةُ فِي الْإِسْقَاطَاتِ:
20- التَّعْلِيقُ هُوَ رَبْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا، كَإِنْ وَإِذَا، وَانْعِقَادُ الْحُكْمِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ.
21- وَالتَّقْيِيدُ بِالشُّرُوطِ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَشُرِطَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا.
22- أَمَّا الْإِضَافَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَمْنَعُ سَبَبِيَّةَ اللَّفْظِ لِلْحُكْمِ إِلاَّ أَنَّهَا تَجْعَلُ الْحُكْمَ يَتَأَخَّرُ الْبَدْءُ بِهِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ يُحَدِّدُهُ الْمُتَصَرِّفُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِسْقَاطَاتِ هُوَ:
أَوَّلًا: تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطِ عَلَى الشَّرْطِ:
23- يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى الشَّرْطِ الْكَائِنِ بِالْفِعْلِ (أَيِ الْمَوْجُودِ حَالَةَ الْإِسْقَاطِ)، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْجَزِ، كَقَوْلِ الدَّائِنِ لِغَرِيمِهِ: إِنْ كَانَ لِي عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ، وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَالْأَرْضُ تَحْتَنَا، وَكَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: بَاعَنِي فُلَانٌ دَارَكَ بِكَذَا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَذَا فَقَدْ أَجَزْتُهُ، وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ اشْتَرَى هَذَا الشِّقْصَ بِكَذَا فَقَدْ أَسْقَطْتُ الشُّفْعَةَ.
كَذَلِكَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيقُ عَلَى مَوْتِ الْمُسْقِطِ، وَيُعْتَبَرُ وَصِيَّةً، كَقَوْلِهِ لِمَدِينِهِ: إِذَا مِتَّ فَأَنْتَ بَرِيءٌ.
وَهَذَا فِيمَا عَدَا مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ عَلَى مَوْتِهِ، إِذْ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ عَدَمِ وُقُوعِهِ.
أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ فَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْإِسْقَاطَاتِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا فِي الْجُمْلَةِ إِلَى الْآتِي:
24- (أ) إِسْقَاطَاتٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلَمْ تُقَابَلْ بِعِوَضٍ.وَهَذِهِ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ تَعْلِيقُهَا عَلَى الشَّرْطِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَضَعُوا هُنَا ضَابِطًا فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْإِسْقَاطَاتُ مِمَّا يُحْلَفُ بِهَا، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ مُلَائِمًا أَمْ غَيْرَ مُلَائِمٍ.وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُحْلَفُ بِهَا، كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ الْمُلَائِمِ فَقَطْ، وَهُوَ مَا يُؤَكِّدُ مُوجَبَ الْعَقْدِ.وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَحْيَانًا بِالشَّرْطِ الْمُتَعَارَفِ.وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ، فَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْمِعْرَاجِ: غَيْرُ الْمُلَائِمِ هُوَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلطَّالِبِ أَصْلًا، كَدُخُولِ الدَّارِ وَمَجِيءِ الْغَدِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ.وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ- بَعْدَ الْكَلَامِ عَنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي جَوَازِ تَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ- قَالَ: وَجْهُ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ، وَلَهُ تَعَامُلٌ، فَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِهِ صَحِيحٌ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذَا التَّقْسِيمِ، وَاَلَّذِي يَبْدُو مِمَّا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ عَلَى الشَّرْطِ مُطْلَقًا، دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ مَا يُحْلَفُ بِهِ وَمَا لَا يُحْلَفُ بِهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الضَّابِطُ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ: مَا كَانَ تَمْلِيكًا مَحْضًا لَا مَدْخَلَ لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ، وَمَا كَانَ حِلًّا مَحْضًا، يَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ قَطْعًا كَالْعِتْقِ، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ كَالْفَسْخِ وَالْإِبْرَاءِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى.وَقَدْ وَرَدَ الْكَثِيرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ عُلَيْشٍ الْمَالِكِيِّ، وَمِنْهَا: إِذَا طَلَبَتِ الْحَاضِنَةُ الِانْتِقَالَ بِالْأَوْلَادِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَقَالَ الْأَبُ: إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَنَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ عَلَيْكَ، لَزِمَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ لِلْأَبِ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ بِهِمْ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَأَسْقَطَ حَقَّهُ بِذَلِكَ.وَإِذَا قَالَ الشَّفِيعُ: إِنِ اشْتَرَيْتَ ذَلِكَ الشِّقْصَ فَقَدْ سَلَّمْتُ لَكَ شُفْعَتِي عَلَى دِينَارٍ تُعْطِينِي إِيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ مِنْكَ فَلَا جُعْلَ لِي عَلَيْكَ، جَازَ ذَلِكَ.
25- (ب) إِسْقَاطَاتٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، كَالْخُلْعِ وَالْمُكَاتَبَةِ.وَمَا يَلْحَقُ بِهِمَا مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ.
فَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ وَكَذَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ تَعْلِيقُهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُمَا إِسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِيهِمَا مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَأَمَّا الْخُلْعُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، بِاعْتِبَارِهِ طَلَاقًا، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهَا بِالشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَمَنَعَهَا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيِّ: الْمُعَاوَضَةُ غَيْرُ الْمَحْضَةِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْمَالُ فِيهَا مَقْصُودًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ (أَيْ كَالْمُكَاتَبَةِ) لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، إِلاَّ فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ.
26- (ج) الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ.وَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ عَلَى الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِالشَّرْطِ الْمُلَائِمِ أَوِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ.وَمَنَعَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَ صُوَرٍ يَجُوزُ فِيهَا التَّعْلِيقُ، وَهِيَ:
(1) لَوْ قَالَ: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ صَحَّ.
(2) تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ ضِمْنًا، كَمَا إِذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ، ثُمَّ كَاتَبَهُ فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِبْرَاءَ مِنَ النُّجُومِ (أَيِ الْأَقْسَاطِ).
(3) الْبَرَاءَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِمَوْتِ الْمُبَرِّئِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: تَقْيِيدُ الْإِسْقَاطِ بِالشَّرْطِ:
27- يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ تَقْيِيدُ الْإِسْقَاطَاتِ بِالشُّرُوطِ، فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا لَزِمَ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا يُعْتَبَرُ فَاسِدًا مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَهَلْ يَبْطُلُ التَّصَرُّفُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ، أَوْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ.وَنَتْرُكُ التَّفَاصِيلَ لِمَوَاضِعِهَا.
لَكِنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ أَنَّهَا لَوْ قُيِّدَتْ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، صَحَّ وَبَطَلَ الشَّرْطُ.
وَيَتَبَيَّنُ هَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الضَّوَابِطِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي أَوْرَدَهَا غَيْرُهُمْ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كُلُّ مَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ، الْفَاسِدِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: مَا لَيْسَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ وَابْنُ عَابِدِينَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ وَلَا تَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَمِنْهَا: الطَّلَاقُ وَالْخُلْعُ وَالْعِتْقُ وَالْإِيصَاءُ وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَرْبِطُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ مَا يَقْبَلُ الشَّرْطَ وَالتَّعْلِيقَ: الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ التَّعْلِيقِ قَبُولُ الشَّرْطِ، وَلَا مِنْ قَبُولِ الشَّرْطِ قَبُولُ التَّعْلِيقِ، وَتُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَهُمْ: لَوْ خَالَعَتْ زَوْجَهَا وَاشْتَرَطَتِ الرَّجْعَةَ، لَزِمَ الْخُلْعُ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ.وَلَوْ صَالَحَ الْجَانِي وَلِيَّ الدَّمِ عَلَى شَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَرْحَلَ مِنَ الْبَلَدِ، فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: الشَّرْطُ جَائِزٌ وَالصُّلْحُ لَازِمٌ، وَكَانَ سَحْنُونٌ يُعْجِبُهُ قَوْلُ الْمُغِيرَةِ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الشَّرْطُ الْفَاسِدُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ الْكِتَابَةُ وَالْخُلْعُ.
وَمِمَّا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ: إِذَا قُيِّدَ الْخُلْعُ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ صَحَّ الْخُلْعُ وَلَغَا الشَّرْطُ.وَفِي الْمُغْنِي: الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا تُبْطِلُهُمَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ.
ثَالِثًا: إِضَافَةُ الْإِسْقَاطِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ:
28- مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ تَمَّامِ الصِّيغَةِ، وَلَا تَقْبَلُ إِرْجَاءَ حُكْمِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ كَالزَّوَاجِ وَالْبَيْعِ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا تَكُونُ طَبِيعَتُهَا تَمْنَعُ ظُهُورَ أَثَرِهَا إِلاَّ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَالْوَصِيَّةِ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَقَعُ حُكْمُهُ مُنْجَزًا، كَالطَّلَاقِ تَنْتَهِي بِهِ الزَّوْجِيَّةُ فِي الْحَالِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ لَا تَنْتَهِي الزَّوْجِيَّةُ إِلاَّ عِنْدَ حُصُولِهِ.
وَإِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ مُنْجَزٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ أَضَافَهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ أَشْبَهُ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ.وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ: الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ وَإِسْقَاطُ الْقِصَاصِ.وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ أَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.هَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَيُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
مَنْ يَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ (الْمُسْقِطُ):
29- الْإِسْقَاطُ قَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ أَسَاسًا، كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِي مُبَاشَرَتِهَا مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَكَإِسْقَاطِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهَا شُبْهَةٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْقَاطُ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ نَتِيجَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ كَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ مِنَ الدَّيْنِ، وَكَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الشِّرَاءِ.عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ.
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ:
30- الْإِسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَنَازَلُ فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ، فَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ تَبَرُّعٌ.وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمُسْقِطِ بِالضَّرَرِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّبَرُّعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا.فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ مِنَ الصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ عِوَضٍ لَهُ.
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَأَنْ يُخَالِعَ، لَكِنْ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمَالُ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ مِنَ الزَّوْجَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ، وَلَا عَلَى الْمَدِينِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.ر: (حَجْر، وَسَفَه، وَأَهْلِيَّة).
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَا إِرَادَةٍ، فَلَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْمُكْرَهِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صِحَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ مِنَ الْمُكْرَهِ.وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِ الْمُلْجِئِ.وَيُنْظَرُ فِي (إِكْرَاهٌ).
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، إِذَا كَانَ إِسْقَاطُهُ لِكُلِّ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَقْتَ الْإِسْقَاطِ فَتَصَرُّفُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ، أَوْ بِأَقَلَّ لِلْوَارِثِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.ر: (وَصِيَّة).
وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ.وَفِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (فُضُولِيّ).
وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوَكَالَةِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَأْذُونِ بِهِ لِلْوَكِيلِ.وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْخُلْعِ، وَبِالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَبِالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَفِي إِبْرَاءٍ مِنَ الدَّيْنِ وَلَوْ لِلْوَكِيلِ، إِذَا عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ وَقَالَ لَهُ: أَبْرِئْ نَفْسَكَ.وَيُرَاعَى فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَمَا أُذِنَ فِيهِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (وَكَالَة).
وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلصَّغِيرِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّبَرُّعُ وَلَا إِسْقَاطُ الْمَهْرِ وَلَا الْعَفْوُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَلَا تَرْكُ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (ر: وِصَايَة وِلَايَة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
6-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 2)
إِسْقَاطٌ -2الْمُسْقَطُ عَنْهُ:
31- الْمُسْقَطُ عَنْهُ هُوَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَوْ تَقَرَّرَ قِبَلَهُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فِي الْجُمْلَةِ.هَذَا، وَأَغْلَبُ الْإِسْقَاطَاتِ يَكُونُ الْمُسْقَطُ عَنْهُ أَوْ لَهُ مَعْرُوفًا، كَمَا فِي الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْخِيَارِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا نَتَصَوَّرُ الْجَهَالَةَ فِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ وَفِي الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
أَمَّا الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَرَّأُ مَعْلُومًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ شَخْصًا أَوْ رَجُلًا مِمَّا لِي قِبَلَهُ لَا يَصِحُّ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ أَحَدَ غَرِيمَيَّ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُ أَهَالِي الْمَحَلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ مُعَيَّنِينَ، وَعِبَارَةً عَنْ أَشْخَاصٍ مَعْدُودِينَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ.
كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلَوْ أُبْرِئَ غَيْرُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا يَصِحُّ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا أُبْرِئَ قَاتِلٌ مِنْ دِيَةٍ وَاجِبَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ فِي ذَلِكَ، لِوُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.أَمَّا لَوْ أُبْرِئَتْ عَاقِلَةُ الْقَاتِلِ، أَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: عَفَوْتُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يُسَمِّ الْمُبَرَّأَ مِنْ قَاتِلٍ أَوْ عَاقِلَةٍ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، لِانْصِرَافِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَرَّأُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، حَيْثُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْإِنْكَارِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي غَيْرِ الدَّيْنِ مِمَّا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُ بِتَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا تُطَلَّقَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمِصْرِيِّينَ، وَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ: يَخْتَارُ وَاحِدَةً لِلطَّلَاقِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا.
مَحَلُّ الْإِسْقَاطِ:
32- الْمَحَلُّ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ يُسَمَّى حَقًّا، وَهُوَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ يَشْمَلُ الْأَعْيَانَ، وَمَنَافِعَهَا، وَالدُّيُونَ، وَالْحُقُوقَ الْمُطْلَقَةَ.
وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ- بِهَذَا الْإِطْلَاقِ الْعَامِّ- يُصْبِحُ لَهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عَنْهُ إِلاَّ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَيُمْنَعُ عَنِ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ.
وَالْإِسْقَاطُ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَحَلٍّ قَابِلًا لِلْإِسْقَاطِ، بَلْ مِنْهُ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ لِتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقْبَلُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شُرُوطِهِ، كَكَوْنِهِ مَجْهُولًا، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ وَهَكَذَا.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ
أَوَّلًا- الدَّيْنُ:
33- يَصِحُّ بِاتِّفَاقٍ إِسْقَاطُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْحُقُوقُ تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، فَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ، أَمْ نَفَقَةً مَفْرُوضَةً مَاضِيَةً لِلزَّوْجَةِ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُهُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْإِسْقَاطُ خَاصًّا بِدَيْنٍ أَمْ عَامًّا لِكُلِّ الدَّيْنِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَمْ مُعَلَّقًا أَمْ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.وَكَمَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَعْضِهِ.
وَكَمَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِدُونِ عِوَضٍ، يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ نَظِيرَ عِوَضٍ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الصُّورَةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا ذَلِكَ، وَمِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ:
أ- أَنْ يُعْطِيَ الْمَدِينُ الدَّائِنَ ثَوْبًا فِي مُقَابَلَةِ إِبْرَائِهِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَمْلِكُ الدَّائِنُ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لَهُ نَظِيرَ الْإِبْرَاءِ وَيُبَرَّأُ الْمَدِينُ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.
ب- يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَيْهَا بِدَيْنِهِ مَكَانَ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهِ شَاءَ، وَهَذَا مِنْ مَالِهِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيلِ الْمُقَاصَّةِ، وَالْمُقَاصَّةُ بِالتَّرَاضِي تُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا بِعِوَضٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِهَا مِنَ اتِّحَادِ الدَّيْنِ قَدْرًا وَوَصْفًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ.
ج- كَذَلِكَ يَأْتِي إِسْقَاطُ الدَّيْنِ نَظِيرَ عِوَضِ صُورَةِ الصُّلْحِ.وَقَدْ قَسَّمَ الْقَرَافِيُّ الْإِسْقَاطَ إِلَى قِسْمَيْنِ: بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ، وَجَعَلَ مِنَ الْإِسْقَاطِ بِعِوَضٍ الصُّلْحَ عَنَ الدَّيْنِ.
د- فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِيُطَلِّقَهَا، صَحَّ الْإِبْرَاءُ، وَيَكُونُ بِعِوَضٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا.
هـ- وَقَدْ يَأْتِي إِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِعِوَضٍ فِي صُوَرِ التَّعْلِيقِ، كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي سَيَّارَتَكَ أَسْقَطْتُ عَنْكَ الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَيْكَ.
و- وَالْإِبْرَاءُ أَيْضًا فِي صُورَةِ الْخُلْعِ يُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيلِ الْعِوَضِ.
ثَانِيًا: الْعَيْنُ
34- الْأَصْلُ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ التَّصَرُّفَاتِ تُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ.وَذَلِكَ كَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ عَيْنٌ.وَالْعِتْقُ مَشْرُوعٌ بَلْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ.كَذَلِكَ الْوَقْفُ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَفِي قَوَاعِدِ الْمُقْرِي: وَقْفُ الْمَسَاجِدِ إِسْقَاطُ مِلْكٍ إِجْمَاعًا، وَفِي غَيْرِهَا قَوْلَانِ.
وَقَدْ يَأْتِي إِسْقَاطُ الْعَيْنِ نَظِيرَ عِوَضٍ عَمَّنْ عَقَدَ الصُّلْحَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ إِقْرَارٍ، أَمْ عَنْ إِنْكَارٍ، أَمْ سُكُوتٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةُ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءُ الْيَمِينِ وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ.بَلْ إِنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ أَجَازَ الصُّلْحَ عَمَّا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِمَالٍ لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى ضَيَاعِ الْمَالِ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يُجِيزُونَ الصُّلْحَ عَنْ إِنْكَارٍ.
وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ اُعْتُبِرَ كَالْبَيْعِ، إِنْ كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، أَوْ كَالْإِجَارَةِ إِنْ كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، أَوْ كَالْهِبَةِ إِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الْعَيْنِ.وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ حَالٍ شُرُوطُهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (صُلْح).
ثَالِثًا: الْمَنْفَعَةُ:
35- الْمَنَافِعُ حُقُوقٌ تَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ نَتِيجَةَ مِلْكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، أَمْ كَانَتْ نَتِيجَةَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ (أَيِ الْعَيْنِ) بِمُقْتَضَى عَقْدٍ، كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ، أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ، كَتَحْجِيرِ الْمَوَاتِ لِإِحْيَائِهِ، وَالِاخْتِصَاصِ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.
وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ أَنَّهَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِإِسْقَاطِ مَالِكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا أَوْ مُسْتَحِقِّ مَنْفَعَتِهَا، إِذْ كُلُّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.وَصُوَرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا:
أ- مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ، فَمَاتَ الْمُوصِي، وَبَاعَ الْوَارِثُ الدَّارَ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُوصَى لَهُ، جَازَ الْبَيْعُ وَبَطَلَتْ سُكْنَاهُ.
ب- مَنْ وَصَّى بِعَيْنِ دَارٍ لِزَيْدٍ، وَبِالْمَنْفَعَةِ لِعَمْرٍو، فَأَسْقَطَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ حَقَّهُ، سَقَطَ بِالْإِسْقَاطِ.
ج- مَنْ كَانَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي دَارِ غَيْرِهِ، فَقَالَ: أَبْطَلْتُ حَقِّي فِي الْمَسِيلِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ دُونَ الرَّقَبَةِ بَطَلَ حَقُّهُ قِيَاسًا عَلَى حَقِّ السُّكْنَى.
د- يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِي الِانْتِفَاعِ بِبُيُوتِ الْمَدَارِسِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَسْقَطَهُ صَاحِبُهُ.فَإِنْ أَسْقَطَهُ مُدَّةً مَخْصُوصَةً رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَائِهَا، وَإِنْ أَطْلَقَ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَا يَعُودُ لَهُ.
هـ- أَمَاكِنُ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهَا.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمَنَافِعِ بِدُونِ عِوَضٍ.
36- أَمَّا إِسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَمِلْكِ الِانْتِفَاعِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ مَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا، وَمَنْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ فَلَيْسَ لَهُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ، أَمْ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ
وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَإِنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنِ الْمَنَافِعِ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ إِلاَّ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَوْ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ.وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ عِنْدَهُمْ.وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِفْرَادُ حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبَعًا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَة، ارْتِفَاق، إِعَارَة، وَصِيَّة، وَقْف).
37- وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ: مَا لَوْ صَالَحَ الْوَرَثَةُ مَنْ أَوْصَى لَهُ مُوَرِّثُهُمْ بِسُكْنَى دَارٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ التَّرِكَةِ بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ جَازَ ذَلِكَ صُلْحًا، لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِعَيْنِ الدَّارِ صَالَحَ الْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَاهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى لِتَسَلُّمِ الدَّارِ لَهُ جَازَ.
رَابِعًا: الْحَقُّ الْمُطْلَقُ
38- يَنْقَسِمُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَى الْآتِي:
حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ، أَوْ هُوَ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.
وَحَقٌّ خَالِصٌ لِلْعِبَادِ، وَهُوَ مَصَالِحُهُمُ الْمُقَرَّرَةُ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ.
وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
وَإِفْرَادُ نَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ بِجَعْلِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَقَطْ، إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَسْلِيطِ الْعَبْدِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِحَيْثُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ (حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ) مَوْكُولٌ لِمَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ ثُبُوتًا وَإِسْقَاطًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
39- ذِكْرُ حَقِّ اللَّهِ هُنَا فِيمَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ لِلْإِسْقَاطِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، أَمَّا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَحُقُوقُ اللَّهِ: إِمَّا عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ مَالِيَّةٌ كَالزَّكَاةِ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ كَالصَّلَاةِ، أَوْ جَامِعَةٌ لِلْبَدَنِ وَالْمَالِ كَالْحَجِّ.وَإِمَّا عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْحُدُودِ.وَإِمَّا كَفَّارَاتٌ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ.
وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَبِلَ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى فَيَسْقُطَ الْحَدُّ، بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ.
وَبِإِيجَازٍ نَذْكُرُ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِإِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ كَمَا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ:
40- حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ فِي الْجُمْلَةِ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّرْعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ، تَفَضُّلًا مِنْهُ، وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ، وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ، كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَكَإِسْقَاطِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ، لِمَا يَنَالُهُمْ مِنْ مَشَقَّةٍ.وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْمَشَاقَّ وَأَنْوَاعَهَا، وَبَيَّنُوا لِكُلِّ عِبَادَةٍ مَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً مِنْ مَشَاقِّهَا الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِسْقَاطِهَا، وَأَدْرَجُوا ذَلِكَ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَالْحُكْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْأَعْذَارِ يُسَمَّى رُخْصَةً.وَمِنْ أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ مَا يُسَمَّى رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ، كَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَإِسْقَاطِ الصَّوْمِ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَيْهِ.
وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ قَصْرًا فَرْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَتُعْتَبَرُ رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إِسْقَاطٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ الَّذِي تَلْزَمُ طَاعَتُهُ أَوْلَى.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ لِلتَّرْفِيهِ عَنِ الْعَبْدِ.
كَذَلِكَ يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَمَّنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ، إِذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ، بَلْ إِنَّ الْقَرَافِيَّ يَقُولُ: يَكْفِي فِي سُقُوطِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ ظَنُّ الْفِعْلِ، لَا وُقُوعُهُ تَحْقِيقًا.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِسْقَاطُ الْحُرْمَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ لِلضَّرُورَةِ، كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ، وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ بِهَا، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.وَيَسْرِي هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَمِنَ الرُّخْصَةِ مَا سَقَطَ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي السَّلَمِ، لِقَوْلِ الرَّاوِي: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ».وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا، وَهَذَا حُكْمٌ مَشْرُوعٌ، لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي السَّلَمِ.
وَمِنَ التَّخْفِيفِ: مَشْرُوعِيَّةُ الطَّلَاقِ، لِمَا فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عِنْدَ التَّنَافُرِ، وَكَذَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخُلْعِ وَالِافْتِدَاءِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْكِتَابَةِ لِيَتَخَلَّصَ الْعَبْدُ مِنْ دَوَامِ الرِّقِّ.وَكُلُّ ذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي أَبْوَابِهِ الْخَاصَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي بَابَيِ: الرُّخْصَةِ وَالْأَهْلِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ.
حُقُوقُ الْعِبَادِ
41- الْمَقْصُودُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ هُنَا، مَا عَدَا الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَالدُّيُونِ، وَذَلِكَ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْخِيَارِ.وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا أَسْقَطَهُ- وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ- سَقَطَ.
فَالشَّفِيعُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَإِذَا أَسْقَطَ هَذَا الْحَقَّ وَتَرَكَ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ سَقَطَ حَقُّهُ، وَوَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، فَإِذَا عَفَا وَأَسْقَطَ هَذَا الْحَقَّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْغَانِمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَيَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي كَانَ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ مِنْهُمَا هَذَا الْحَقُّ أَنْ يُسْقِطَهُ.وَهَكَذَا مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ حَقٌّ، وَهُوَ جَائِزُ التَّصَرُّفِ، كَانَ مِنْ حَقِّهِ إِسْقَاطُهُ، إِلاَّ لِمَانِعٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ بِدُونِ عِوَضٍ، أَمَّا إِسْقَاطُهَا نَظِيرَ عِوَضٍ فَبَيَانُهُ كَالْآتِي:
42- فَرَّقَ الْكَثِيرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَمَا لَا يَجُوزُ بِقَاعِدَةٍ هِيَ: أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مُتَقَرِّرًا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ صَحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.
وَفَرَّقَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى هِيَ: أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَتْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لَهُ أَصَالَةً، فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.
وَمَنْ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ، فَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ بِمَالٍ بَطَلَتْ وَرَجَعَ بِهِ، وَلَوْ صَالَحَ الْمُخَيَّرَةَ بِمَالٍ لِتَخْتَارَهُ بَطَلَ وَلَا شَيْءَ لَهَا، وَلَوْ صَالَحَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ بِمَالٍ لِتَتْرُكَ نَوْبَتَهَا لَمْ يَلْزَمْ، وَلَا شَيْءَ لَهَا.هَكَذَا ذَكَرُوهُ فِي الشُّفْعَةِ.وَخَرَجَ عَنْهَا حَقُّ الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ، وَحَقُّ الرِّقِّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا.وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إِذَا صَالَحَ الْمَكْفُولَ لَهُ بِمَالٍ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَجِبْ، وَفِي بُطْلَانِهَا رِوَايَتَانِ.
وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ نَفْسَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْأَشْبَاهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ وَحَقِّ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ لِلْمُخَيَّرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَالْمَرْأَةِ، وَمَا ثَبَتَ لِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَمَّا رَضِيَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.أَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ وَحَقُّ الرِّقِّ فَقَدْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَصَالَةً، لَا عَلَى وَجْهِ رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِهِ.وَسَارَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الْمَحَلِّ أَصَالَةً.
أَمَّا الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى قَاعِدَةٍ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا وَاَلَّتِي لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَسَائِلِ فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالْحَضَانَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْخِيَارِ فِي الْعُقُودِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ سَنَكْتَفِي بِذِكْرِ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ.وَالْجُمْهُورُ أَحْيَانًا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي سَبَبِ الِاعْتِيَاضِ، وَأَحْيَانًا يَخْتَلِفُونَ عَنْهُمْ.وَسَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ.
أ- الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ، هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَيُوَافِقُهُمْ فِي الْحُكْمِ وَفِي الْعِلَّةِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.فِي حِينِ أَجَازَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِذَا كَانَ الِاعْتِيَاضُ، مِنَ الْمُشْتَرِي لَا مِنْ غَيْرِهِ.
ب- هِبَةُ الزَّوْجَةِ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا، لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ عَيْنًا وَلَا مَنْفَعَةً فَلَا يُقَابَلُ بِمَالٍ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الزَّوْجَةَ مِنْ حَقِّهَا كَوْنُ الزَّوْجِ عِنْدَهَا، وَهُوَ لَا يُقَابَلُ بِمَالٍ.وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ.وَالْمَالِكِيَّةُ أَجَازُوا الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّهَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ أَوْ عَنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ.
ج- إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْحَقُّ فِي الِاعْتِيَاضِ عَنِ الْعَيْبِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الرِّضَى بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِمُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ الْخِيَارَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَبَيْنَ الرَّدِّ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ إِمْسَاكُ الْمَبِيعِ وَالِاعْتِيَاضُ عَنِ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، وَيُخَالِفُ الْمُصَرَّاةُ، لِأَنَّ الْخِيَارَ لَهُ بِالتَّدْلِيسِ، وَكَذَلِكَ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
د- الْقِصَاصُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
هـ- يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الدَّعْوَى، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالشِّرْبِ، إِلاَّ مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَدَعْوَى الْحَدِّ وَالنَّسَبِ، وَلِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الدَّعْوَى لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ، وَهُوَ جَائِزٌ.
و- يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ التَّعْزِيرِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ الَّذِي فِيهِ حَقُّ اللَّهِ كَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الصُّلْحِ فِيهِ.
ز- يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَقُّ الْحَاضِنِ.
ح- يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَنَكْتَفِي بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ، إِذْ مِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ الْحُقُوقِ الَّتِي يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَسَائِلِ فِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ
أ- الْعَيْنُ:
43- الْعَيْنُ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مُطْلَقًا، جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، كَالْعُرُوضِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالْعَقَارِ مِنَ الْأَرَضِينَ وَالدُّورِ، وَالْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.
وَمَالِكُ الْعَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالنَّقْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ.أَمَّا التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْإِسْقَاطِ- أَيْ رَفْعُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ مَثَلًا: أَسْقَطْتُ مِلْكِي فِي هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، يُرِيدُ بِذَلِكَ زَوَالَ مِلْكِهِ وَثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ- فَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَا يُفِيدُ زَوَالَ مِلْكِ الْمُسْقِطِ عَنِ الْعَيْنِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهَا لِلْمُسْقَطِ لَهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ.إِلاَّ مَا وَرَدَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِتْقِ وَالْوَقْفِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
44- لَكِنْ لَوْ حَدَثَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْمَالِكِ، وَكَانَتِ الْعَيْنُ تَحْتَ يَدِ الْمُسْقَطِ لَهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ مَغْصُوبَةً هَالِكَةً صَحَّ الْإِسْقَاطُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إِسْقَاطًا لِقِيمَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَصَارَ إِسْقَاطًا لِلدَّيْنِ، وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ صَحِيحٌ.
وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، فَمَعْنَى إِسْقَاطِهَا إِسْقَاطُ ضَمَانِهَا لَوْ هَلَكَتْ، وَتَصِيرُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْنِهَا كَالْأَمَانَةِ، لَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي.وَقَالَ زُفَرُ- رحمه الله-: لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَتَبْقَى مَضْمُونَةً.
وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ أَمَانَةً، فَالْبَرَاءَةُ عَنْهَا لَا تَصِحُّ دِيَانَةً، بِمَعْنَى أَنَّ مَالِكَهَا إِذَا ظَفِرَ بِهَا أَخَذَهَا.وَتَصِحُّ قَضَاءً، فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي دَعْوَاهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ.وَقَدْ قَالُوا: الْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ دِيَانَةً لَا قَضَاءً.وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَكُونُ مِلْكًا لَهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَإِنَّمَا الْإِبْرَاءُ عَنْهَا صَحِيحٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْأَمَانَةِ.وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُعَيَّنَاتِ يَسْقُطُ بِهَا الطَّلَبُ بِقِيمَتِهَا إِذَا فَاتَتْ، وَالطَّلَبُ بِرَفْعِ الْيَدِ عَنْهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً.وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْمَازِرِيِّ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَشْمَلُ الْأَمَانَاتِ وَهِيَ مُعَيَّنَاتٌ (وَهَذَا فِي الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ).كَذَلِكَ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْإِسْقَاطَ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْإِبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ.
ب- الْحَقُّ:
ذُكِرَ فِيمَا سَبَقَ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ أَمْ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْهُمَا.
مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:
45- الْأَصْلُ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ لِاعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ، كَالتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ عَلَى مَا سَبَقَ.فَحَقُّ اللَّهِ الْخَالِصُ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَمِنَ الْعُقُوبَاتِ كَحَدِّ الزِّنَى وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِلْعَبْدِ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ كَحَقِّ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ، حَقُّ اللَّهِ هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ إِسْقَاطُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ مَنْ حَاوَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- بِمَانِعِي الزَّكَاةِ.حَتَّى إِنَّ السُّنَنَ الَّتِي فِيهَا إِظْهَارُ الدِّينِ، وَتُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِهِ، كَالْأَذَانِ، لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ.
46- كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ، كَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ، فَشَرِبَ خَمْرًا أَوْ دَوَاءً مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا- وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ- كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.وَكَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ، فَوَهَبَهُ كَيْلَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ.
47- وَتَحْرُمُ الشَّفَاعَةُ لِإِسْقَاطِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.وَفِي السَّرِقَةِ كَذَلِكَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْحَدَّ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِسَارِقٍ قَدْ سَرَقَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا نَرَاكَ تَبْلُغُ بِهِ هَذَا، قَالَ: لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لأَقَمْتُ عَلَيْهَا الْحَدَّ».وَرَوَى عُرْوَةُ قَالَ: شَفَعَ الزُّبَيْرُ فِي سَارِقٍ فَقِيلَ: حَتَّى يَأْتِيَ السُّلْطَانُ، قَالَ: إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِصَفْوَانَ، حِينَ تَصَدَّقَ عَلَى السَّارِقِ: «فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْإِمَامَ، فَأَمَّا قَبْلَ بُلُوغِهِ الْإِمَامَ فَقَدْ أَجَازَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْفَعْ فِيهِ.
48- وَيُلَاحَظُ أَنَّ السَّرِقَةَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ فِيهَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ، إِلاَّ أَنَّ الْجَانِبَ الشَّخْصِيَّ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ نَاحِيَةَ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَالِ.أَمَّا الْحَدُّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ.لَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ- غَيْرُ زُفَرَ، وَرِوَايَةٌ لِأَبِي يُوسُفَ- لَوْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ لِلسَّارِقِ سَقَطَ الْحَدُّ.
وَالْقَذْفُ مِمَّا يَجْتَمِعُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِيهِ (أَيِ الْإِسْقَاطُ) قَبْلَ التَّرَافُعِ وَبَعْدَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الرَّفْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْعَفْوَ بَعْدَ التَّرَافُعِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ يُرِيدُ السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ.وَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا الْقَيْدُ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ.وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ كَذَلِكَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْإِمَامِ.
وَأَمَّا التَّعْزِيرُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ جَازَ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ.
وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَتُهُ إِذَا كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ.وَعَنِ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ فَيَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ.
49- وَمَا دَامَتْ حُدُودُ اللَّهِ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْعِبَادِ، فَبِالتَّالِي لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ سَارِقًا أَوْ شَارِبًا لِيُطْلِقَهُ وَلَا يَرْفَعَهُ لِلسُّلْطَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ.وَكَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ شَاهِدًا عَلَى أَلاَّ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسَبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَاطِلٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَهُنَاكَ أَيْضًا مَا يُعْتَبَرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِمَّا شُرِعَ أَصْلًا لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُنَافَاةِ الْإِسْقَاطِ لِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ:
50- مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِصَاحِبِهَا، وِلَايَةُ الْأَبِ عَلَى الصَّغِيرِ، فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، فَحَقُّهُ ثَابِتٌ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، فَهِيَ حَقٌّ عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
أَمَّا غَيْرُ الْأَبِ كَالْوَصِيِّ فَفِيهِ خِلَافٌ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ قَبِلَ الْوِصَايَةَ، وَمَاتَ الْمُوصِي، فَلَا يَجُوزُ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ لِثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ لَهُ.وَلِأَنَّهَا وِلَايَةٌ فَلَا تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُسْقِطَ الْوَصِيُّ حَقَّهُ، وَلَوْ بَعْدَ قَبُولِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ، فَكَانَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْوِلَايَاتِ، كَالْقَاضِي وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، فِي مُصْطَلَحِ (وِلَايَة).
السُّكْنَى فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ:
51- أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ أَوِ الْمَوْتِ، وَالْبَيْتِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا فِي قوله تعالى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تَسْكُنُهُ.وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ إِخْرَاجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ مَسْكَنِهَا.وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِخْرَاجُهَا أَوْ خُرُوجُهَا مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ مُنَافٍ لِلْمَشْرُوعِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ قَرَارُهَا فِي مَسْكَنِ الْعِدَّةِ، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: «لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى».وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهَا ذَلِكَ، خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ ر: (عِدَّة، سُكْنَى).
خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
52- بَيْعُ الشَّيْءِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُشْتَرِي، فَلَهُ الْأَخْذُ وَلَهُ الرَّدُّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ» فَالْخِيَارُ هُنَا لَيْسَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّيْءِ الْغَائِبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ.
وَلَوْ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ تَبَايَعَا بِشَرْطِ إِسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ الشَّرْطُ مَعَ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (بَيْع، خِيَار).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
7-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 3)
إِسْقَاطٌ -3حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:
53- حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا- وَهِيَ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- حَقٌّ ثَابِتٌ شَرْعًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلاَّ الْوَالِدَ بِمَا يُعْطِي وَلَدَهُ».وَهَذَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.قَالُوا: وَالْعِوَضُ فِيمَا وُهِبَ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ هُوَ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَلَ.
وَمَا دَامَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ- فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ- ثَابِتًا شَرْعًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الرُّجُوعَ حَقُّهُ، وَهُوَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، إِلاَّ إِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا، أَوْ شَرَطَ عَدَمَ الِاعْتِصَارِ (أَيِ الرُّجُوعِ)، فَلَا رُجُوعَ لَهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَة).
مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
سَبَقَ أَنَّ كُلَّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ اتِّفَاقًا أَوْ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، إِمَّا لِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَلِّ، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْإِسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ:
54- الْإِسْقَاطُ إِذَا كَانَ مَسَّ حَقًّا لِغَيْرِ مَنْ يُبَاشِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَيْرِ كَحَقِّ الصَّغِيرِ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ كَالْوَارِثِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي: حَقُّ الْحَضَانَةِ:
55- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- أَنَّ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِإِسْقَاطِهِ، وَيَنْتَقِلَ الْحَقُّ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ وَلَمْ يُوجَدْ حَاضِنٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ الْحَاضِنُ فَطَلَبَ الْحَضَانَةَ عَادَ الْحَقُّ إِلَيْهِ.
وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّ الْحَاضِنَةَ إِذَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، بَعْدَ وُجُوبِهَا لَهَا، ثُمَّ أَرَادَتِ الْعَوْدَ فَلَا تَعُودُ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (حَضَانَة).
نَسَبُ الصَّغِيرِ:
56- النَّسَبُ حَقُّ الصَّغِيرِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، فَمَنْ أَقَرَّ بِابْنٍ، أَوْ هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ، أَوْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ إِمْكَانِ النَّفْيِ فَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ إِسْقَاطُ نَسَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا.
عَزْلُ الْوَكِيلِ:
57- الْأَصْلُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَجُوزُ لَهُ عَزْلُ الْوَكِيلِ مَتَى شَاءَ، لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، لَكِنْ لَوْ تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ، لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إِبْطَالُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ كَالْوَكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَجُوزُ عَزْلُهُ مَا دَامَتِ الْخُصُومَةُ مُسْتَمِرَّةً.وَكَالْعَدْلِ الْمُتَسَلِّطِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ.وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ فِي شُرُوطِ الْعَزْلِ وَشُرُوطِ الْوَكَالَةِ فِي الْخُصُومَةِ، وَتُنْظَرُ فِي: (وَكَالَة، رَهْن).
تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ:
58- الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ، يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا مُسْتَأْنَفًا، كَوَقْفٍ، وَعِتْقٍ، وَإِبْرَاءٍ، وَعَفْوٍ مَجَّانًا فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيهِ، أَشْبَهَ الرَّاهِنَ يَتَصَرَّفُ فِي الرَّهْنِ.ر: (حَجْر، فَلَس).
إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَبَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ:
59- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ بِالْفِعْلِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْإِسْقَاطِ عَلَيْهِ، فَإِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَلَا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ لَا يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ مُسْتَقْبَلًا، كَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِسْقَاطِ الْحَاضِنَةِ حَقَّهَا فِي الْحَضَانَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، فَكُلُّ هَذَا لَا يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ عَنِ الْحَقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَالْعَوْدُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ.
60- أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَقُّ، وَلَكِنْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، فَفِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ حِينَئِذٍ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَقَبْلَ الْوُجُوبِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ.وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْإِبْرَاءُ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُغْنِي: إِنْ عَفَا مَجْرُوحٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَنْ قَوَدِ نَفْسِهِ أَوْ دِيَتِهَا صَحَّ عَفْوُهُ، لِإِسْقَاطِهِ حَقَّهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ.
وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ وَرَدَتْ عِدَّةُ مَسَائِلَ: كَإِبْرَاءِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنَ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، وَإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَعَفْوِ الْمَجْرُوحِ عَمَّا يَئُولُ إِلَيْهِ الْجُرْحُ.ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْإِسْقَاطُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ وُجِدَ أَوْ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ رُشْدٍ
وَفِي الدُّسُوقِيِّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ لُزُومُ الْإِسْقَاطِ لِجَرَيَانِ السَّبَبِ.وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَإِنْ جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ.
جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَنِ الضَّمَانِ لَمْ يُبَرَّأْ فِي الْأَظْهَرِ، إِذْ هُوَ إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُبَرَّأُ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ صُورَةً يَصِحُّ فِيهَا الْإِسْقَاطُ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَهِيَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، وَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ، وَرَضِيَ بِبَقَائِهَا، فَإِنَّهُ يُبَرَّأُ مِمَّا وَقَعَ فِيهَا.
إِسْقَاطُ الْمَجْهُولِ:
61- إِسْقَاطُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَجْهُولِ، كَالدَّيْنِ، وَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَحِصَّةٍ فِي تَرِكَةٍ، وَمَا مَاثَلَ ذَلِكَ.فَهَذَا النَّوْعُ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ إِسْقَاطِهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، هَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُولِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ قَدْ دَرَسَتْ: اسْتَهِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، وَلِيُحْلِلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ».وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَا تَسْلِيمَ فِيهِ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صِحَّةُ الصُّلْحِ عَمَّا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ مِنَ الدَّيْنِ، لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى ضَيَاعِ الْمَالِ.
وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ.
وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ بَيْنَ مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ.
وَيَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ صُورَتَيْنِ: الْأُولَى: الْإِبْرَاءُ مِنْ إِبِلِ الدِّيَةِ، فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهَا، لِاغْتِفَارِهِمْ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِهَا فِي ذِمَّةِ الْجَانِي.وَكَذَا الْأَرْشُ وَالْحُكُومَةُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهِمَا.
الثَّانِيَةُ: إِذَا ذَكَرَ قَدْرًا يَتَحَقَّقُ أَنَّ حَقَّهُ أَقَلُّ مِنْهُ.
وَأُضِيفَ إِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَمَّا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ.
كَذَلِكَ الْجَهْلُ الْيَسِيرُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِسْقَاطِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ مُوَرِّثِهِ فِي التَّرِكَةِ، إِنْ عَلِمَ قَدْرَ التَّرِكَةِ، وَجَهِلَ قَدْرَ حِصَّتِهِ.
وَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ وَصِيَّةَ مُوَرِّثِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَجَزْتُ لِأَنِّي ظَنَنْتُ الْمَالَ قَلِيلًا، وَأَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ، وَقَدْ بَانَ أَنَّهُ كَثِيرٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا زَادَ عَلَى ظَنِّهِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُجِيزِ، أَوْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ بِعِلْمِهِ وَبِقَدْرِهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
62- أَمَّا الْإِبْرَاءُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَالْحُكْمِ فِي الدَّيْنِ، مَعَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْحَادِثِ وَالْقَائِمِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْأَشْهَرُ فِيهِ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ.وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ فِيهِ.وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَقَوْلٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَيْبُ الْبَاطِنُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ بِهِ الْبَائِعُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ، وَقَلَّمَا يُبَرَّأُ مِنْ عَيْبٍ يَظْهَرُ أَوْ يَخْفَى، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّبَرِّي مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ فِيهِ.
هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ مَعَ الِاخْتِلَافِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَلِّ أَوْ شُرُوطِ الْإِسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.
63- وَهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لِتَشَعُّبِهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: حَقُّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ.
وَهُنَاكَ مَا لَا يَسْقُطُ لِقَاعِدَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ: أَنَّ صِفَاتِ الْحُقُوقِ لَا تُفْرَدُ بِالْإِسْقَاطِ كَالْأَجَلِ وَالْجَوْدَةِ، بَيْنَمَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجًا عَنْ قَاعِدَةِ «التَّابِعُ تَابِعٌ».
كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ وَلَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، فَلَوْ قَالَ رَبُّ السَّلَمِ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ الْبَلَدِ لَمْ يَسْقُطْ.وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لَا لِأَحَدٍ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاطَ لَهُ صَارَ لَازِمًا كَلُزُومِ الْوَقْفِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَيُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.
تَجَزُّؤُ الْإِسْقَاطِ:
64- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ، وَالْمَحَلُّ هُوَ الْأَسَاسُ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّجَزُّؤِ، فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ فِي بَعْضِهِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، قِيلَ: إِنَّ الْإِسْقَاطَ يَتَجَزَّأُ.وَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِسْقَاطِ فِي بَعْضِهِ، بَلْ يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ، قِيلَ: إِنَّ الْإِسْقَاطَ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالْأَتَاسِيُّ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ: «ذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ».فَإِذَا طَلَّقَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ الْمَرْأَةِ طُلِّقَتْ، وَمِنْهَا الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ: إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ الْقَاتِلِ كَانَ عَفْوًا عَنْ كُلِّهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا.وَخَرَجَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعِتْقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ لَمْ يَعْتِقْ كُلُّهُ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لَا يَتَجَزَّأُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ».وَأَدْخَلَ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا: الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ، وَالشُّفْعَةَ، وَوِصَايَةَ الْأَبِ، وَالْوِلَايَةَ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِتَوْضِيحٍ أَكْثَر فَقَالُوا: مَا لَا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ.وَذَكَرُوا تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَسَائِلَ الَّتِي سَبَقَ إِيرَادُهَا عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ، وَهِيَ: الطَّلَاقُ وَالْقِصَاصُ وَالْعِتْقُ وَالشُّفْعَةُ.فَإِذَا عَفَا الشَّفِيعُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ سَقَطَ الْكُلُّ.وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ حَدَّ الْقَذْفِ، فَالْعَفْوُ عَنْ بَعْضِهِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهُ.قَالَهُ الرَّافِعِيُّ.وَزَادَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: التَّعْزِيرَ، فَلَوْ عَفَا عَنْ بَعْضِهِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَالْمَسَائِلُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ طَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَقِصَاصٍ هِيَ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُبَعَّضَ أَوِ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الزَّوْجَةِ، أَوِ الْعِتْقَ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، أَوْ عَفْوَ أَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ الْقِصَاصِ، كُلُّ هَذَا يَسْرِي عَلَى الْكُلِّ، وَلَا يَتَبَعَّضُ الْمَحَلُّ، فَتُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فِي الْأَصْلِ الْعَامِّ، إِلاَّ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِتْقِ كَمَا سَبَقَ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي فُرُوعِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ.فَمَثَلًا إِضَافَةُ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ إِلَى الظُّفُرِ وَالسِّنِّ وَالشَّعَرِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَزُولُ وَيَخْرُجُ غَيْرُهَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ.
وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الشَّعَرِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالشُّفْعَةُ أَيْضًا الْأَصْلُ الْعَامُّ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ، حَتَّى لَا يَقَعَ ضَرَرٌ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَتْرُكَ، وَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْبَعْضِ سَقَطَ الْكُلُّ.لَكِنْ وَقَعَ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ قِيلَ: إِنَّ إِسْقَاطَ بَعْضِ الشُّفْعَةِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهَا.
وَلَيْسَ مِنْ تَبْعِيضِ الشُّفْعَةِ مَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ.
وَالدَّيْنُ مِمَّا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ، فَلِلدَّائِنِ أَخْذُ بَعْضِهِ وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ.
السَّاقِطُ لَا يَعُودُ
65- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى، وَيُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ، فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ دَيْنٌ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَكَالْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِلِ، وَلَا تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا.وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَتِ الدَّارُ إِلَى صَاحِبِهَا بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ، أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ لِلْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَلَ، فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.
وَالْإِسْقَاطُ يَقَعُ عَلَى الْكَائِنِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا سَقَطَ لَا يَعُودُ، أَمَّا الْحَقُّ الَّذِي يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، أَيْ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِسْقَاطُ، لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ.وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي خَبَايَا الزَّوَايَا: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الْفَسْخِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، يُمَكَّنُ مِنَ الْفَسْخِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَالْإِسْقَاطُ يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ دُونَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ بَعْدُ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَسْقَطَتِ الزَّوْجَةُ نَوْبَتَهَا لِضَرَّتِهَا فَلَهَا الرُّجُوعُ، لِأَنَّهَا أَسْقَطَتِ الْكَائِنَ، وَحَقُّهَا يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَا يَسْقُطُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ، لِأَنَّ الْعَائِدَ غَيْرُ السَّاقِطِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ قَاعِدَةً فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَالْحُكْمُ مَعْدُومٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَانِعِ، وَإِنْ عُدِمَ الْمُقْتَضِي فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّاقِطِ.
فَهُنَاكَ فَرْقٌ إِذَنْ بَيْنَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، ثُمَّ سَقَطَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عُدِمَ الْمُقْتَضِي فَلَا يَعُودُ الْحُكْمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْحَضَانَةِ.جَاءَ فِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ لَا حَضَانَةَ لِفَاسِقٍ، وَلَا لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا تَزْوِيجَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ مَحْضُونٍ.وَبِمُجَرَّدِ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ فِسْقٍ أَوْ كُفْرٍ، أَوْ تَزَوُّجٍ بِأَجْنَبِيٍّ، وَبِمُجَرَّدِ رُجُوعِ مُمْتَنِعٍ مِنْ حَضَانَةٍ يَعُودُ الْحَقُّ لَهُ فِي الْحَضَانَةِ، لِقِيَامِ سَبَبِهَا مَعَ زَوَالِ الْمَانِعِ.
هَذَا مَعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، هَلِ الْحَضَانَةُ حَقُّ الْحَاضِنِ أَوْ حَقُّ الْمَحْضُونِ.وَفِي الدُّسُوقِيِّ: إِذَا انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِشَخْصٍ لِمَانِعٍ، ثُمَّ زَالَ الْمَانِعُ فَإِنَّهَا تَعُودُ لِلْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَأَخَذَتِ الْجَدَّةُ الْوَلَدَ، ثُمَّ فَارَقَ الزَّوْجُ الْأُمَّ، وَقَدْ مَاتَتِ الْجَدَّةُ، أَوْ تَزَوَّجَتْ، وَالْأُمُّ خَالِيَةٌ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَهِيَ أَحَقُّ مِمَّنْ بَعْدَ الْجَدَّةِ، وَهِيَ الْخَالَةُ وَمَنْ بَعْدَهَا.كَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (الدَّرْدِيرُ)، وَهُوَ ضَعِيفٌ.وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْجَدَّةَ إِذَا مَاتَتِ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِمَنْ بَعْدَهَا كَالْخَالَةِ، وَلَا تَعُودُ لِلْأُمِّ وَلَوْ كَانَتْ مُتَأَيِّمَةً (لَا زَوْجَ لَهَا).
وَفِي الْجُمَلِ عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ: لَوْ أَسْقَطَتِ الْحَاضِنَةُ حَقَّهَا انْتَقَلَتْ لِمَنْ يَلِيهَا، فَإِذَا رَجَعَتْ عَادَ حَقُّهَا.وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ.
وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَفَرَّعْتُ عَلَى «وَقَوْلُهُمْ: السَّاقِطُ لَا يَعُودُ» قَوْلَهُمْ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ، لِفِسْقٍ أَوْ لِتُهْمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ.
وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا هُوَ مُسْقِطٌ وَمَا هُوَ مَانِعٌ قَوْلُهُ: لَا يَعُودُ التَّرْتِيبُ بَعْدَ سُقُوطِهِ بِقِلَّةِ الْفَوَائِتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَقَطَ بِالنِّسْيَانِ فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالتَّذَكُّرِ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ كَانَ مَانِعًا لَا مُسْقِطًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا تَصِحُّ إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ، لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَاقِطٌ فَلَا يَعُودُ.أَمَّا عَوْدُ النَّفَقَةِ- بَعْدَ سُقُوطِهَا بِالنُّشُوزِ- بِالرُّجُوعِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ، لَا مِنْ بَابِ عَوْدِ السَّاقِطِ.وَتُنْظَرُ الْفُرُوعُ فِي أَبْوَابِهَا.
أَثَرُ الْإِسْقَاطِ:
66- يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ آثَارٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ.وَمِنْ ذَلِكَ:
(1) إِسْقَاطُ رَجُلٍ الِانْتِقَاعَ بِالْبُضْعِ بِالطَّلَاقِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَالْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَجَوَازِ الرَّجْعَةِ، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ بَائِنًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ.ر: (طَلَاق).
(2) الْإِعْتَاقُ وَهُوَ: إِزَالَةُ الرِّقِّ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَإِثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لَهُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُهُ لِمَالِهِ وَكَسْبِهِ، وَإِطْلَاقُ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَإِثْبَاتُ حَقِّ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتَقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.ر: (عِتْق).
(3) قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ إِثْبَاتُ حُقُوقٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اسْتِقْرَارُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لُزُومُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ.وَإِجَازَةُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا لُزُومُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (بَيْع- خِيَار- شُفْعَة- فُضُولِيّ).
(4) وَمِنَ الْآثَارِ مَا يَرِدُ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْفَرْعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْأَصْلِ، كَمَا إِذَا أُبْرِئَ الْمَضْمُونُ أَوِ الْمَكْفُولُ عَنِ الدَّيْنِ بُرِّئَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيلُ، لِأَنَّ الضَّامِنَ وَالْكَفِيلَ فَرْعٌ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ الْفَرْعُ وَلَا عَكْسَ، فَلَوْ أُبْرِئَ الضَّامِنُ لَمْ يُبَرَّأِ الْأَصِيلُ، لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ وَثِيقَةٍ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الدَّيْنُ.ر: (كَفَالَة- ضَمَان).
(5) وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ الْحُصُولُ عَلَى حَقٍّ كَانَ صَاحِبُهُ مَمْنُوعًا مِنْهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِثْلُ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، بِنَحْوِ وَقْفٍ أَوْ هِبَةٍ، إِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ مَنْعَهُ كَانَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ.
(6) الْغَرِيمُ إِذَا وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ بِشُرُوطٍ مِنْهَا: أَلاَّ يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ كَشُفْعَةٍ وَرَهْنٍ.فَإِذَا أَسْقَطَ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، بِأَنْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ، أَوْ أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فِي الرَّهْنِ فَلِرَبِّ الْعَيْنِ أَخْذُهَا.
(7) إِذَا أَجَّلَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ سَقَطَ حَقُّ الْحَبْسِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ، لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ.
(8) لَوْ أَجَّلَتِ الزَّوْجَةُ الْمَهْرَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بِالتَّأْجِيلِ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهَا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ.وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَسْلِيمُهُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ، فَلَمَّا قَبِلَ الزَّوْجُ التَّأْجِيلَ كَانَ ذَلِكَ رِضًا بِتَأْخِيرِ حَقِّ نَفْسِهَا فِي الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْبَائِعِ.وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي: (إِفْلَاسٌ- بَيْعٌ- حَبْس- رَهْن).
(9) إِسْقَاطُ الشَّارِعِ الْعِبَادَاتِ بِسَبَبِ الْأَعْذَارِ قَدْ يَسْقُطُ الطَّلَبُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.وَقَدْ يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ.
(10) الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ مِنَ الْحَقِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُبَرَّأِ مَتَى اسْتَوْفَى الْإِبْرَاءُ شُرُوطَهُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ حَقٍّ خَاصٍّ أَمْ حَقٍّ عَامٍّ، بِحَسَبِ مَا يَرِدُ فِي صِيغَةِ الْمُبَرِّئِ.
وَيَتَرَتَّبُ كَذَلِكَ سُقُوطُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِبْرَاءُ إِلَى حِينِ وُقُوعِهِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ.وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ الْجَهْلِ أَوِ النِّسْيَانِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ.فَإِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ، أَوْ وَقَعَ بَعْدَ الصُّلْحِ إِبْرَاءٌ عَامٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ فَلَهُ نَقْضُهُ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ عَلَى دَوَامِ صِفَةِ الصُّلْحِ لَا إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ، إِلاَّ إِذَا الْتَزَمَ فِي الصُّلْحِ عَدَمَ الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِبَيِّنَةٍ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى.هَذَا، مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْإِبْرَاءِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ، كَضَمَانِ الدَّرَكِ (اسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ)، وَكَدَعْوَى الْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ، وَكَادِّعَاءِ الْوَارِثِ دَيْنًا لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي (إِبْرَاءٌ- دَعْوَى).
(11) الْإِبْرَاءُ الْعَامُّ يَمْنَعُ الدَّعْوَى بِالْحَقِّ قَضَاءً لَا دِيَانَةً، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ بِمَالِهِ مِنَ الْحَقِّ لَمْ يُبَرِّئْهُ، كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْوَلْوَالَجِيَّةِ.لَكِنْ فِي خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يُبَرَّأُ قَضَاءً وَدِيَانَةً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَبْرَأَهُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ بُرِّئَ فِيهِمَا، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.
بُطْلَانُ الْإِسْقَاطِ
67- لِلْإِسْقَاطِ أَرْكَانٌ، وَلِكُلِّ رُكْنٍ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا بَطَلَ الْإِسْقَاطُ، أَيْ بَطَلَ حُكْمُهُ، فَلَا يَنْفُذُ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَإِذَا كَانَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْإِسْقَاطِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ وَلَا يَنْفُذُ.
وَلَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ بِالْإِسْقَاطِ مُنَافِيًا لِلْمَشْرُوعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَصَرُّفًا بَاطِلًا وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، كَإِسْقَاطِ الْوِلَايَةِ، أَوْ إِسْقَاطِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ الْإِسْقَاطُ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَيُعْتَبَرُ إِسْقَاطُهَا بَاطِلًا.وَلِذَلِكَ خَرَّجَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِسْقَاطِ الضَّمَانِ.
وَقَدْ يَقَعُ الْإِسْقَاطُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَبْطُلُ إِذَا رَدَّهُ الْمُسْقَطُ عَنْهُ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْحَنَفِيَّةِ. فِي قَاعِدَةٍ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ هِيَ: أَنَّهُ إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ، فَلْو أَبْرَأَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الْإِبْرَاءُ.
وَأَغْلَبُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَرَدَتْ فِيمَا سَبَقَ فِي الْبَحْثِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
8-موسوعة الفقه الكويتية (اعتياض)
اعْتِيَاضٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاعْتِيَاضُ لُغَةً: أَخْذُ الْعِوَضِ، وَالِاسْتِعَاضَةُ: طَلَبُ الْعِوَضِ.
وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الِاسْتِعَاضَةَ عَلَى أَخْذِ الْعِوَضِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- الِاعْتِيَاضُ نَوْعٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ صَادِرًا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، إِلاَّ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ.وَدَلِيلُ ذَلِكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».
وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِلتَّعَاوُنِ، وَلِتَعَلُّقِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَا يَبْذُلُهُ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمُرَاعَاةُ حَاجَةِ النَّاسِ أَصْلٌ فِي شَرْعِ الْعُقُودِ.
وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا كَمَا إِذَا أَخْرَجَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ أَوِ النَّاظِرُ شَيْئًا مِمَّا بِيَدِهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، لِمَنْعِهِمْ مِنَ التَّبَرُّعِ.
وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا كَالِاسْتِجَابَةِ لِحَالِفٍ عَلَيْهِ فِيمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، لِأَنَّ إِبْرَارَ الْقَسَمِ مَنْدُوبٌ.وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَأَخْذِ ثَمَنِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَكَأَخَذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمَعَاصِي.وَهَكَذَا كُلُّ مُعَاوَضَةٍ خَالَفَتْ أَمْرَ الشَّارِعِ.
وَكَأَخَذِ بَدَلِ الْخُلْعِ إِنْ عَضَلَهَا الزَّوْجُ، أَيْ ضَايَقَهَا بِدُونِ سَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا لِتَخْتَلِعَ مِنْهُ.
مَا يَجْرِي فِيهِ الِاعْتِيَاضُ وَأَسْبَابُهُ:
3- الِاعْتِيَاضُ يَجْرِي فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ عَيْنٍ، أَوْ دَيْنٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ حَقٍّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرْعِ.
وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْوَاضِ وُجُوبُهَا بِالْعُقُودِ فَإِنَّهَا أَسْبَابُهَا، وَالْأَصْلُ تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا.
وَالِاعْتِيَاضُ يَتِمُّ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي يَتِمُّ الْعَقْدُ فِيهَا عَلَى الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ، أَوْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَالْإِجَارَةِ وَالْجِعَالَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَتِمُّ ضِمْنَ عُقُودٍ أُخْرَى، كَالصُّلْحِ بِأَقْسَامِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَكَهِبَةِ الثَّوَابِ.
وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ الْإِسْقَاطُ بِعِوَضٍ، كَالْخُلْعِ، وَكِتَابَةِ الْعَبْدِ، وَالِاعْتِيَاضِ عَنِ الْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ كَحَقِّ الْقِصَاصِ.
يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: تَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا نَقْلٌ أَوْ إِسْقَاطٌ أَوْ...إِلَخْ.
وَالنَّقْلُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ بِعِوَضٍ فِي الْأَعْيَانِ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ، أَوْ فِي الْمَنَافِعِ كَالْإِجَارَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْجِعَالَةُ، وَإِلَى مَا هُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا...إِلَخْ.وَالْإِسْقَاطُ إِمَّا بِعِوَضٍ كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةِ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدُّيُونِ...إِلَخْ.
أَقْسَامُ الْمُعَاوَضَاتِ:
4- الْمُعَاوَضَاتُ قِسْمَانِ:
أ- مُعَاوَضَاتٌ مَحْضَةٌ: وَهِيَ مَا يُقْصَدُ فِيهَا الْمَالُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَالِ مَا يَشْمَلُ الْمَنْفَعَةَ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِيهَا بِفَسَادِ الْعِوَضِ.
ب- مُعَاوَضَاتٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ: وَهِيَ مَا يُقْصَدُ فِيهَا الْمَالُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَالْخُلْعِ.وَهَذِهِ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِيهَا بِفَسَادِ الْعِوَضِ.
وَلِكُلِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَحْضَةً أَمْ غَيْرَ مَحْضَةٍ- أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ الْخَاصَّةُ وَتُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.
شَرَائِطُ إِجْمَالِيَّةٌ لِلِاعْتِيَاضِ:
5- فِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يَتَوَافَرَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ مَا يَأْتِي: أ- أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْعَقْدِ مِمَّا يُمْكِنُ تَطْبِيقُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَيَصْلُحُ لِاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ، فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَمَّا لَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَا عَنِ الْمَعْدُومِ كَنِتَاجِ النِّتَاجِ، وَلَا عَنِ الْمُبَاحَاتِ كَالْكَلَأِ، وَلَا الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَعَاصِي وَهَكَذَا.
ب- أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْعَقْدِ خَالِيًا مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ وَالْخِلَافِ، فَلَا يَجُوزُ عَقْدُ اعْتِيَاضٍ عَلَى الْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا.
ج- أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ خَالِيًا مِنَ الرِّبَا.
وَالْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ فِيمَا مَرَّ سَوَاءٌ.
وَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ عِنْدَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مِنِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ وَتَشَعُّبِ آرَائِهِمْ فِيهِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: الْعِوَضُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي بَعْضِ الْأَعْوَاضِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ.
فَمَثَلًا صِفَةُ الْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ سَاقِطٌ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ تَعَبُّدًا لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» فَبَقِيَتْ مُتَقَوَّمَةً فِي غَيْرِهَا عَلَى الْأَصْلِ.
6- أَمَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ غَيْرِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهَا مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي غَيْرِهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ- مَا جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ مَهْرًا لِجَهَالَةٍ أَوْ غَرَرٍ، لِأَنَّ الْخُلْعَ إِسْقَاطُ حَقِّهِ مِنَ الْبُضْعِ، وَالْإِسْقَاطُ يَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ.وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ.
ب- مَا جَاءَ فِي الْعِنَايَةِ بِهَامِشِ تَكْمِلَةِ فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ أَنْ يُسَاوِيَ الْمَوْهُوبَ، بَلِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، الْجِنْسُ وَخِلَافُهُ سَوَاءٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الرِّبَا.
وَفِي الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: هِبَةُ الثَّوَابِ تَجُوزُ مَعَ جَهْلِ عِوَضِهَا وَجَهْلِ أَجَلِهِ.
ج- مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْكِتَابَةُ بِالْغَرَرِ جَائِزَةٌ، كَآبِقٍ وَشَارِدٍ وَثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ.
7- فِي الِاعْتِيَاضِ عَنِ الْحُقُوقِ يَجِبُ مُرَاعَاةُ الْآتِي:
أ- لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
ب- لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنِ حَقِّ الْغَيْرِ كَنَسَبِ الصَّغِيرِ.
ج- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنِ الْحُقُوقِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ، وَهِيَ مَا تُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَهِبَةِ الزَّوْجَةِ لَيْلَتَهَا لِإِحْدَى ضَرَائِرِهَا.وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (ر: إِسْقَاطٌ).
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8- الِاعْتِيَاضُ يَأْتِي فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالصُّلْحِ، وَالْهِبَةِ، وَالْخُلْعِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
9-موسوعة الفقه الكويتية (إلغاء)
إِلْغَاءٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِلْغَاءُ مَصْدَرُ أَلْغَيْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: أَبْطَلْتُهُ، وَمِنْهُ الْأَثَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُلْغِي طَلَاقَ الْمُكْرَهِ، أَيْ يُبْطِلُهُ.
وَيُعَرِّفُهُ الْأُصُولِيُّونَ بِقَوْلِهِمْ: وُجُودُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ صُورَةً، وَحَاصِلُهُ عَدَمُ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ أَيِ الْعِلَّةِ.
وَيَأْتِي الْإِلْغَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ وَالْفَسَادِ وَالْفَسْخِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِ الْإِلْغَاءِ مِنْ قِيَامِ الْحَقِّ أَوِ الْمِلْكِ الَّذِي يُرَادُ إِلْغَاؤُهُ، إِذْ لَا يَصِحُّ إِلْغَاءُ فِعْلٍ أَوْ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ.
وَيُطْلِقُهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَقْسِيمِ الْمَصَالِحِ إِلَى مُعْتَبَرَةٍ، وَمُرْسَلَةٍ، وَمُلْغَاةٍ، وَيَقْصِدُونَ بِهَذِهِ الْأَخِيرَةِ مَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ، كَإِلْغَاءِ مَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا مِنْ مَصَالِحَ الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِبْطَالُ:
2- الْإِبْطَالُ فِي اللُّغَةِ: إِفْسَادُ الشَّيْءِ وَإِزَالَتُهُ حَقًّا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَوْ بَاطِلًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}.
وَشَرْعًا: الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْبُطْلَانِ وَيَأْتِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْفَسْخِ وَالْإِسْقَاطِ وَالنَّقْصِ وَالْإِلْغَاءِ.
وَهُوَ بِهَذَا يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْإِبْطَالَ قَدْ يَقَعُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّيْءِ، وَلَا يَكُونُ الْإِلْغَاءُ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّيْءِ أَوْ فِعْلِهِ.
ب- الْإِسْقَاطُ:
3- مِنْ مَعَانِي الْإِسْقَاطِ لُغَةً: الْإِزَالَةُ وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ، كَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَكَالْعِتْقِ فَإِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ.
وَعَلَى هَذَا يُوَافِقُ الْإِلْغَاءَ فِي كَوْنِهِ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الَّذِي يُرَادُ إِسْقَاطُهُ أَوْ إِلْغَاؤُهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْإِسْقَاطُ وَالْإِلْغَاءُ، فَيُقَالُ أَسْقَطَ عَنْهُ الرِّقَّ: أَلْغَاهُ، كَمَا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.
ج- الْفَسْخُ:
4- الْفَسْخُ لُغَةً: النَّقْضُ، يُقَالُ فَسَخَ الشَّيْءَ يَفْسَخُهُ فَسْخًا فَانْفَسَخَ أَيْ: نَقَضَهُ فَانْتَقَضَ، وَتَفَاسَخَتِ الْأَقَاوِيلُ: تَنَاقَضَتْ، وَيُطْلَقُ اصْطِلَاحًا عَلَى حَلِّ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ وَالتَّصَرُّفِ وَقَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ بِهَذَا يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْغَاءِ وَالْإِبْطَالِ.وَقَدْ يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَارَةً بِالْإِلْغَاءِ وَالْإِبْطَالِ، وَتَارَةً بِالْفَسْخِ.غَيْرَ أَنَّ الْفَسْخَ غَالِبًا مَا يَكُونُ فِي الْعُقُودِ، وَيَقِلُّ فِي الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهُ: فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَفَسْخُ نِيَّةِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْعُقُودِ قَبْلَ تَمَامِهَا، وَعِنْدَ تَمَامِهَا بِشُرُوطٍ مِثْلِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالْإِقَالَةِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
5- أَجَازَ الْعُلَمَاءُ إِلْغَاءَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنْ جَانِبِ الْعَاقِدَيْنِ، أَمَّا فِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْإِلْغَاءُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ غَيْرِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ كَالْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُلْزَمَةِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا الْإِلْغَاءُ بَعْدَ نَفَاذِهَا إِلاَّ بِرَضِا الْعَاقِدَيْنِ، كَمَا فِي الْإِقَالَةِ، أَوْ بِوُجُودِ سَبَبٍ مَانِعٍ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْعَقْدِ كَظُهُورِ الرَّضَاعِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هُنَا الْإِلْغَاءُ بِمَعْنَى الْفَسْخِ.
الْإِلْغَاءُ فِي الشُّرُوطِ:
6- تَنْقَسِمُ الشُّرُوطُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِلْغَاءِ إِلَى أَقْسَامٍ:
مِنْهَا شُرُوطٌ يُلْغَى بِهَا الْعَقْدُ مُطْلَقًا، لِمُخَالَفَتِهَا نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، كَمَا لَوْ أَقْرَضَ وَاشْتَرَطَ رِبًا عَلَى الْقَرْضِ.وَمِنْهَا شُرُوطٌ لَاغِيَةٌ وَلَا تُبْطِلُ الْعَقْدَ، كَمَا إِذَا بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَلاَّ يَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا يَهَبَهُ، جَازَ الْبَيْعُ وَيُلْغَى الشَّرْطُ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَشُرُوطٌ غَيْرُ لَاغِيَةٍ تَصِحُّ وَيَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ، لِأَنَّهَا تَوْثِيقٌ لِلْعَقْدِ، كَمَا إِذَا اشْتَرَطَ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا بِالْبَيْعِ.
إِلْغَاءُ التَّصَرُّفَاتِ:
7- تُلْغَى التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لَا يُقِرُّهَا الشَّارِعُ، مِثْلُ رَهْنِ الْخَمْرِ وَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا تُلْغَى تَصَرُّفَاتُ عَدِيمِ الْأَهْلِيَّةِ كَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ (ر: حَجْر).
الْإِلْغَاءُ فِي الْإِقْرَارِ:
8- وَذَلِكَ إِذَا كَذَّبَهُ الظَّاهِرُ، أَوْ كَذَّبَ الْمُقِرُّ نَفْسَهُ، أَوْ رَجَعَ فِيمَا يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَهُوَ حُقُوقُ اللَّهِ.وَمِنْهَا الْحُدُودُ وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْإِقْرَار).
إِلْغَاءُ الْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ:
9- وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ اتِّحَادَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا (ر: إِلْغَاءُ الْفَارِقِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
10-موسوعة الفقه الكويتية (أوقاص)
أَوْقَاصٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْأَوْقَاصُ: جَمْعُ وَقَصٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَدْ تَسْكُنُ الْقَافُ، وَالْوَقَصُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: قِصَرُ الْعُنُقِ، كَأَنَّمَا رَدٌّ فِي جَوْفِ الصَّدْرِ.وَالْكَسْرُ: يُقَالُ: وُقِصَتْ عُنُقُهُ أَيْ: كُسِرَتْ وَدَقَّتْ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الشَّرْعِ: لِمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي أَنْصِبَةِ زَكَاةِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَوْ هُوَ: مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، أَوْ فِي الْبَقَرِ خَاصَّةً، وَهُوَ وَاحِدُ الْأَوْقَاصِ.
فَمَثَلًا إِذَا بَلَغَتِ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ، فَفِيهَا شَاةٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا شَاتَانِ.فَالثَّمَانُونَ الَّتِي بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَبَيْنَ الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَصٌ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْأَشْنَاقُ:
2- الْأَشْنَاقُ: جَمَعَ شَنَقٍ، هَذَا وَجَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الشَّنَقَ بِفَتْحَتَيْنِ: مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ الْوَقَصُ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَخُصُّ الشَّنَقَ بِالْإِبِلِ، وَالْوَقَصَ بِالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ.
وَفَسَّرَ مَالِكٌ الشَّنَقَ بِمَا يُزَكَّى مِنَ الْإِبِلِ بِالْغَنَمِ.كَالْخَمْسِ مِنَ الْإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ، وَالْعَشْرِ فِيهَا شَاتَانِ، وَالْخَمْسَ عَشْرَةَ فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَالْعِشْرِينَ فِيهَا أَرْبَعٌ.
ب- الْعَفْوُ:
3- يُقَالُ لِمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ أَيْضًا: الْعَفْوُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ عَفَا، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْمَحْوُ وَالْإِسْقَاطُ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ كَالْوَقَصِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ فِي زَكَاةِ النَّعَمِ، أَوْ فِي كُلِّ الْأَمْوَالِ، وَسُمِّيَ عَفْوًا لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، أَيْ لَا زَكَاةَ فِيهِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أَوْقَاصُ الْإِبِلِ:
4- يُبْحَثُ عَنِ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْأَوْقَاصِ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٍ) أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِزَكَاةِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، إِذِ الْأَوْقَاصُ كَمَا سَبَقَ: مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ مِنْ كُلِّ الْأَنْعَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرِيضَتَيْنِ النِّصَابَانِ.فَمَا بَيْنَ كُلِّ نِصَابَيْنِ يُعْتَبَرُ وَقْصًا.هَذَا.وَالْأَوْقَاصُ فِي الْإِبِلِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ:
الْأُولَى: الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشَّاةُ وَهِيَ الْخَمْسُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالشَّاتَانِ وَهِيَ الْعَشْرُ، وَالثَّلَاثُ شِيَاهٍ وَهِيَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالْأَرْبَعُ شِيَاهٍ وَهِيَ الْعِشْرُونَ، وَبِنْتُ الْمَخَاضِ وَهِيَ الْخَمْسُ وَالْعِشْرُونَ.
الثَّانِيَةُ: الْعَشَرَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتُ الْمَخَاضِ، وَهِيَ الْخَمْسُ وَالْعِشْرُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتُ اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ وَالثَّلَاثُونَ.
الثَّالِثَةُ: التِّسْعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتَ اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ وَالثَّلَاثُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّةُ، وَهِيَ السِّتُّ وَالْأَرْبَعُونَ.
الرَّابِعَةُ: الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّةُ وَهِيَ السِّتُّ وَالْأَرْبَعُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الْجَذَعَةُ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالسِّتُّونَ.وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ أَيْضًا بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْجَذَعَةُ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالسِّتُّونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتَا اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ وَالسَّبْعُونَ، وَالَّتِي تَفْصِلُ أَيْضًا بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّتَانِ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالتِّسْعُونَ.
الْخَامِسَةُ: التِّسْعُ وَالْعِشْرُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّتَانِ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالتِّسْعُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِذْ زِيَادَةُ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ تُؤَثِّرُ عِنْدَهُمْ فِي تَغْيِيرِ الْوَاجِبِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ زِيَادَةَ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لَا تُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ بِزِيَادَةِ خَمْسٍ، فَيَسْتَمِرُّ أَخْذُ الْحِقَّتَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ.
فَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْوَقَصِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ.
وَالَّذِي ارْتَضَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ الزَّائِدُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ السَّاعِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ الْحِقَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ.وَالتَّفْصِيلُ مَعَ الْأَدِلَّةِ وَمَا قِيلَ فِيهَا مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٍ).
أَوْقَاصُ الْبَقَرِ:
5- الْأَوْقَاصُ فِي الْبَقَرِ لَا تَخْرُجُ عَنْ عَدَدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التِّسْعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ التَّبِيعُ أَوِ التَّبِيعَةُ، وَهُوَ الثَّلَاثُونَ، وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْمُسِنَّةُ أَوِ الْمُسِنُّ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ، وَهُوَ الَّتِي تَقَعُ أَيْضًا بَعْدَ الْعَدَدِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ فِيهِ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ اتِّفَاقًا وَهُوَ السِّتُّونَ، وَمَا فَوْقَهَا كَالتِّسْعَةِ الَّتِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ.وَالسَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ.وَهَكَذَا.
الثَّانِي: التِّسْعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْمُسِنَّةُ أَوِ الْمُسِنُّ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ، وَالْعَدَدُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بَعْدَهُ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ وَهُوَ السِّتُّونَ، فَإِنَّهَا وَقَصٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
هَذَا وَتَذْكُرُ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْبَقَرِ إِذَا زَادَ عَدَدُهَا عَلَى الْأَرْبَعِينَ.سَيَأْتِي ذِكْرُهَا.
أَوْقَاصُ الْغَنَمِ:
6- الْأَوْقَاصُ فِي الْغَنَمِ تَكُونُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلًا: الثَّمَانُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الشَّاتَانِ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ.ثَانِيًا: التِّسْعُ وَالسَّبْعُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشَّاتَانِ وَهِيَ الْإِحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الثَّلَاثُ الشِّيَاهِ وَهِيَ الْوَاحِدَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ.
ثَالِثًا: التِّسْعُ وَالتِّسْعُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الثَّلَاثُ الشِّيَاهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ وَقَبْلَ الْعَدَدِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بَعْدَهُ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ مِائَةٍ وَهُوَ الثَّلَاثُمِائَةِ، فَيَسْتَمِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقَصُ عَلَى تِسْعٍ وَتِسْعِينَ.
زَكَاةُ أَوْقَاصِ الْإِبِلِ:
7- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي زَكَاةِ أَوْقَاصِ الْإِبِلِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَقَطْ؛ وَلِأَنَّ الْوَقَصَ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصَابِ كَمَا هُوَ عَفْوٌ أَيْضًا قَبْلَ النِّصَابِ، فَالْأَرْبَعَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ الْخَمْسَةِ وَقَبْلَ الْعَشَرَةِ عَفْوٌ، إِذْ هِيَ كَالْأَرْبَعَةِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ الْخَمْسِ.وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَيْضًا أَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا تُزَكَّى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا الْقَوْلُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ أَنَسٍ: «فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى»، فَجَعَلَ الْفَرْضَ فِي النِّصَابِ وَمَا زَادَ.وَلِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فَلَمْ يَكُنْ عَفْوًا، كَالزِّيَادَةِ عَلَى نِصَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ- كَمَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ- فِيمَنْ مَلَكَ تِسْعًا مِنَ الْإِبِلِ، فَهَلَكَ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَسْقُطُ عَلَى الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ.
هَذَا وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْأَوْقَاصَ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَقَطْ، فَلَوْ كَانَ لَهُ تِسْعُ إِبِلٍ مَغْصُوبَةٍ حَوْلًا، فَخَلَصَ مِنْهَا بَعِيرًا، لَزِمَهُ خُمُسِ شَاةٍ.
زَكَاةُ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إِلَى السِّتِّينَ مِنَ الْبَقَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقْصٌ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنًّا أَوْ مُسِنَّةً، فَقَالُوا: الْأَوْقَاصَ، فَقَالَ: مَا أَمَرَنِي فِيهَا بِشَيْءٍ، وَسَأَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- سَأَلَهُ عَنِ الْأَوْقَاصِ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ».
وَفَسَّرُوهَا بِمَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الزَّكَاةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ وَاجِبَيْنِ وَقْصٌ، لِأَنَّ تَوَالِيَ الْوَاجِبَاتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهَا، لَا سِيَّمَا فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى التَّشْقِيصِ فِي الْمَوَاشِي.
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ عَنْهُ- وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ- أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ يَجِبُ فِيهِ بِحِسَابِهِ إِلَى السِّتِّينَ، فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ رُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ التَّبِيعِ، وَفِي الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثَا عُشْرِ تَبِيعٍ وَهَكَذَا.
وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْمَالَ سَبَبُ الْوُجُوبِ، وَنَصْبُ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا إِخْلَاؤُهُ عَنِ الْوَاجِبِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ مَا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فِي الصَّحِيحِ.الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ- وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ- أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ.
وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْأَوْقَاصَ مِنَ الْبَقَرِ تِسْعٌ تِسْعٌ، كَمَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَبَعْدَ السِّتِّينَ، فَكَذَا هُنَا.
زَكَاةُ أَوْقَاصِ الْغَنَمِ:
9- وَلَا زَكَاةَ فِي أَوْقَاصِ الْغَنَمِ بِالِاتِّفَاقِ
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
11-موسوعة الفقه الكويتية (البيع الفاسد 2)
الْبَيْعُ الْفَاسِدُ -2مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ:
29- لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْفَسْخِ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ، بِأَنْ يَقُولَ: أَسْقَطْتُ، أَوْ: أَبْطَلْتُ، أَوْ: أَوْجَبْتُ الْبَيْعَ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْفَسْخِ ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، دَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى إِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا، كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
لَكِنْ قَدْ يَسْقُطُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا، فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ.
وَإِذَا بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَتَقَرَّرَ الضَّمَانُ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَلَا يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ.
وَفِيمَا يَلِي أَهَمُّ صُوَرِ ذَلِكَ.
الصُّورَةُ الْأُولَى: التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا.
30- أَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ بِكُلِّ تَصَرُّفٍ يُخْرِجُ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ.وَهَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الَّذِي أَصَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ جَعَلَ الْمَبِيعَ مَهْرًا، أَوْ بَدَلَ صُلْحٍ، أَوْ بَدَلَ إِجَارَةٍ، وَعَلَّلُوهُ قَائِلِينَ: لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ.
أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُفِيدُ الْمِلْكَ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
أَوْ رَهَنَهُ وَسَلَّمَهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَلْزَمُ بِدُونِ التَّسْلِيمِ.
أَوْ وَقَفَهُ وَقْفًا صَحِيحًا، لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ حِينَ وَقَفَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ.
أَوْ أَوْصَى بِهِ ثُمَّ مَاتَ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ.
أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَسَلَّمَهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمُتَصَدِّقِ بِدُونِ تَسْلِيمٍ.
وَكَذَا الْعِتْقُ، فَقَدِ اسْتَثْنَوْهُ لِقُوَّتِهِ وَسِرَايَتِهِ وَتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ.
31- فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، يَنْفُذُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، وَيَمْتَنِعُ فَسْخُهُ وَذَلِكَ:
أ- لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ، فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ.
ب- وَلِأَنَّهُ تَعَلُّقُ حَقِّ الْعَبْدِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي، وَنَقْضُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ إِلاَّ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُقَدَّمُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، لِغِنَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسَعَةِ عَفْوِهِ، وَفَقْرِ الْعَبْدِ دَائِمًا إِلَى رَبِّهِ.
ج- وَلِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ، وَالثَّانِي مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، فَلَا يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ.
د- وَلِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ- مَعَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ- تَسْلِيطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الِاسْتِرْدَادِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِلاَّ كَانَ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْمُنَاقَضَةِ.
32- اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ: الْإِجَارَةَ.فَقَرَّرُوا أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ مِنَ الْأَعْذَارِ، بَلْ لَا عُذْرَ أَقْوَى مِنَ الْفَسَادِ، كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ.
وَلِأَنَّهَا- كَمَا يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ- تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا زَالَ الْمَانِعُ مِنْ مُمَارَسَةِ حَقِّ الْفَسْخِ- كَمَا لَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ بِهِبَتِهِ، أَوْ أَفْتَكَ الرَّاهِنُ رَهْنَهُ- عَادَ الْحَقُّ فِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَمْ تُوجِبِ الْفَسْخَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي حَقِّ الْكُلِّ.
لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْلِ، لَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِذَلِكَ يُبْطِلُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْعَيْنِ، وَيَنْقُلُهُ إِلَى الْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْلِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ، فَلَا يَعُودُ حَقُّهُ إِلَى1 الْعَيْنِ وَإِنِ ارْتَفَعَ السَّبَبُ، كَمَا لَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ بِسَبَبِ فَقْدِهِ مَثَلًا، ثُمَّ وُجِدَ الْمَغْصُوبُ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَفْعَالُ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا:
33- وَمِنْهَا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ، فَلَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الَّتِي اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا بِنَاءً أَوْ غَرَسَ شَجَرًا:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِمَا الدَّوَامُ، وَقَدْ حَصَلَا بِتَسْلِيطٍ مِنَ الْبَائِعِ، فَيَنْقَطِعُ بِهِمَا حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، كَالْبَيْعِ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ لَا يَمْنَعَانِ مِنَ الْفَسْخِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَنْقُضَهُمَا وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ- مَعَ ضَعْفِهِ- لَا يَبْطُلُ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَهَذَا أَوْلَى.
34- وَمِمَّا يَمْنَعُ الْفَسْخَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ أَوِ النَّقْصُ مِنْهُ.
أ- أَمَّا الزِّيَادَةُ: فَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ كُلَّ زِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْمَبِيعِ، غَيْرِ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ قُمَاشًا فَخَاطَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، أَوْ قَمْحًا فَطَحَنَهُ، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا وَأَمْثَالِهَا يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ، وَتَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَسَمْنِ الْمَبِيعِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَالْوَلَدِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْكَسْبِ وَالْهِبَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ.
ب- وَأَمَّا نَقْصُ الْمَبِيعِ، فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّهُ إِذَا نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرَّدِّ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ.لَكِنْ إِنْ نَقَصَ وَهُوَ فِي يَدِهِ بِفِعْلِهِ، أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ مِنْهُ، وَيُضَمِّنُهُ أَرْشَ النُّقْصَانِ.وَلَوْ نَقَصَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِ الْبَائِعِ، اعْتُبِرَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ مُسْتَرِدًّا لَهُ.وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، خُيِّرَ الْبَائِعُ بِأَخْذِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْجَانِي.
35- وَقَدْ وَضَعَ الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَابِطًا لِمَا يَمْتَنِعُ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ وَالْفَسْخِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى فَعَلَ بِالْمَبِيعِ فِعْلًا، يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْغَصْبِ، يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إِذَا كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا.
ثَالِثًا (مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ): حُكْمُ الرِّبْحِ فِي الْبَدَلَيْنِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
36- صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ، وَلَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي مَا رَبِحَ فِي الْمَبِيعِ، فَلَوِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَيْنًا بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مَثَلًا وَتَقَابَضَا، وَرَبِحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا قَبَضَ، يَتَصَدَّقُ الَّذِي قَبَضَ الْعَيْنَ بِالرِّبْحِ، لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِيهَا، وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَمُفَادُ هَذَا الْفَرْقِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ (أَيْ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ) لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَدَلَيْنِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِيهِمَا مَعًا.
رَابِعًا: قَبُولُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِلتَّصْحِيحِ:
37- الْبَيْعُ الْفَاسِدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ فِيهِ ضَعِيفًا أَوْ قَوِيًّا:
أ- فَإِذَا كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ، أَوْ وُقِّتَ إِلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَكَمَا فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ مَثَلًا، فَإِذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَقَبْلَ فَسْخِهِ، جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ الْأَجَلِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ تَنْقَلِبُ جَائِزَةً بِحَذْفِ الْمُفْسِدِ، فَبَيْعُ جِذْعٍ فِي سَقْفٍ فَاسِدٍ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ وَحِلْيَةٍ فِي سَيْفٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلاَّ بِضَرَرٍ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ إِنْ قَلَعَهُ وَسَلَّمَهُ قَبْلَ نَقْضِ الْبَيْعِ جَازَ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الِامْتِنَاعُ.وَبَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، لَكِنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ جَازَ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ.وَإِنْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي رَهْنًا، وَلَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مُعَيَّنًا وَلَا مُسَمًّى، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لَكِنْ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى تَعْيِينِ الرَّهْنِ فِي الْمَجْلِسِ، وَرَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ عَجَّلَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ يَبْطُلُ الْأَجَلُ، فَيَجُوزُ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا لِزَوَالِ الْفَسَادِ.
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِزُفَرَ حَيْثُ قَالَ: الْبَيْعُ إِذَا انْعَقَدَ عَلَى الْفَسَادِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِحَالَةِ.
ب- أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا، بِأَنْ يَكُونَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْبَدَلُ أَوِ الْمُبْدَلُ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ اتِّفَاقًا، كَمَا إِذَا بَاعَ عَيْنًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَهَذَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ وَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
خَامِسًا: الضَّمَانُ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ:
38- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا، إِذَا هَلَكَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثَبَتَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِرَدِّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا- مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا- وَرَدِّ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَمْ أَقَلَّ مِنْهُ أَمْ مِثْلَهُ.
وَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْقِيَمِيِّ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ يَوْمَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ بِهِ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، فَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ سَبَبُ الضَّمَانِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ (الْهَلَاكُ)، لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ يَتَقَرَّرُ الْمِثْلُ أَوِ الْقِيمَةُ
39- أَمَّا لَوْ نَقَصَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالنَّقْصُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ- لَوْ نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَخَذَهُ الْبَائِعُ مَعَ تَضْمِينِ الْمُشْتَرِي أَرْشَ النُّقْصَانِ.
ب- وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، صَارَ بِذَلِكَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَبْسٌ عَنِ الْبَائِعِ، هَلَكَ عَلَى الْبَائِعِ.
ج- وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، خُيِّرَ الْبَائِعُ:
- فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْجَانِي.
- وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْجَانِيَ، وَهُوَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي.
سَادِسًا: ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ:
40- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، كَمَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ حَتَّى لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ، وَأَعْتَقَهُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَا يَنْفُذُ إِعْتَاقُهُ، وَلَوْلَا خِيَارُ الشَّرْطِ لِلْبَائِعِ لَنَفَذَ إِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمُفَادُهُ صِحَّةُ إِعْتَاقِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، لِزَوَالِ الْخِيَارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَكَمَا يَثْبُتُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، وَلِلْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِهِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
12-موسوعة الفقه الكويتية (حق 1)
حَقٌّ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْحَقُّ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ الْبَاطِلِ، وَهُوَ مَصْدَرُ، حَقَّ الشَّيْءُ يَحِقُّ إِذَا ثَبَتَ وَوَجَبَ.وَجَاءَ فِي الْقَامُوسِ أَنَّ الْحَقَّ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ وَالْمِلْكِ وَالْمَوْجُودِ الثَّابِتِ.وَمَعْنَى حَقَّ الْأَمْرُ وَجَبَ وَوَقَعَ بِلَا شَكٍّ، وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ.
وَالْحَقُّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ مِنْ صِفَاتِهِ.
وَمِنْ مَعَانِي الْحَقِّ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ، وَالْوَاجِبُ، وَالْيَقِينُ، وَحُقُوقُ الْعَقَارِ مَرَافِقُهُ.
وَالْحَقُّ فِي الِاصْطِلَاحِ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: هُوَ الْحُكْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى ذَلِكَ وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ.
وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ الثَّابِتِ.وَهُوَ قِسْمَانِ: حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعِبَادِ.
فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ، فَقَدْ عَرَّفَهُ التَّفْتَازَانِيُّ: بِأَنَّهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَدٍ، فَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِعِظَمِ خَطَرِهِ، وَشُمُولِ نَفْعِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: حَقُّ اللَّهِ مَا لَا مَدْخَلَ لِلصُّلْحِ فِيهِ، كَالْحُدُودِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ، كَحُرْمَةِ مَالِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ، فَهِيَ الَّتِي تَقْبَلُ الصُّلْحَ وَالْإِسْقَاطَ وَالْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحُكْمُ:
2- الْحُكْمُ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَوِ الْوَضْعِ، وَالْحَقُّ أَثَرٌ لِلْحُكْمِ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ.
فَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْحُكْمِ عَلَاقَةُ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ.
الْحَقُّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ:
3- الْمُرَادُ بِالْحَقِّ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ:
اتَّجَهَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الَّذِينَ ذَكَرُوا الْحَقَّ اتِّجَاهَيْنِ:
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْحُكْمُ، وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ أَوِ الْوَضْعِ.
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ أَمَّا الْأَحْكَامُ فَأَنْوَاعٌ: الْأَوَّلُ: حُقُوقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصَةً.وَالثَّانِي: حُقُوقُ الْعِبَادِ خَالِصَةً.وَالثَّالِثُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ.وَالرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَا مَعًا وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ.
ثُمَّ قَالَ عَلَاءُ الدِّينِ الْبُخَارِيُّ فِي شَرْحِهِ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ- رحمه الله- فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْحَقُّ: الْمَوْجُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي وُجُودِهِ، وَمِنْهُ: «السِّحْرُ حَقٌّ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ»، أَيْ مَوْجُودٌ بِأَثَرِهِ، وَهَذَا الدِّينُ حَقٌّ، أَيْ مَوْجُودٌ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلِفُلَانٍ حَقٌّ فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ، أَيْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ.وَيُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، أَوْ لِئَلاَّ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، مِثْلُ: حُرْمَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ، بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَثَابَةً لَهُمْ.وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْأَنْسَابِ، وَصِيَانَةِ الْفِرَاشِ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، لِأَنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ.وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ، لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ.بَلِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ، وَقَوِيَ نَفْعُهُ، وَشَاعَ فَضْلُهُ، بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً.
وَحَقُّ الْعَبْدِ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ، مِثْلُ: حُرْمَةِ مَالِهِ، فَإِنَّهَا حَقُّ الْعَبْدِ، لِيَتَعَلَّقَ صِيَانَةُ مَالِهِ بِهَا.فَلِهَذَا يُبَاحُ مَالُ الْغَيْرِ بِإِبَاحَةِ الْمَالِكِ، وَلَا يُبَاحُ الزِّنَى بِإِبَاحَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا بِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ تَيْسِيرِ التَّحْرِيرِ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي بِحَقِّ اللَّهِ مَا يَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ هُوَ اللَّهَ، وَبِحَقِّ الْعَبْدِ مَا يَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ هُوَ الْعَبْدَ.
وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: الْحَقُّ: الْمَوْجُودُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: حُكْمٌ يَثْبُتُ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: حَقُّ اللَّهِ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ.وَحَقُّ الْعَبْدِ: مَصَالِحُهُ.وَالتَّكَالِيفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ.وَالثَّانِي: حَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ، كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ.
وَالثَّالِثُ: قِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، أَوْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَنَعْنِي بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ: أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، وَإِلاَّ فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، مُشْكِلٌ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» فَيَقْتَضِي أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ نَفْسُ الْفِعْلِ، لَا الْأَمْرُ بِهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلْتُهُ قَبْلَ هَذَا.وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُئَوَّلٌ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْأَمْرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ، فَظَاهِرُهُ مُعَارِضٌ لِمَا حَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا: الصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ أَمْرُهُ بِهَا، إِذْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا لَمْ يَصْدُقْ أَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ نَفْسُ الْأَمْرِ، لَا الْفِعْلُ، وَمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مُئَوَّلٌ.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:
4- الْحَقُّ هُوَ الْفِعْلُ: ذَكَرَ سَعْدٌ التَّفْتَازَانِيُّ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْفِعْلُ فَقَالَ: الْمَحْكُومُ بِهِ (وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمُ الْمَحْكُومَ فِيهِ) هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الشَّارِعِ.فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ حِسًّا، أَيْ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْوَاقِعِ، بِحَيْثُ يُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ بِالْعَقْلِ، إِذِ الْخِطَابُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ أَصْلًا.
وَأَكَّدَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْفِعْلُ، فَقَالَ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: هُوَ مُتَعَلَّقُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، الَّذِي هُوَ عَيْنُ عِبَادَتِهِ، لَا نَفْسُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا، لِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وَقَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا».
الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ مَعْنَاهُ: اللاَّزِمُ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَاللاَّزِمُ عَلَى الْعِبَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا لَهُمْ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْكَسْبُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ كَلَامُهُ، وَكَلَامُهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ.
وَحَقُّ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَقُّهُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مَلْزُومُ عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ بِوَعْدِهِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَيُخَلِّصَهُ مِنَ النَّارِ.وَالثَّانِي: حَقُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي تَسْتَقِيمُ بِهِ أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ مَصَالِحِهِ.وَالثَّالِثُ: حَقُّهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِّمَمِ وَالْمَظَالِمِ.
وَفِي هَذَا تَأْيِيدٌ لِابْنِ الشَّاطِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ.لَا الْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا.
5- وَقَسَّمَ ابْنُ رَجَبٍ حُقُوقَ الْعِبَادِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
1- حَقُّ الْمِلْكِ
2- حَقُّ التَّمَلُّكِ كَحَقِّ الْوَالِدِ فِي مَالِ وَلَدِهِ وَحَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ.
3- حَقُّ الِانْتِفَاعِ كَوَضْعِ الْجَارِ خَشَبَةً عَلَى جِدَارِ جَارِهِ إِذَا لَمْ يَضُرُّهُ.
4- حَقُّ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْتَصُّ مُسْتَحِقُّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلشُّمُولِ وَالْمُعَاوَضَاتِ مِثْلُ مَرَافِقِ الْأَسْوَاقِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ.
5- حَقُّ التَّعَلُّقِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِثْلُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ.
الْمُرَادُ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
6- الْمُرَادُ بِالْحَقِّ غَالِبًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّجُلُ. وَإِطْلَاقَاتُ الْفُقَهَاءِ لِلْحَقِّ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً وَمُتَعَدِّدَةً، مِنْهَا:
1- إِطْلَاقُ الْحَقِّ عَلَى مَا يَشْمَلِ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ وَغَيْرَ الْمَالِيَّةِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: مَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ صَحَّ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، فَيَمْلِكُ تَأْجِيلَهُ.
2- الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ- غَيْرُ حُكْمِهِ- وَتَتَّصِلُ بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ.
مِثْلُ: تَسْلِيمِ الثَّمَنِ الْحَالِّ أَوَّلًا ثُمَّ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ سَلَّمَهُ أَوَّلًا، تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَلِهَذَا اشْتُرِطَ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالتَّأْجِيلِ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْآخَرِ.
3- الْأَرْزَاقُ الَّتِي تُمْنَحُ لِلْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ نُجَيْمٍ: مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ كَالْمُقَاتِلَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَتِهِمْ وَالْمُفْتِينَ وَالْفُقَهَاءِ يُفْرَضُ لِأَوْلَادِهِمْ تَبَعًا، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْأَصْلِ تَرْغِيبًا.
4- مَرَافِقُ الْعَقَارِ، مِثْلُ: حَقِّ الطَّرِيقِ، وَحَقِّ الْمَسِيلِ، وَحَقِّ الشُّرْبِ. 5- الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ، مِثْلُ: حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَحَقِّ الطَّلَاقِ لِلزَّوْجِ.
مَصْدَرُ الْحَقِّ:
7- مَصْدَرُ الْحَقِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِتَنْظِيمِ حَيَاةِ الْخَلْقِ، حَتَّى يَكُونُوا سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَكَانَ يُمْكِنُ أَلاَّ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ فَجَعَلَ لِلشَّخْصِ حُقُوقًا تُؤَدَّى لَهُ، وَكَلَّفَهُ بِأَدَاءِ حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْآخَرِينَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ وَبَلَّغَهُ مَا لَهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ عَنْ طَرِيقِ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي خُتِمَتْ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِمَا قَبْلَهَا وَعَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ.
فَمَا أَثْبَتَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ حَقًّا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَالْحَاكِمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحُقُوقُ هِيَ أَثَرُ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، قَالَ الشَّاطِبِيُّ إِنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَعِبَادَتُهُ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ بِإِطْلَاقٍ. فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُجَرَّدًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ جَاءَ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ.كَمَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ كُلَّ الْحُقُوقِ حَتَّى حَقَّ الْعَبْدِ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، فَقَالَ: كُلُّ تَكْلِيفٍ حَقُّ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا هُوَ لِلَّهِ فَهُوَ لِلَّهِ، وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ فَرَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أ- مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ.
ب- وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ لِلَّهِ أَلاَّ يَجْعَلَ لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا، إِذِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِهَا الْأَوَّلِ مُتَسَاوِيَةٌ، لَا قَضَاءَ لِلْعَقْلِ فِيهَا بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، فَإِذَنْ كَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةً هُوَ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ. 8- أَرْكَانُ الْحَقِّ هِيَ:
أ- صَاحِبُ الْحَقِّ، وَهُوَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الشَّخْصُ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ، كَالزَّوْجِ بِاعْتِبَارِهِ صَاحِبَ حَقٍّ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالنِّسْبَةِ لِطَاعَتِهِ.
أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ فِيهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْحَقِّ أَحَدٌ غَيْرَهُ، وَلِذَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إِسْقَاطَ حَقِّهِ تَعَالَى.
ب- مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ الشَّخْصُ الْمُكَلَّفُ بِالْأَدَاءِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمُكَلَّفُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ هُوَ مَنْ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ فَرْدًا كَمَا فِي فَرْضِ الْعَيْنِ، أَمْ جَمَاعَةً كَمَا فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَثَلًا.
ج- مَحِلُّ الْحَقِّ أَيْ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ، كَالْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.وَالْمَالُ حَقِيقَةٌ، كَالْقَدْرِ الْمَقْبُوضِ مِنَ الْمَهْرِ، وَهُوَ مُعَجَّلُ الصَّدَاقِ أَوْ حُكْمًا، كَالْقَدْرِ الْمُؤَخَّرِ مِنَ الْمَهْرِ لِأَقْرَبِ الْأَجَلَيْنِ، وَكَذَا سَائِرُ الدُّيُونِ.وَالِانْتِفَاعُ، كَحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ.وَالْعَمَلُ، مِثْلُ: مَا تَقُومُ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ أَعْمَالٍ، وَتَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا.وَالِامْتِنَاعُ عَنْ عَمَلٍ، مِثْلُ: عَدَمِ فِعْلِ الزَّوْجَةِ مَا يُغْضِبُ اللَّهَ أَوْ يُغْضِبُ الزَّوْجَ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَمْنُوعٍ شَرْعًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ شَرْعًا إِلاَّ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ حَقًّا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْمُطَالَبَةُ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، مِثْلُ: تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مَشْرُوعٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا دَائِمًا فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا فِي حَالِ الْحَيْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.
أَقْسَامُ الْحَقِّ:
9- يُقَسَّمُ الْحَقُّ إِلَى تَقْسِيمَاتٍ عِدَّةٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ، وَبِاعْتِبَارِ وُجُودِ حَقِّ الْعَبْدِ وَعَدَمِهِ، بِاعْتِبَارِ إِسْقَاطِ الْعَبْدِ لِلْحَقِّ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ، وَبِاعْتِبَارِ إِسْقَاطِ الْإِسْلَامِ لِلْحَقِّ وَعَدَمِ إِسْقَاطِهِ لَهُ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى وَعَدَمِ مَعْقُولِيَّتِهِ، وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ خُلُوِّ كُلِّ حَقٍّ مِنْ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٍّ لِلْعَبْدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ التَّامِّ وَالْحَقِّ الْمُخَفَّفِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُحَدَّدِ وَغَيْرِ الْمُحَدَّدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمُخَيَّرِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ، وَبِاعْتِبَارِ مَا يُورَثُ مِنَ الْحُقُوقِ وَمَا لَا يُورَثُ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ وَغَيْرِ الْمَالِيِّ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الدِّيَانِيِّ وَالْقَضَائِيِّ، أَوِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَرْجِعُ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ، إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ.
أَوَّلًا: بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ:
10- يُقَسَّمُ الْحَقُّ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: لَازِمٌ، وَجَائِزٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْحَقُّ اللاَّزِمُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ عَلَى جِهَةِ الْحَتْمِ، فَإِذَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ أَوْجَدَ فِي مُقَابِلِهِ وَاجِبًا، وَقَرَّرَ هَذَا الْوَاجِبَ عَلَى الْآخَرِينَ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، فَالْحَقُّ وَالْوَاجِبُ فِي الْمُقَابِلِ قَدْ وُجِدَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، دُونَ تَخَلُّفِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ، كَحَقِّ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَجِبُ، فَمِثْلًا: حَقُّ الْحَيَاةِ حَقٌّ لِكُلِّ شَخْصٍ، وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ- أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا- أَنْ يَحْتَرِمُوا هَذَا الْحَقَّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، أَوْ حِرْمَانُهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يُسْتَعْبَدُ الْحُرُّ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْمِلْكِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُقُوقِ. وَإِذَا كَانَ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْحُقُوقِ حَقٌّ، وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ عَدَمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ حَقًّا فِي عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِهِمْ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْحَقُّ الْجَائِزُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ حَتْمٍ، وَإِنَّمَا يُقَرِّرُهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ.مِثَالُهُ أَمْرُ الْمُحْتَسِبِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ أَوْ مِنَ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا، هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا مَسْنُونَةٌ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا نَدْبًا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا حَتْمًا.ثَانِيًا: تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ:
11- قَسَّمَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ الْحُقُوقَ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
حُقُوقُ اللَّهِ الْخَالِصَةُ، حُقُوقُ الْعِبَادِ الْخَالِصَةُ، مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ لَكِنْ حَقُّ اللَّهِ غَالِبٌ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ لَكِنْ حَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ.
الْقَسَمُ الْأَوَّلُ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةُ:
12- حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ، فَلَا يُخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ هَذَا الْحَقُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، أَوْ لِئَلاَّ يُخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَثَابَةً لَهُمْ، وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْأَنْسَابِ، وَصِيَانَةِ الْفِرَاشِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الْحَقُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّضَرُّرِ أَوِ الِانْتِفَاعِ هُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الْكُلِّ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ، لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، بَلِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ، وَقَوِيَ نَفْعُهُ، وَشَاعَ فَضْلُهُ، بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً، فَبِاعْتِبَارِ التَّخْلِيقِ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَنْوَاعُ حُقُوقِ اللَّهِ الْخَالِصَةِ:
13- حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ:
أ- عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، مِثْلُ: الْإِيمَانِ، وَالصَّلَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ.وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، لِأَنَّهَا قُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعُدَّتْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
ب- عِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، مِثْلُ: صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْمَالِ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَئُونَةُ هِيَ الْوَظِيفَةُ الَّتِي تَعُودُ بِالنَّفْعِ الْعَامِّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
وَإِنَّمَا كَانَتْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ نَفْسِهِ وَبِسَبَبِ غَيْرِهِ، وَهُمُ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ.
وَلِكَوْنِهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُخْرِجِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً خَالِصَةً، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْخَالِصَةَ لَا تَجِبُ بِسَبَبِ الْغَيْرِ.
أَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- فَفِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الشَّخْصِ بِسَبَبٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، وَهُوَ مَلَكِيَّتُهُ لِلْمَالِ الْمُسْتَوْفِي لِشُرُوطِ الزَّكَاةِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى بَقَائِهِ زَائِدًا عَنْ حَاجَتِهِ، وَعَدَمِ هَلَاكِهِ.
كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ مُسَاعِدَةٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ. ج- مَئُونَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، مِثْلُ: زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعَشْرِ عَلَى الزَّارِعِ حَسَبَ شُرُوطِهَا.وَإِنَّمَا كَانَتْ مَئُونَةً، لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا عَلَى نَمَاءِ الْأَرْضِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَتَجِبُ بِسَبَبِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، اعْتِرَافًا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْبِتُ وَالرَّازِقُ، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}.
وَإِنَّمَا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ لأُِمُورٍ: مِنْهَا:
1- أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَطْ، وَلَمْ تَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ مِنَ الزُّرَّاعِ، وَالْعِبَادَةُ لَا يُكَلَّفُ بِهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ.
2- أَنَّهَا تُعْطَى لِفِئَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِمَّنْ تَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَلَا يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَهَا لِلْأَغْنِيَاءِ.
د- مَئُونَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، مِثْلُ: الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.
وَهُوَ الْوَظِيفَةُ الْمُبَيَّنَةُ الْمَوْضُوعَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ التَّمَكُّنِ مِنْ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ، وَبَقَائِهَا تَحْتَ أَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا الْمَئُونَةُ فَلِتَعَلُّقِ بَقَاءِ الْأَرْضِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ هُمْ مَصَارِفُ الْخَرَاجِ.وَالْعُقُوبَةُ لِلِانْقِطَاعِ بِالزِّرَاعَةِ عِنْدَ الْجِهَادِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ بِصِفَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الزِّرَاعَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهَا عُمَارَةٌ لِلدُّنْيَا، وَإِعْرَاضٌ عَنِ الْجِهَادِ.وَهُوَ سَبَبُ الذُّلِّ شَرْعًا، فَكَانَ الْخَرَاجُ فِي الْأَصْلِ صَغَارًا.
هـ- حُقُوقٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَهِيَ الْكَفَّارَاتُ، مِثْلُ: كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَكَفَّارَةِ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، وَالْكَفَّارَةُ عُقُوبَةٌ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ جَزَاءً عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْظُورِ شَرْعًا، فَالْعُقُوبَةُ فِي الْكَفَّارَةِ مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فِي الْكَفَّارَاتِ فَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْأَدَاءِ، لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، مِثْلُ: الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ وَالْعِتْقِ.
أَمَّا كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِفْطَارِ عَمْدًا شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَمَّا كَانَتْ جِنَايَةُ الْمُفْطِرِ عَمْدًا كَامِلَةً، كَانَ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُفْطِرَ لَيْسَ مُبْطِلًا لِحَقِّ اللَّهِ الثَّابِتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَانِعٌ مِنْ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الزَّجْرُ عُقُوبَةً مَحْضَةً، لِأَنَّ تَقْصِيرَهُ كَانَ لِضَعْفِهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَعَ التَّسْلِيمِ بِخَطَئِهِ وَقُبْحِ فِعْلِهِ.
أَمَّا بَقِيَّةُ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ فِيهَا تَبَعٌ.
و- عُقُوبَةٌ خَالِصَةٌ وَهِيَ الْحُدُودُ، مِثْلُ: حَدِّ السَّرِقَةِ، وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَحَدِّ الزِّنَى.
ز- عُقُوبَةٌ قَاصِرَةٌ وَهِيَ حِرْمَانُ الْقَاتِلِ مِنَ الْإِرْثِ، إِذَا قَتَلَ الْوَارِثُ الْبَالِغُ مُورِثَهُ.وَإِنَّمَا كَانَتْ قَاصِرَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقِ الْقَاتِلَ أَلَمٌ فِي بَدَنِهِ وَلَا نُقْصَانٌ فِي مَالِهِ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعٍ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي التَّرِكَةِ، فَهِيَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً كَامِلَةً أَصْلِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ عُقُوبَةٌ إِضَافِيَّةٌ لِلْعُقُوبَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْقَتْلِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ غَيْرَ عَمْدٍ، لِأَنَّهُ قَصَدَ حِرْمَانَ هَذَا الْقَاتِلِ مِنْ تَحْقِيقِ هَدَفِهِ، وَهُوَ تَعَجُّلُ الْمِيرَاثِ، وَلِذَلِكَ حُرِمَ مِنَ الْمِيرَاثِ الَّذِي يَأْتِي إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَقْتُولِ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ.
ح- حَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ثَبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، مِثْلُ: الْخُمْسِ فِي الْغَنَائِمِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
وَمِثْلُ: خُمُسِ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْبِحَارِ مِنْ مَعَادِنَ وَنِفْطٍ وَفَحْمٍ حَجَرِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَقُّ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّةِ شَخْصٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكٍ شَخْصٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُ زَكَاةً أَوْ صَدَقَةً تَبَرُّعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ إِعْلَاءٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَنَشْرٌ لِدِينِهِ، وَذَلِكَ بِإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ أَيًّا كَانَتْ أَمَامَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ النَّاصِرُ لِلْمُسْلِمِينَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فَالْغَنَائِمُ كُلُّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لِلْمُحَارِبِينَ حَقًّا فِي الْغَنِيمَةِ، حَيْثُ مَنَحَهُمْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، وَبَقِيَ الْخُمُسُ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ، حَقًّا لَهُ، فَيَكُونُ طَاهِرًا فِي ذَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَدَاةً لِلتَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ، فَلَا يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ دَنَسًا أَوْ وِزْرًا، وَلِذَلِكَ جَازَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَآلِهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا تَحِلُّ لَهُمْ.
وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِعْطَاءُ الْمَعْدِنِ وَالنِّفْطِ لِلَّذِي وَجَدَهُ وَاسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَمُسْتَحَقًّا لِلصَّدَقَةِ كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الْخُمُسِ لِغَيْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صَدَقَةً وَلَا عِبَادَةً وَلَا مَئُونَةً وَلَا عُقُوبَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ حَتَّى يَأْخُذَ صِفَةً مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: حَقُّ الْعَبْدِ الْخَالِصُ
14- حَقُّ الْعَبْدِ الْخَالِصُ هُوَ: مَا كَانَ نَفْعُهُ مُخْتَصًّا بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، مِثْلُ: حُقُوقِ الْأَشْخَاصِ الْمَالِيَّةِ أَوِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ، كَحَقِّ الدِّيَةِ، وَحَقِّ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَحَقِّ اسْتِرْدَادِ الْمَغْصُوبِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، أَوْ حَقِّ اسْتِرْدَادِ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ هَالِكًا.
فَتَحْرِيمُ مَالِ الشَّخْصِ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ لِهَذَا الشَّخْصِ.حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ حِمَايَةِ مَالِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ أَنْ يُحِلَّ مَالَهُ لِغَيْرِهِ بِالْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ وَلَكِنَّ حَقَّ اللَّهِ غَالِبٌ:
15- مِثَالُهُ: حَدُّ الْقَذْفِ بَعْدَ تَبْلِيغِ الْمَقْذُوفِ، وَثُبُوتُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ. فَلِلْعَبْدِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ بِالزِّنَى قَدِ اتُّهِمَ فِي عِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَلِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى مِسَاسٌ بِالْأَعْرَاضِ عَلَنًا، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ، وَانْتِشَارِ الْأَلْفَاظِ الْمُخِلَّةِ بِالْآدَابِ.وَغَلَبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَتَحَتَّمَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، لِاعْتِدَائِهِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَعَلَى الْمَقْذُوفِ، وَلِكَيْ يَمْنَعَ الْمَقْذُوفَ مِنَ التَّنَازُلِ عَنْ حَقِّهِ، أَوِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ، أَوْ تَوَلِّي تَنْفِيذِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ مَا يَأْتِي:
أ- تَدَاخُلُ الْعُقُوبَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ فَقَطْ.
ب- لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ.
ج- لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ.
د- تَتَنَصَّفُ الْعُقُوبَةُ بِالرِّقِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.
هـ- يُفَوَّضُ تَنْفِيذُ الْحَدِّ لِلْإِمَامِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ لَكِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ غَالِبٌ:
16- مِثْلُ: الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا عُدْوَانًا.
فَلِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْمُجْتَمَعِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى مَخْلُوقِ اللَّهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي حَرَّمَ دَمَهُ إِلاَّ بِحَقٍّ، وَلِلَّهِ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
وَلِلْعَبْدِ فِي الْقِصَاصِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَخْصِهِ، لِأَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ حَقَّ الْحَيَاةِ، وَحَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَحَرَمَهُ الْقَاتِلُ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمْ مِنْ رِعَايَةِ مُورَثِهِمْ، وَاسْتِمْتَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ.فَكَانَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ اعْتِدَاءً عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ إِبْقَاءٌ لِلْحَقَّيْنِ، وَإِخْلَاءٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْفَسَادِ.تَصْدِيقًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وَغَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ، لِأَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ يَمْلِكُ رَفْعَ دَعْوَى الْقِصَاصِ أَوْ عَدَمَ رَفْعِهَا، وَبَعْدُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِصَاصِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْجَانِي الْقَاتِلِ يَمْلِكُ التَّنَازُلَ عَنْهُ وَالصُّلْحَ عَلَى مَالٍ أَوِ الصُّلْحَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَمَا يَمْلِكُ تَنْفِيذَ حُكْمِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَكَانَ يُتْقِنُ التَّنْفِيذَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، لِئَلاَّ يُفْتَاتَ عَلَيْهِ، فَلَوْ فَعَلَ وَقَعَ الْقِصَاصُ مَوْقِعَهُ وَاسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
13-موسوعة الفقه الكويتية (خلع 2)
خَلْعٌ -2ب- مَرَضُ الزَّوْجِ:
19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ خُلْعَ الزَّوْجِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ بِالْمُسَمَّى، سَوَاءٌ أَكَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَمْ أَقَلَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَصَحَّ، فَلأَنْ يَصِحَّ بِعِوَضٍ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَفُوتُهُمْ بِخَلْعِهِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ الْمَرِيضِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَنْ حَضَرَ صَفَّ الْقِتَالِ، وَالْمَحْبُوسُ لِقَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ وَارِثٍ وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ أَمَاتَ فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي خَالَعَهَا فِيهِ، وَلَوْ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَلَوْ أَزْوَاجًا، أَمَّا هُوَ فَلَا يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَرِيضَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَسْقَطَ مَا كَانَ بِيَدِهِ، وَتَرِثُهُ أَيْضًا إِذَا تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِخُلْعِهَا مِنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِهَذَا الطَّلَاقِ فَيُعْتَبَرَ الزَّوْجُ فَارًّا، فَلَوْ أَوْصَى الزَّوْجُ لَهَا بِمِثْلِ مِيرَاثِهَا أَوْ أَقَلَّ صَحَّ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي أَنَّهُ أَبَانَهَا لِيُعْطِيَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْنِهَا لأَخَذَتْهُ بِمِيرَاثِهَا، وَإِنْ أَوْصَى لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَلِلْوَرَثَةِ مَنْعُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اتُّهِمَ فِي أَنَّهُ قَصَدَ إِيصَالَ ذَلِكَ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ، فَطَلَّقَهَا لِيُوصِلَ ذَلِكَ إِلَيْهَا فَمُنِعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ.
خُلْعُ الْوَلِيِّ:
20- يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِوَلِيِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُمَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلِيُّ أَبًا لِلزَّوْجِ أَمْ وَصِيًّا أَمْ حَاكِمًا أَمْ مُقَامًا مِنْ جِهَتِهِ، إِذَا كَانَ الْخُلْعُ مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِمَا بِلَا عِوَضٍ، وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ اللَّخْمِيِّ جَوَازَهُ لِمَصْلَحَةٍ، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ فَسَادٌ لِأَمْرٍ ظَهَرَ أَوْ حَدَثَ.
وَأَمَّا وَلِيُّ السَّفِيهِ فَلَا يُخَالِعُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الزَّوْجِ الْمُكَلَّفِ وَلَوْ سَفِيهًا أَوْ عَبْدًا لَا بِيَدِ الْأَبِ، فَأَوْلَى غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ.
وَالْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلَاقُهُ بِالْمِلْكِ، أَوِ الْوَكَالَةِ، أَوِ الْوِلَايَةِ كَالْحَاكِمِ فِي الشِّقَاقِ.
وَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَخْلَعَ زَوْجَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأَشْهَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ ».
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَيَّدَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَرَجَّحَهَا صَاحِبُ الْمُبْدِعِ إِلَى أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- طَلَّقَ عَلَى ابْنٍ لَهُ مَعْتُوهٍ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَحَّ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا شَأْنُهُ كَالْحَاكِمِ يَفْسَخُ لِلْإِعْسَارِ وَيُزَوِّجُ الصَّغِيرَ.
وَأَمَّا خُلْعُ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، إِذِ الْبُضْعُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنَ الثُّلُثِ، وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.
وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَالَهَا وَلِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَمَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ رِوَايَتَيْنِ مَنْشَؤُهُمَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الطَّلَاقِ وَأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى لُزُومِ الْمَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى لِأَنَّ لِسَانَ الْأَبِ كَلِسَانِهَا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوا خُلْعَ الْمُجْبِرِ كَأَبٍ عَنِ الْمُجْبَرَةِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْبِرِ كَوَصِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَمَّنْ تَحْتَ إِيصَائِهِ مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَكَذَا بِإِذْنِهَا عَلَى الْأَرْجَحِ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُبْدِعِ بِلَفْظِ قِيلَ: إِنَّهُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا رَأَى الْحَظَّ فِيهِ كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُتْلِفُ مَالَهَا وَيُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَعَقْلِهَا، وَالْأَبُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا خَالَعُوا فِي حَقِّ الْمَجْنُونَةِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ، صَرَّحَ بِهِ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَمِنَ الْوَلِيِّ أَوْلَى.
خُلْعُ الْفُضُولِيِّ:
21- لِلْفُقَهَاءِ فِي خُلْعِ الْفُضُولِيِّ اتِّجَاهَانِ:
الْأَوَّلُ: جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ بِقَيْدٍ وَهُوَ أَنْ يُضِيفَ الْبَدَلَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ ضَمَانَهُ لَهُ أَوْ مِلْكَهُ إِيَّاهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اخْلَعْهَا بِأَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ أَوْ عَلَى أَلْفَيْ هَذِهِ، فَإِنْ أَرْسَلَ الْخُلْعَ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْجَمَلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ لَزِمَهَا تَسْلِيمُهُ، أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ عَجَزَتْ، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ كَجَمَلِ فُلَانٍ اعْتُبِرَ قَبُولُ فُلَانٍ.
وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ قَصَدَ الْفُضُولِيُّ بِذَلِكَ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةِ أَوْ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا عَنِ الزَّوْجِ كَمَا فِي ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَيَّدَ صِحَّتَهُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْفُضُولِيِّ إِسْقَاطَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عَنِ الزَّوْجِ فَإِنْ قَصَدَ إِسْقَاطَهَا عَنْهُ فَقَدْ حُكِيَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أ- يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبُرْزُلِيُّ.
ب- يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ.
ج- يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ وَيَجْرِي مِثْلُ هَذَا فِيمَنْ قَصَدَ دَفْعَ الْعِوَضِ لِيَتَزَوَّجَهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى جَوَازِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ طَلَاقٍ أَمْ خُلْعٍ، فَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَاخْتِلَاعِ الزَّوْجَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ تَعْلِيقٍ، وَمِنْ جَانِبِ الْأَجْنَبِيِّ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ جَعَالَةٍ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِلْفُضُولِيِّ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِكَ فَقَبِلَ، أَوْ قَالَ الْفُضُولِيُّ لِلزَّوْجِ: طَلِّقِ امْرَأَتَكَ عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِي فَأَجَابَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِالْمُسَمَّى، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْفُضُولِيِّ نَظَرًا لِشَوْبِ التَّعْلِيقِ، وَلِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ إِجَابَةِ الزَّوْجِ نَظَرًا لِشَوْبِ الْجَعَالَةِ.
وَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ فَيَكُونَ الْتِزَامُهُ لِلْمَالِ فِدَاءً لَهَا، كَالْتِزَامِ الْمَالِ لِعِتْقِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُسِيءُ عِشْرَتَهَا وَيَمْنَعُهَا حُقُوقَهَا.
الثَّانِي: عَدَمُ الصِّحَّةِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَمَنْ قَالَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّهُ يَبْذُلُ عِوَضًا فِي مُقَابَلَةِ مَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَسْخَ بِلَا سَبَبٍ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ فَلَا يَصِحُّ طَلَبُهُ مِنْهُ.
التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ:
22- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْخُلْعِ جَائِزٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَمِنْ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا، وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْخُلْعِ لِنَفْسِهِ جَازَ تَوْكِيلُهُ وَوَكَالَتُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ رَشِيدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْخُلْعَ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا وَمُوَكِّلًا فِيهِ.وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ تَوْكِيلَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ عَنِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ بِالْخُلْعِ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا حَتَّى وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ إِلاَّ إِذَا أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهَا فَتَبِينُ وَيَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا تَوْكِيلُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فِي قَبْضِ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ فَإِنْ وَكَّلَهُ وَقَبَضَ، فَفِي التَّتِمَّةِ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ يَبْرَأُ وَالْمُوَكِّلُ مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ وَأَقَرَّهُ الشَّيْخَانِ.
وَالْأَصَحُّ: عِنْدَهُمْ أَيْضًا صِحَّةُ تَوْكِيلِهِ امْرَأَةً لِخُلْعِ زَوْجَتِهِ أَوْ طَلَاقِهَا لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، وَذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ أَوْ تَوْكِيلٌ بِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ امْرَأَةً بِاخْتِلَاعِهَا جَازَ بِلَا خِلَافٍ لِاسْتِقْلَالِ الْمَرْأَةِ بِالِاخْتِلَاعِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يَتَوَلَّى طَرَفًا مِنْهُ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَلَا يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ:
إِنَّهُ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْخُلْعَ يَكْفِي فِيهِ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ، يَقَعُ الطَّلَاقُ خُلْعًا.
وَالْوَكِيلُ فِي الْخُلْعِ لَا يَنْعَزِلُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
هَذَا وَيَكُونُ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اسْتِدْعَاءُ الْخُلْعِ- أَوِ الطَّلَاقِ- وَتَقْدِيرُ الْعِوَضِ وَتَسْلِيمُهُ.
وَيَكُونُ تَوْكِيلُ الرَّجُلِ أَيْضًا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: شَرْطُ الْعِوَضِ- وَقَبْضُهُ- وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ أَوِ الْخُلْعِ.
وَالتَّوْكِيلُ جَائِزٌ مَعَ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ وَمِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَصَحَّ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ إِلاَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ أَسْلَمُ مِنَ الْغَرَرِ، وَأَسْهَلُ عَلَى الْوَكِيلِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الِاجْتِهَادِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ تَوْكِيلَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّرَا الْعِوَضَ كَمِائَةٍ مَثَلًا.
وَالثَّانِي أَنْ يُطْلِقَا الْوَكَالَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، كَأَنْ يُوَكِّلَاهُ فِي الْخُلْعِ فَقَطْ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجِ أَوْ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَنْ يَفْعَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُودَ بِالنَّفْعِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، فَلَا يُنْقِصُ وَكِيلُ الزَّوْجِ عَمَّا قَدَّرَهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فَلْيَفْعَلْ وَكَذَا وَكِيلُ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَمَّا قَدَّرَتْهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَخْلَعَهَا بِأَقَلَّ مِنْهُ فَلْيَفْعَلْ.وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجِ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يُخَالِعَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ بِأَكْثَرَ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَيْضًا أَنْ لَا يَخْلَعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ.
عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ:
23- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي قَوْلٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- « أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عِدَّتَهَا حَيْضَةً ».
وَبِأَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَضَى بِهِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}.وَلِأَنَّ الْخُلْعَ فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَكَانَتِ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَغَيْرِ الْخُلْعِ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُعَوَّضُ وَهُوَ الْبُضْعُ:
24- يُشْتَرَطُ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ، فَأَمَّا الْبَائِنُ بِخُلْعٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ خُلْعُهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا أَنْ يُصَادِفَ مَحَلًّا، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بَائِنًا وَقْتَ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَتَسْتَرِدُّ الزَّوْجَةُ الْمَالَ الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا الْتَزَمَتْهُ مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا، أَوْ نَفَقَةِ حَمْلٍ، أَوْ إِسْقَاطِ حَضَانَتِهَا.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ مَعَ الزَّوْجَةِ الَّتِي فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا، حَقِيقَةً، وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُفَارِقْ زَوْجَهَا بِطَلَاقٍ بَائِنٍ وَنَحْوِهِ، كَاللِّعَانِ مَثَلًا، أَوْ حُكْمًا، وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ زَوْجَةٌ وَالنِّكَاحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا قَائِمٌ، وَتَسْرِي عَلَيْهَا كَافَّةُ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، إِلاَّ أَنَّ الْخِرَقِيَّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي عَنْهُ (وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةٌ طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا؟ فَهُوَ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ شَاكٌّ فِي التَّحْلِيلِ) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهَا مُبَاحَةٌ.
وَأَمَّا مُخَالَعَةُ الزَّوْجِ لَهَا أَيِ الرَّجْعِيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ فَتَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا تَسْتَرِدُّ الْمَالَ الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ وَلَزِمَ الزَّوْجَ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلْقَةً أُخْرَى بَائِنَةً، وَتَصِحُّ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ سِوَى الْخِرَقِيِّ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ صَحَّ طَلَاقُهَا فَصَحَّ خُلْعُهَا كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ مُخَالَعَتِهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الِافْتِدَاءِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بِلَفْظِ، قِيلَ: إِلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَصِحُّ خُلْعُهَا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ الثَّانِيَةِ لِتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى، هَذَا وَيَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا صِحَّةُ مُخَالَعَتِهَا لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ.
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعِوَضُ:
25- الْعِوَضُ مَا يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ فِي مُقَابِلِ خُلْعِهِ لَهَا، وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنْ يَصْلُحَ جَعْلُهُ صَدَاقًا، فَإِنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ خُلْعٍ.
وَالْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً وَذَلِكَ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنَةً، كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، أَوْ مُطَلَّقَةً كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ، فَإِنْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ، أَوِ الصَّبِيُّ، أَوْ جَفَّ لَبَنُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، أَوْ مِثْلُهُ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قَفِيزٍ فَهَلَكَ قَبْلَ قَبْضِهِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ إِخْرَاجُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْكَنِهَا الَّذِي طَلُقَتْ فِيهِ لِأَنَّ سُكْنَاهَا فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ لَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَبَانَتْ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَحَمَّلَ هِيَ أُجْرَةَ الْمَسْكَنِ مِنْ مَالِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ السُّكْنَى وَلِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
26- وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَمُتَمَوَّلًا وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ صَحِيحًا.
أَمَّا إِذَا فَسَدَ الْعِوَضُ بِاخْتِلَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، كَاخْتِلَالِ شَرْطِ الْعِلْمِ، أَوِ الْمَالِيَّةِ، أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ فَاسِدًا، وَفِيهِ خِلَافٌ، سَبَبُهُ تَرَدُّدُ الْعِوَضِ هَاهُنَا بَيْنَ الْعِوَضِ فِي الْبُيُوعِ، أَوِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْهُوبَةِ، أَوِ الْمُوصَى بِهَا فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْبُيُوعِ اشْتَرَطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبُيُوعِ وَفِي أَعْوَاضِ الْبُيُوعِ.وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْهِبَاتِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ ذَلِكَ.
وَتَتَلَخَّصُ أَحْكَامُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
الْأُولَى: الْخُلْعُ بِالْمَجْهُولِ وَبِالْمَعْدُومِ وَبِالْغَرَرِ أَوْ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
الْخُلْعُ بِالْمَجْهُولِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عِنْدَهُمْ إِسْقَاطٌ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْعِوَضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُحُ، فَيَجُوزُ بِالْمَجْهُولِ إِلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ الْمُسْتَدْرَكِ الْجَهَالَةِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهَا، وَرُكُوبِ دَابَّتِهَا، وَخِدْمَتِهَا لَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ خَلْوَتُهُ بِهَا، أَوْ خِدْمَةُ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ مَهْرًا.
وَيَجُوزُ الْخُلْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُولِ وَالْغَرَرِ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ تُخَالِعَ زَوْجَهَا بِمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِهَا، وَمِثْلُهُ الْآبِقُ، وَالشَّارِدُ، وَالثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَبِحَيَوَانٍ، وَعَرْضٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، أَوْ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ بِهِ، لَا مِنْ وَسَطِ مَا يُخَالَعُ بِهِ النَّاسُ وَلَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ حَالُ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا انْفَشَّ الْحَمْلُ الَّذِي وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مُجَوِّزٌ لِذَلِكَ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ.
وَيَصِحُّ الْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُولِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعْنًى يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْعِوَضَ الْمَجْهُولَ كَالْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْخُلْعَ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنَ الْبُضْعِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ شَيْءٍ، وَالْإِسْقَاطُ تَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ وَلِذَلِكَ جَازَ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى رِوَايَةٍ.
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مَا فِيهِ غَرَرٌ كَالْمَجْهُولِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْخُلْعِ بِالْمَجْهُولِ وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ عَلَى مَا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَا ذُكِرَ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَلَوْ خَالَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بَانَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ.
الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الصِّيغَةُ:
27- صِيغَةُ الْخُلْعِ هِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ.
أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَهُمَا رُكْنَا الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ بِعِوَضٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ إِنْ بَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ مُعَاوَضَةٍ، كَقَوْلِهِ خَالَعْتُكِ عَلَى كَذَا الْقَبُولُ لَفْظًا مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النُّطْقُ، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَبِالْكِتَابَةِ مِنْهُمَا، وَأَنْ لَا يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْجَوَابُ لِإِشْعَارِهِ بِالْإِعْرَاضِ بِخِلَافِ الْيَسِيرِ مُطْلَقًا، وَالْكَثِيرِ مِمَّنْ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الْجَوَابُ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ عَلَى وَفْقِ الْإِيجَابِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ بِأَلْفَيْنِ، وَعَكْسُهُ كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفَيْنِ فَقَبِلَتْ بِأَلْفٍ، أَوْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً بِثُلُثِ أَلْفٍ، فَلَغْوٌ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِلْمُخَالَفَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي الْإِثْبَاتِ، كَمَتَى أَوْ مَتَى مَا، أَوْ أَيْ حِينٍ، أَوْ زَمَانٍ، أَوْ وَقْتٍ أَعْطَيْتنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ لَفْظًا؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَا تَقْتَضِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِعْطَاءُ فَوْرًا فِي الْمَجْلِسِ أَيْ مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ.بِخِلَافِ مَا لَوِ ابْتَدَأَ (بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ مَتَى لَمْ تُعْطِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ) وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ: مَتَى طَلَّقْتَنِي فَلَكَ
عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنَّ الْجَوَابَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ.
تَعْلِيقُ الْخُلْعِ بِالشَّرْطِ:
28- الْخُلْعُ إِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ بِأَنْ كَانَتْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِسُؤَالِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهِ يَمِينٌ، وَمِثْلُهُ الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَعْلِيقَ الْخُلْعِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ.
شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ:
29- يَصِحُّ لِلزَّوْجَةِ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ لَا لِلزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَصِحُّ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ إِيجَابَ الزَّوْجِ يَمِينٌ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَصَحَّتْ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جَانِبِهِ طَلَاقًا وَقَبُولُهَا شَرْطُ الْيَمِينِ فَلَا يَصِحُّ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لَا لِلْمَنْعِ مِنَ الِانْعِقَادِ، وَالْيَمِينُ وَشَرْطُهَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جِهَتِهَا مَالًا، وَلِهَذَا يَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْلَ الْقَبُولِ، وَلَا تَصِحُّ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ، بَلْ هُوَ مَانِعٌ مِنَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَكَوْنُهُ شَرْطًا لِيَمِينِ الزَّوْجِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً فِي نَفْسِهِ.
أَلْفَاظُ الْخُلْعِ:
30- أَلْفَاظُ الْخُلْعِ سَبْعَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ: خَالَعْتُكِ- بَايَنْتُكِ- بَارَأْتُكِ- فَارَقْتُكِ- طَلِّقِي نَفْسَكِ عَلَى أَلْفٍ- وَالْبَيْعُ كَبِعْتُ نَفْسَكِ- وَالشِّرَاءُ كَاشْتَرِي نَفْسَكِ.
وَلَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ وَهِيَ: الْخُلْعُ وَالْفِدْيَةُ، وَالصُّلْحُ، وَالْمُبَارَأَةُ وَكُلُّهَا تَئُولُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا.
وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ: فَالصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ لَفْظَانِ: لَفْظُ خُلْعٍ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْعُرْفُ.وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ لَفْظَ فَسْخٍ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ.وَهُوَ مِنْ كِنَايَاتِ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْ كِنَايَاتِهِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا بَيْعٌ.
وَلَفْظُ بَارَأْتُكِ، وَأَبْرَأْتُكِ، وَأَبَنْتُكِ، وَصَرِيحُ خُلْعٍ وَكِنَايَتُهُ، كَصَرِيحِ طَلَاقٍ وَكِنَايَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِذَا طَلَبَتِ الْخُلْعَ وَبَذَلَتِ الْعِوَضَ فَأَجَابَهَا بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَكِنَايَتِهِ، صَحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ مِنْ سُؤَالِ الْخُلْعِ، وَبَذْلَ الْعِوَضِ صَارِفَةٌ إِلَيْهِ فَأَغْنَى عَنِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلَالَةَ حَالٍ فَأَتَى بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ، وَلَا يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مِمَّنْ تَلَفَّظَ بِهِ مِنْهُمَا، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ مَعَ صَرِيحِهِ.
اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي عِوَضِهِ:
31- إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجَةُ تُنْكِرُهُ بَانَتْ بِإِقْرَارِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا دَعْوَى الْمَالِ فَتَبْقَى بِحَالِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ كَيْفَمَا كَانَ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُصَدَّقُ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِيمَا لَوْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا بِعَشَرَةٍ فَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِعَشَرَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِلَا يَمِينٍ، وَوَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّوْجُ هِيَ مُدَّعِيَةٌ لَهُ، وَكُلُّ دَعْوَى لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِعَدْلَيْنِ فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا، وَالْمَنْقُولُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ، وَلَا يُقَالُ تَحْلِفُ وَيَثْبُتُ مَا تَدَّعِيهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ مَعَ الْحَلِفِ وَتَبِينُ مِنْهُ فِي اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْخُلْعِ، وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً فِي غَيْرِهِ.
أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ حُلُولِهِ، أَوْ تَأْجِيلِهِ، أَوْ صِفَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا أَيْضًا بِيَمِينِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي أَصْلِهِ فَكَذَا فِي صِفَتِهِ؛ وَلِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ، أَوِ الصِّفَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ » وَعَلَى الْقَوْلِ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا يُقَالُ يَتَحَالَفَانِ كَالْمُتَبَايِعِينَ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ، وَالْخُلْعُ فِي نَفْسِهِ فَسْخٌ فَلَا يُفْسَخُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي عِوَضِهِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَعَارَضَتَا تَحَالَفَا كَالْمُتَبَايِعِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ وَمَنْ يَبْدَأُ بِهِ.وَيَجِبُ بِبَيْنُونَتِهَا بِفَوَاتِ الْعِوَضِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ، لِأَنَّهُ الْمَرَدُّ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ بِهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
14-موسوعة الفقه الكويتية (خيار)
خِيَارٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ (الِاخْتِيَارِ) وَهُوَ الِاصْطِفَاءُ وَالِانْتِقَاءُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُمَا (اخْتَارَ).وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ، مَعْنَاهُ: اخْتَرْ مَا شِئْتَ.وَخَيَّرَهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعْنَاهُ: فَوَّضَ إِلَيْهِ اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا.
وَالْخِيَارُ فِي الِاصْطِلَاحِ لَهُ تَعَارِيفُ كَثِيرَةٌ إِلاَّ أَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَنَاوَلَتْ هَذَا اللَّفْظَ مَقْرُونًا بِلَفْظٍ آخَرَ لِأَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ دُونَ أَنْ يُقْصَدَ بِالتَّعْرِيفِ (الْخِيَارُ) عُمُومًا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُ تَعْرِيفٍ لِلْخِيَارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ خِلَالِ تَعَارِيفِ أَنْوَاعِ الْخِيَارِ بِأَنْ يُقَالَ: هُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ أَوْ إِمْضَائِهِ، لِظُهُورِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ أَوْ بِمُقْتَضَى اتِّفَاقٍ عَقَدِيٍّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- عَدَمُ اللُّزُومِ:
2- اللُّزُومُ: مَعْنَاهُ عَدَمُ إِمْكَانِ رُجُوعِ الْعَاقِدِ عَنِ الْعَقْدِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، وَيُسَمَّى الْعَقْدُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ (الْعَقْدَ اللاَّزِمَ) بِمَعْنَى أَنَّ الْعَاقِدَ لَا يَحِقُّ لَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ إِلاَّ بِرِضَا الْعَاقِدِ الْآخَرِ، فَكَمَا لَا يُعْقَدُ الْعَقْدُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي لَا يُفْسَخُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي (وَذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ) وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ تَعْرِيفُ عَدَمِ اللُّزُومِ فَهُوَ: إِمْكَانُ رُجُوعِ الْعَاقِدِ عَنِ الْعَقْدِ وَنَقْضِهِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّرَاضِي عَلَى ذَلِكَ النَّقْضِ.
فَهَذَا اللُّزُومُ قَدْ يَتَخَلَّفُ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ فَيَسْتَطِيعُ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ رَابِطَةِ الْعَقْدِ وَيَفْسَخَهُ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الْآخَرِ.وَتَخَلُّفُ اللُّزُومِ هُنَا مَبْعَثُهُ أَنَّ طَبِيعَةَ الْعَقْدِ وَغَايَتَهُ تَقْتَضِي عَدَمَ اللُّزُومِ، وَالْعَقْدُ عِنْدَئِذٍ (عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ) إِذْ يَكُونُ عَدَمُ اللُّزُومِ صِفَةً مَلْحُوظَةً فِي نَوْعِ الْعَقْدِ.
وَمِنَ السَّهْلِ تَبَيُّنُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَبَيْنَ طَبِيعَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَالتَّخْيِيرُ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَى الْعَقْدِ حَيْثُ إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ، فَالْعَقْدُ الْمُقْتَرِنُ بِخِيَارٍ هُوَ قَيْدٌ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَبْدَأِ، ثُمَّ هُوَ فِي جَمِيعِ الْخِيَارَاتِ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْعُقُودِ، بَلْ هُوَ مِمَّا اعْتُبِرَ قَيْدًا عَلَى تِلْكَ الطَّبِيعَةِ لِأَصَالَةِ اللُّزُومِ.أَمَّا فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِأَنْوَاعِهَا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ طَبِيعَتِهَا تَقْتَضِيهِ غَايَاتُهَا وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهَا إِلاَّ لِسَبَبٍ خَاصٍّ فِيمَا لُزُومُهُ لَيْسَ أَصْلًا.
وَالْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَقَطْ أَمَّا الْإِجَازَةُ فَلَا مَجَالَ لَهَا، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْعَقْدِ وَالِاسْتِمْرَارَ فِيهِ يُغْنِي عَنْهَا، فِي حِينِ أَنَّ الْخِيَارَاتِ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ.
وَهُنَاكَ فَارِقٌ آخَرُ بَيْنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ وَبَيْنَ الْخِيَارَاتِ يَقُومُ عَلَى مُلَاحَظَةِ نَتِيجَةِ (الْفَسْخِ) الَّذِي هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ، فَحُكْمُ الْفَسْخِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مُخْتَلِفٌ عَنْهُ فِي الْخِيَارَاتِ، حَيْثُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مُقْتَصِرًا (لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ) لَا يَمَسُّ التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةَ.أَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ (الْخِيَارَاتُ) فَالْفَسْخُ مُسْتَنَدٌ (لَهُ انْعِطَافٌ وَتَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ) يَنْسَحِبُ فِيهِ الِانْفِسَاخُ عَلَى الْمَاضِي فَيَجْعَلُ الْعَقْدَ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ أَصْلِهِ.
ب- الْفَسْخُ لِلْفَسَادِ:
3- الْعَقْدُ الْفَاسِدُ.يُشْبِهُ الْخِيَارَ فِي فِكْرَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ وَفِي احْتِمَالِهِ الْفَسْخَ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: «حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ، نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ بَيْعٍ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعَةِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ» كَمَا أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ أَثَرُهُ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، لَكِنَّهُ مُفْتَرِقٌ عَنْ حَالَةِ التَّخْيِيرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَقْدِ، فَالْفَاسِدُ مِنْ بَابِ الصِّحَّةِ، أَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ اللُّزُومِ، ثُمَّ لِهَذَا أَثَرُهُ فِي افْتِرَاقِ الْأَحْكَامِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخِيَارَ (عَدَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ) يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ، أَمَّا حَقُّ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ.
وَهُنَاكَ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ تُوَضِّحُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْخِيَارِ وَالْفَسْخِ مِنْهَا تَصْرِيحُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ.وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ لِلْفَسَادِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ.
ج- الْفَسْخُ لِلتَّوَقُّفِ:
4- التَّفْرِقَةُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّوَقُّفِ تَكُونُ فِي الْمَنْشَأِ وَالْأَحْكَامِ وَالِانْتِهَاءِ.
فَالْخِيَارُ يَنْشَأُ لِتَعَيُّبِ الْإِرَادَةِ (وَذَلِكَ فِي الْخِيَارِ الْحُكْمِيِّ غَالِبًا) أَوْ لِاتِّجَاهِ إِرَادَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِمَنْعِ لُزُومِ الْعَقْدِ (وَذَلِكَ فِي الْخِيَارَاتِ الْإِرَادِيَّةِ) وَكِلَاهُمَا مَرْحَلَةٌ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَصُلُوحِهِ لِسَرَيَانِ آثَارِهِ (النَّفَاذُ).أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَهُوَ يَنْشَأُ لِنَقْصِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْعَاقِدِ، أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ.فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَجَالٌ مُغَايِرٌ لِلْآخَرِ، لَيْسَ مُغَايَرَةَ اخْتِلَافٍ فِي السَّبَبِ فَقَطْ، بَلْ مَعَ التَّدَاعِي وَالتَّجَانُسِ بَيْنَ أَسْبَابِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُنَافَرَتِهَا مَا لِلْآخَرِ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّبِيعَةُ وَالْأَحْكَامُ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ تَكُونُ آثَارُهُ مُعَلَّقَةً بِسَبَبِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ مِنْ نَفَاذِهَا، وَهَذَا بِالرَّغْمِ مِنِ انْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَانِعَ مَنَعَ تَمَامَ الْعِلَّةِ.
أَمَّا الْخِيَارُ فَإِنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ قَدْ نَفَذَ وَتَرَتَّبَتْ آثَارُهُ وَلَكِنِ امْتَنَعَ ثُبُوتُهَا بِسَبَبِ الْخِيَارِ، فَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ ابْتِدَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ تَمَامُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ لُزُومُ الْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ سَرَتْ آثَارُهُ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَفِي الِانْقِضَاءِ نَجِدُ أَنَّ الْمَوْقُوفَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ تَامِّ الْعِلَّةِ لَمْ تَتِمَّ الصَّفْقَةُ، فَيَكْفِي فِي نَقْضِهِ مَحْضُ إِرَادَةِ مَنْ لَهُ النَّقْضُ، وَهُوَ لِهَذَا الضَّعْفِ فِيهِ لَا يَرِدُ فِيهِ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ، وَلَا يَنْتَقِلُ بِالْمِيرَاثِ، بَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ حَقُّ إِجَازَتِهِ، فِي حِينِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ- فِي الْجُمْلَةِ- وَيَنْتَقِلُ بِالْمِيرَاثِ وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهُ مُتَّصِلًا بِالْعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْمَذَاهِبِ، وَيَنْقَضِي الْخِيَارُ بِإِرَادَةِ مَنْ هُوَ لَهُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي إِلاَّ حَيْثُ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ بِحُصُولِ الْقَبْضِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.
د- الْفَسْخُ فِي الْإِقَالَةِ:
5- تُشْبِهُ الْإِقَالَةُ الْخِيَارَ مِنْ حَيْثُ تَأْدِيَتُهُمَا- فِي حَالٍ مَا- إِلَى فَسْخِ الْعَقْدِ، وَتُشْبِهُهُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ إِلاَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ اللاَّزِمَةِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ.
وَلَكِنَّ الْإِقَالَةَ تُخَالِفُ الْخِيَارَ فِي أَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يُمْكِنُهُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فَلَا بُدَّ مِنِ الْتِقَاءِ الْإِرَادَتَيْنِ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ.كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا آخَرَ هُوَ أَنَّ الْخِيَارَ يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ لَازِمٍ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ لَهُ.وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَلَا تَكُونُ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا لِلطَّرَفَيْنِ.
تَقْسِيمَاتُ الْخِيَارِ
أَوَّلًا- التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ طَبِيعَةِ الْخِيَارِ:
6- يَنْقَسِمُ الْخِيَارُ بِحَسَبِ طَبِيعَتِهِ إِلَى حُكْمِيٍّ وَإِرَادِيٍّ.
فَالْحُكْمِيُّ مَا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ حُكْمِ الشَّارِعِ فَيَنْشَأُ الْخِيَارُ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ وَتَحَقُّقِ الشَّرَائِطِ الْمَطْلُوبَةِ، فَهَذِهِ الْخِيَارَاتُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى اتِّفَاقٍ أَوِ اشْتِرَاطٍ لِقِيَامِهَا، بَلْ تَنْشَأُ لِمُجَرَّدِ وُقُوعِ سَبَبِهَا الَّذِي رُبِطَ قِيَامُهَا بِهِ.
وَمِثَالُهُ: خِيَارُ الْعَيْبِ.
أَمَّا الْإِرَادِيُّ فَهُوَ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَةِ الْعَاقِدِ.
وَالْخِيَارَاتُ الْحُكْمِيَّةُ تَسْتَغْرِقُ مُعْظَمَ الْخِيَارَاتِ، بَلْ هِيَ كُلُّهَا مَا عَدَا الْخِيَارَاتِ الْإِرَادِيَّةَ الثَّلَاثَةَ: خِيَارَ الشَّرْطِ، خِيَارَ النَّقْدِ، خِيَارَ التَّعْيِينِ.
فَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ فَإِنَّهُ حُكْمِيُّ الْمَنْشَأِ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ الْعَاقِدِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يَسْعَى الْإِنْسَانُ لِلْحُصُولِ عَلَيْهِ.
ثَانِيًا- التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ غَايَةِ الْخِيَارِ:
7- يَقُومُ هَذَا التَّقْسِيمُ لِلْخِيَارَاتِ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْغَايَةُ، هَلْ هِيَ التَّرَوِّي وَجَلْبُ الْمَصْلَحَةِ لِلْعَاقِدِ، أَوْ تَكْمِلَةُ النَّقْصِ وَدَرْءُ الضَّرَرِ عَنْهُ؟.
يَقُولُ الْغَزَالِيُّ: يَنْقَسِمُ الْخِيَارُ إِلَى خِيَارِ التَّرَوِّي.وَإِلَى خِيَارِ النَّقِيصَةِ.
وَخِيَارُ التَّرَوِّي: مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِ وَصْفٍ، وَلَهُ سَبَبَانِ.أَحَدُهُمَا: الْمَجْلِسُ.وَالثَّانِي: الشَّرْطُ.
وَأَمَّا خِيَارُ النَّقِيصَةِ، وَهُوَ: مَا يَثْبُتُ بِفَوَاتِ أَمْرٍ مَظْنُونٍ نَشَأَ الظَّنُّ فِيهِ مِنِ الْتِزَامٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ قَضَاءٍ عُرْفِيٍّ، أَوْ تَغْرِيرٍ فِعْلِيٍّ.ثُمَّ فَرَّعَ الْغَزَالِيُّ مِنْ خِيَارِ النَّقِيصَةِ عِدَّةَ خِيَارَاتٍ.
وَنَحْوُهُ لِلْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ جَرَى خَلِيلٌ عَلَى الْبَدْءِ بِخِيَارِ التَّرَوِّي ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِخِيَارِ النَّقِيصَةِ.
ثَالِثًا- التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ مَوْضُوعِ الْخِيَارِ:
8- أ- خِيَارَاتُ التَّرَوِّي.
1- خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
2- خِيَارُ الرُّجُوعِ.
3- خِيَارُ الْقَبُولِ.
4- خِيَارُ الشَّرْطِ.
9- ب- خِيَارَاتُ النَّقِيصَةِ:
1- خِيَارُ الْعَيْبِ.
2- خِيَارُ الِاسْتِحْقَاقِ.
3- خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
4- خِيَارُ الْهَلَاكِ الْجُزْئِيِّ.
10- ج- خِيَارَاتُ الْجَهَالَةِ:
1- خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
2- خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ.
3- خِيَارُ كَشْفِ الْحَالِ.
4- خِيَارُ التَّعْيِينِ.
11- د- خِيَارَاتُ التَّغْرِيرِ:
1- خِيَارُ التَّدْلِيسِ الْفِعْلِيِّ (بِالتَّصْرِيَةِ وَنَحْوِهَا) وَالتَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ.
2- خِيَارُ النَّجْشِ.
3- خِيَارُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ.
12- هـ خِيَارَاتُ الْغَبْنِ:
1- خِيَارُ الْمُسْتَرْسِلِ.
2- خِيَارُ غَبْنِ الْقَاصِرِ وَشِبْهِهِ.
13- و- خِيَارَاتُ الْأَمَانَةِ:
1- خِيَارُ الْمُرَابَحَةِ.
2- خِيَارُ التَّوْلِيَةِ.
3- خِيَارُ التَّشْرِيكِ.
4- خِيَارُ الْمُوَاضَعَةِ.
14- ز- خِيَارَاتُ الْخُلْفِ:
1- خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ.
2- خِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ.
3- خِيَارُ اخْتِلَافِ الْمِقْدَارِ.
15- ح- خِيَارَاتُ اخْتِلَالِ التَّنْفِيذِ:
1- خِيَارُ التَّأْخِيرِ.
16- ك- خِيَارَاتُ امْتِنَاعِ التَّسْلِيمِ:
1- خِيَارُ النَّقْدِ.
2- خِيَارُ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ.
3- خِيَارُ تَسَارُعِ الْفَسَادِ.
4- خِيَارُ التَّفْلِيسِ.
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْخِيَارِ:
17- الْغَرَضُ فِي الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ: بِالرَّغْمِ مِنْ تَعَدُّدِ أَسْبَابِهَا هُوَ تَلَافِي النَّقْصِ الْحَاصِلِ بَعْدَ تَخَلُّفٍ شَرِيطَةَ لُزُومِ الْعَقْدِ.وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَتْ شَرَائِطُ الِانْعِقَادِ وَالصِّحَّةِ وَالنَّفَاذِ، أَيْ أَنَّ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةَ لِتَخْفِيفِ مَغَبَّةِ الْإِخْلَالِ بِالْعَقْدِ فِي الْبِدَايَةِ لِعَدَمِ الْمَعْلُومِيَّةِ التَّامَّةِ، أَوْ لِدُخُولِ اللَّبْسِ وَالْغَبْنِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْعَاقِدِ، أَوْ فِي النِّهَايَةِ كَاخْتِلَالِ التَّنْفِيذِ.
فَالْغَايَةُ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ تَمْحِيصُ الْإِرَادَتَيْنِ وَتَنْقِيَةُ عُنْصُرِ التَّرَاضِي مِنَ الشَّوَائِبِ تَوَصُّلًا إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ.وَمِنْ هُنَا قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْخِيَارَاتِ إِلَى شَطْرَيْنِ: خِيَارَاتِ التَّرَوِّي، وَخِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ، وَمُرَادُهُمْ بِخِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ الْخِيَارَاتُ الَّتِي تَهْدِفُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ فِي حِينِ تَهْدِفُ خِيَارَاتُ التَّرَوِّي إِلَى جَلْبِ النَّفْعِ لَهُ.
أَمَّا الْغَرَضُ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْإِرَادِيَّةِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنِ الْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ فِي صَعِيدِ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ.فَفِي الْخِيَارَاتِ الْإِرَادِيَّةِ يَكَادُ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا يَكُونُ أَمْرًا وَاحِدًا هُوَ مَا دَعَاهُ الْفُقَهَاءُ بِالتَّرَوِّي، أَيِ التَّأَمُّلِ فِي صُلُوحِ الشَّيْءِ لَهُ وَسَدِّ حَاجَتِهِ فِي الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لِلتَّرْفِيهِ عَنِ الْمُتَعَاقِدِ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ يَحْرِصُ عَلَيْهَا.وَالتَّرَوِّي سَبِيلُهُ أَمْرَانِ: (الْمَشُورَةُ) لِلْوُصُولِ إِلَى الرَّأْيِ الْحَمِيدِ، أَوِ الِاخْتِبَارُ وَهُوَ تَبَيُّنُ خَبَرِ الشَّيْءِ بِالتَّجْرِبَةِ أَوِ الِاطِّلَاعِ التَّامِّ عَلَى كُنْهِهِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: «وَالْخِيَارُ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ: لِمَشُورَةٍ وَاخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، أَوْ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.وَيَقُولُ بَعْدَئِذٍ: الْعِلَّةُ فِي إِجَازَةِ الْبَيْعِ عَلَى الْخِيَارِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى الْمَشُورَةِ فِيهِ، أَوِ الِاخْتِيَارِ».
عَلَى أَنَّ تَعَدُّدَ الْغَرَضِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَقْصِدَ الْمَشُورَةَ وَالِاخْتِبَارَ مَعًا وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُشْتَرِي، أَمَّا الْبَائِعُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ إِلاَّ كَوْنُ الْغَرَضِ الْمَشُورَةَ، لِأَنَّ الْمُبَادَلَةَ مِنْهُ تَهْدِفُ إِلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ لَا مَجَالَ لِاخْتِبَارِهِ غَالِبًا، إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُرَاجِعَ الْبَائِعُ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي كَوْنِ الثَّمَنِ مُتَكَافِئًا مَعَ الْمَبِيعِ فَلَا غَبْنَ وَلَا وَكْسَ.
وَالتَّرَوِّي- كَمَا يَقُولُ الْحَطَّابُ- لَا يَخْتَصُّ بِالْمَبِيعِ فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا فِي الثَّمَنِ، أَوْ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ.
وَثَمَرَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْخِيَارِ الِاخْتِبَارَ، فَإِذَا بَيَّنَ الْغَرَضَ مِنَ الْخِيَارِ عُومِلَ حَسْبَ بَيَانِهِ، أَمَّا إِنْ سَكَتَ عَنِ الْبَيَانِ، فَقَدْ قَرَّرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ الْغَرَضِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ الْمَشُورَةُ فَهِيَ مُفْتَرَضَةٌ دَائِمًا، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّ غَرَضَهُ الِاخْتِبَارُ وَاشْتَرَطَ قَبْضَ السِّلْعَةِ.وَنَصُّ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي هَذَا: «اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ.وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِلِاخْتِبَارِ، وَأَرَادَ قَبْضَ السِّلْعَةِ لِيَخْتَبِرَهَا، وَأَبَى الْبَائِعُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّمَا لَكَ الْمَشُورَةُ إِذَا لَمْ تَشْتَرِطْ قَبْضَ السِّلْعَةِ فِي أَمَدِ الْخِيَارِ لِلِاخْتِبَارِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ».بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَتْ مِنَ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ فِي الْمُشْتَرِي طُولُ مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَسْخٌ فِي الْأَجَلِ لِلْمَشُورَةِ الدَّقِيقَةِ.
وَهُنَاكَ ثَمَرَةٌ عَمَلِيَّةٌ أُخْرَى لِتَحْدِيدِ الْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ (دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْمَشُورَةِ أَوِ الِاخْتِبَارِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا) تِلْكَ هِيَ أَنَّ أَمَدَ الْخِيَارِ- وَهُوَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ مَلْحُوظٌ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ- شَدِيدُ الِارْتِبَاطِ بِالْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ فَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي إِجَازَةِ الْمَبِيعِ عَلَى الْخِيَارِ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الْمَشُورَةِ فِيهِ، أَوِ الِاخْتِبَارِ، فَحَدُّهُ قَدْرُ مَا يُخْتَبَرُ فِيهِ الْمَبِيعُ، وَيُرْتَأَى فِيهِ وَيُسْتَشَارُ، عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَإِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ إِلَيْهِ وَإِبْطَائِهِ عَنْهُ..فَأَمَدُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ إِنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الِاخْتِبَارِ وَالِارْتِيَاءِ مَعَ مُرَاعَاةِ إِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ إِلَى الْمَبِيعِ وَإِبْطَائِهِ عَنْهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ (فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخِيَارُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَوْقَ ثَلَاثٍ.
الْخِيَارُ سَالِبٌ لِلُّزُومِ:
18- إِنَّ سَلْبَ الْخِيَارَاتِ لُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ بَدَائِهِ الْفِقْهَ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ الْمُصَنِّفِينَ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْعَقْدَ إِلَى لَازِمٍ وَجَائِزٍ عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لَازِمٌ، وَمُخَيَّرٌ، أَوْ لَازِمٌ وَفِيهِ خِيَارٌ.
وَمُفَادُ سَلْبِ الْخِيَارِ لُزُومُ الْعَقْدِ أَنْ يُجْعَلَ الْعَقْدُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى خِيَارٍ مُسْتَوِيًا فِي الصِّفَةِ مَعَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ كَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَمَعَ هَذَا لَا يَعْسُرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ نَاشِئٌ عَنْ طَبِيعَتِهَا الْخَاصَّةِ، أَمَّا فِي الْخِيَارَاتِ فَعَدَمُ اللُّزُومِ طَارِئٌ بِسَبَبِهَا.
وَهُنَاكَ عِبَارَاتٌ فِقْهِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي مَنْزِلَةِ الْخِيَارَاتِ مِنْ حَيْثُ سَلْبُ اللُّزُومِ نَظَرًا إِلَى أَثَرِ الْخِيَارِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هُنَا الْعَقْدُ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ، كَالْبَيْعِ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمِهِ مِنْ لُزُومِ تَعَاكُسِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَفِي الْبَيْعِ بِخِيَارٍ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْعِلَّةِ (أَيِ الْبَيْعُ) مُقْتَضَاهَا الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْبَيْعِ.
وَبِمَا أَنَّ الْمَوَانِعَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ، فَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ مِنَ الْبِدَايَةِ فَلَا يَدَعُهَا تَمْضِي لِإِحْدَاثِ الْأَثَرِ، وَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ، أَيْ نَفَاذَ الْعَقْدِ، بِتَخَلُّفِ إِحْدَى شَرِيطَتَيِ النَّفَاذِ (الْمِلْكِ أَوِ الْوِلَايَةِ، وَانْتِفَاءِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الْخِيَارَاتِ فِي الْمَنْعِ وَهُوَ مَنْعٌ مُسَلَّطٌ عَلَى (الْحُكْمِ) لَا (الْعِلَّةِ) فَهِيَ قَدْ كُتِبَ لَهَا الِانْعِقَادُ وَالنَّفَاذُ كَسَهْمٍ تَوَفَّرَتْ وَسَائِلُ تَسْدِيدِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ دُونَ أَنْ يَحْجِزَهُ شَيْءٌ عَنْ بُلُوغِ الْهَدَفِ «فَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ (وَنَفَاذِ) الْعِلَّةِ» إِذْ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَشَبَّهَهُ ابْنُ الْهُمَامِ بِاسْتِتَارِ الْمَرْمِيِّ إِلَيْهِ بِتُرْسٍ يَمْنَعُ مِنْ إِصَابَةِ الْغَرَضِ مِنْهُ.وَيَلِيهِ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ (وَهُوَ غَيْرُ تَمَامِ الْعِلَّةِ) وَأَخِيرًا خِيَارُ الْعَيْبِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ.
وَفَضْلًا عَنِ التَّفَاوُتِ فِي أَثَرِ الْخِيَارِ عَلَى الْعَقْدِ اللاَّزِمِ لِسَلْبِ لُزُومِهِ يُلْحَظُ فَارِقٌ، فِي نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ، بَيْنَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَبَيْنَ خِيَارَيِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فِي وَضْعِهِمَا الشَّرْعِيِّ مِنْ حَيْثُ سَلْبُ اللُّزُومِ بَيْنَ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْأَصَالَةِ أَوِ الْخُلْفِيَّةِ، لِهَذَا الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْكُلِّ أَوْ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَحَسْبُ.
فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، لَمَّا أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ فِيهِمَا «ثَبَتَ أَصْلًا لِأَنَّهُمَا يَسْلُبَانِ اللُّزُومَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا حَقًّا لَهُ، وَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، وَلِذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ»
أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ لِمَا أَنَّ «حَقَّ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ مَا ثَبَتَ (بِاعْتِبَارِهِ) أَصْلًا.لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ بَلْ (ثَبَتَ) بِغَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْرَاكُ حَقِّهِ فِي صِفَةِ السَّلَامَةِ»
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
15-موسوعة الفقه الكويتية (سقوط)
سُقُوطٌالتَّعْرِيفُ:
1- السُّقُوطُ مَصْدَرُ سَقَطَ، يُقَالُ: سَقَطَ الشَّيْءُ؛ أَيْ وَقَعَ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَأَسْقَطَهُ إِسْقَاطًا فَسَقَطَ، فَالسُّقُوطُ أَثَرُ الْإِسْقَاطِ، وَالسَّقَطُ- بِفَتْحَتَيْنِ- رَدِيءُ الْمَتَاعِ، وَالْخَطَأُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
يُقَالُ: لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ؛ أَيْ: لِكُلِّ نَادَّةٍ مِنَ الْكَلَامِ مَنْ يَحْمِلُهَا وَيُذِيعُهَا، وَيُضْرَبُ مَثَلًا لِنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ: مَعْنَاهُ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ.
وَالسِّقْطُ (بِتَثْلِيثِ السِّينِ): الْجَنِينُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، يَسْقُطُ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَى السُّقُوطِ الِاصْطِلَاحِيِّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
مَا يَقْبَلُ السُّقُوطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ:
2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَطَهَّرُ بِهِ وَلَا تُرَابًا يَتَيَمَّمُ بِهِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِلَا طَهُورٍ.وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ إِعَادَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْهُ أَدَاءً وَقَضَاءً.
وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (تَيَمُّم ف 41، وَصَلَاة).
سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ:
3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُوجِبُهُ سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ عَنْ بُرْءٍ، وَفِيمَا يُوجِبُهُ سُقُوطُهَا لَا عَنْ بُرْءٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جَبِيرَة ف 7).
سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ:
4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنِ الْمَرْأَةِ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.وَلَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (صَلَاة، وَحَيْض، وَنِفَاس).
سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنِ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَقْضِي الصَّلَاةَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ مِنَ الْجُنُونِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْهُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى جُنُونِهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَيَقْضِي مَا كَانَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ أَوْ أَقَلَّ.
وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ أَثْنَاءَ إغْمَائِهِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا مُضِيَّ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ.
وَكَذَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنِ الْمُبَرْسَمِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ بِلَا تَعَدٍّ، عَلَى خِلَافٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاة).
إِسْقَاطُ الصَّلَاةِ بِالْإِطْعَامِ:
6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنِ الْمَيِّتِ بِالْإِطْعَامِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِالْكَفَّارَةِ عَنْهَا، فَيُخْرِجُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ لِكُلِّ صَلَاةِ مَفْرُوضَةٍ، وَكَذَا الْوِتْرُ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ فِي الصِّيَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ» وَالصَّلَاةُ كَالصِّيَامِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ لِكَوْنِهَا أَهَمَّ.
وَالصَّحِيحُ: اعْتِبَارُ كُلِّ صَلَاةٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ صَلَاةٍ فِدْيَةٌ، وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقِهِ أَوْ سَوِيقِهِ، أَوْ صَاعُ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَتُهُ، وَهِيَ أَفْضَلُ لِتَنَوُّعِ حَاجَاتِ الْفَقِيرِ.
وَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ جَازَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ بِالْإِطْعَامِ فِي الصَّوْمِ يَجْزِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ.وَفِي إِيصَائِهِ بِهِ جَزَمَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْإِجْزَاءِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (صَلَاة وَصَوْم).
سُقُوطُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ:
7- مِمَّا تَسْقُطُ بِهِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ الْحَبْسُ وَالْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْحُضُورُ، وَإِذَا خَافَ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ، وَالْمَطَرُ وَالْوَحْلُ وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ وَالْحَرُّ الشَّدِيدُ ظُهْرًا وَالرِّيحُ الشَّدِيدَةُ فِي اللَّيْلِ، وَمُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ، وَأَكْلُ نَتِنٍ نِيءٍ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ.
وَتَفْصِيلُ هَذَا فِي (صَلَاة الْجَمَاعَةِ، وَصَلَاة الْجُمُعَةِ).
سُقُوطُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ:
8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَالْحَاضِرَةِ يَسْقُطُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَيُقَدِّمُ عِنْدَئِذٍ الْحَاضِرَةَ ثُمَّ يَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْتِيب)
سُقُوطُ الصِّيَامِ:
9- يَسْقُطُ الصِّيَامُ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صِيَام).
وَأَمَّا مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصِّيَامِ، إِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ الصَّوْمِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، (وَيَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ يَجِبُ الْإِطْعَامُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ سَقَطَ بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَوَجَبَ الْإِطْعَامُ عَنْهُ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ إِذَا تَرَكَ الصِّيَامَ لِعَجْزِهِ عَنْهُ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمْ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا».
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: يُصَامُ عَنْهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: الْقَدِيمُ هُنَا أَظْهَرُ وَذَلِكَ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَوْم).
سُقُوطُ الزَّكَاةِ:
10- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَتُخْرَجُ مِنْ مَالِهِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنَ التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ أَوْصَى بِالْأَدَاءِ وَجَبَ إِخْرَاجُهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ وَالْمُثَنَّى وَالثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: تُؤْخَذُ مِنَ الثُّلُثِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا وَلَا يُجَاوِزُ الثُّلُثَ.
وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا بِهَلَاكِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ بَعْدَهُ، وَبِالرِّدَّةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَة ف 26).
سُقُوطُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ:
11- يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَلَوْ بِظَنِّ الْفِعْلِ.
ر: مُصْطَلَحَ (إِسْقَاط وَفَرْض).
سُقُوطُ التَّحْرِيمِ لِلضَّرُورَةِ:
12- يَسْقُطُ التَّحْرِيمُ لِلضَّرُورَةِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.
ر: مُصْطَلَحَ (إِسْقَاط) وَتُنْظَرُ أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ (اضْطِرَار، خَمْر، عَوْرَة).
حُقُوقُ الْعِبَادِ:
13- الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا أَسْقَطَهُ- وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ، سَقَطَ هَذَا الْحَقُّ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط).
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلسُّقُوطِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
سُقُوطُ الْمَهْرِ:
14- أ- يَسْقُطُ الْمَهْرُ كُلُّهُ عَنِ الزَّوْجِ بِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:
(1) الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ بِسَبَبِهَا.
(2) الْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ الْإِسْقَاطِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلسُّقُوطِ يُوجِبُ السُّقُوطَ.
(3) الْخُلْعُ عَلَى الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ.
(4) هِبَةُ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ عَيْنًا.
15- ب- مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ.
يَسْقُطُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ، وَالْمَهْرُ دَيْنٌ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ.
وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (مَهْر، خُلْع، هِبَة، مُتْعَة، طَلَاق).
سُقُوطُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
16- تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالنُّشُوزِ (الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الزَّوْجِ) وَبِالْإِبْرَاءِ مِنَ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نُشُوز، نَفَقَة).
سُقُوطُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ:
17- تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.
عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة).
سُقُوطُ الْحَضَانَةِ:
18- إِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْحَضَانَةِ، أَوْ وُجِدَ مَانِعٌ سَقَطَتْ، وَكَذَا لَوْ سَافَرَ الْوَلِيُّ أَوِ الْحَاضِنُ لِلنُّقْلَةِ وَالِانْقِطَاعِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة) ف 18 (ج 17 310).
سُقُوطُ الْخَرَاجِ:
19- يَسْقُطُ الْخَرَاجُ بِانْعِدَامِ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ وَتَعْطِيلِهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَبِهَلَاكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَبِإِسْقَاطِ الْإِمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خَرَاج ف 57 وَمَا بَعْدَهَا).
سُقُوطُ الْحُدُودِ:
20- تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِمَا يَلِي: أ- بِالشُّبُهَاتِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».
ب- بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاسْتَثْنَوْا حَدَّ الْقَذْفِ.
ج- بِمَوْتِ الشُّهُودِ.
د- بِالتَّكْذِيبِ، كَتَكْذِيبِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
ر: مُصْطَلَحَ (حُدُود ف 13، 14، 15، 16 وَزِنًى، وَقَذْف).
هـ- بِالتَّوْبَةِ: وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ عَنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ (الْمُحَارِبِ) بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هَذَا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (حِرَابَة ف 24).
وَإِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ وَأَصْلَحَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ.وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلَهُمْ تَوْبَةً، فَقَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» «وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ سَمُرَةَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَرَقْتُ جَمَلًا لِبَنِي فُلَانٍ فَطَهِّرْنِي وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْحَدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ» وَلِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ كَالْمُحَارِبِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَاوَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ فَقَالَ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِوَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، «وَقَالَ فِي مَاعِزٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَحَدِّ الْمُحَارِبِ.
وَهَلْ يَتَقَيَّدُ سُقُوطُ التَّوْبَةِ، وَبِكَوْنِهِ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ أَمْ لَا؟ وَبِكَوْنِهِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟.
يُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 12) وَتَوْبَة (18 وَ 19).
سُقُوطُ الْجِزْيَةِ:
21- تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِتَدَاخُلِ الْجِزَى أَوْ بِطُرُوءِ الْإِعْسَارِ أَوِ التَّرَهُّبِ وَالِانْعِزَالِ عَنِ النَّاسِ، أَوْ بِالْجُنُونِ، أَوْ بِالْعَمَى، وَالزَّمَانَةِ، وَالشَّيْخُوخَةِ، أَوْ عَجْزِ الدَّوْلَةِ عَنْ حِمَايَتِهِمْ أَوْ بِاشْتِرَاكِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْمَوْتِ.
وَفِي بَعْضِ تِلْكَ الْأُمُورِ خِلَافٌ يُرْجَعُ تَفْصِيلُهُ إِلَى مُصْطَلَحِ (جِزْيَة ف 69- 79).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (صلح 2)
صُلْحٌ -2الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيِّ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصُّلْحِ الْكَائِنِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيِّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلًا: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
19- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيِّ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
أ- فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الْأَجْنَبِيُّ وَكِيلًا عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ، وَيَجِبُ الْمَالُ الْمُصَالَحُ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْوَكِيلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الصُّلْحِ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَضْمَنِ الْأَجْنَبِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ضَمِنَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ لَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ.
ب- وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهَذَا صُلْحُ الْفُضُولِيِّ، وَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ، كَأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَنْ دَعْوَاكَ مَعَ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيُصَالِحَهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ.فَهَذَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ بَدَلَ الصُّلْحِ الْفُضُولِيُّ، وَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ أَوْ يُضِفِ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْفُضُولِيِّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ تَنْفُذُ فِي حَقِّهِ، وَيَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ بَدَلَ الصُّلْحِ مُقَابِلَ إِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْفُضُولِيِّ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَدَلِ الصُّلْحِ الَّذِي أَدَّاهُ، طَالَمَا أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي (التُّحْفَةِ): وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا، لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ، بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحِيحٌ، وَالتَّبَرُّعُ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ عَنْ غَيْرِهِ صَحِيحٌ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ إِسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ إِسْقَاطٌ لِلْخُصُومَةِ، فَيَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: تَصَالَحْ مَعَ فُلَانٍ عَنْ دَعْوَاكَ.وَلِهَذَا الْوَجْهِ خَمْسُ صُوَرٍ: فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا يَكُونُ الصُّلْحُ لَازِمًا، وَفِي الْخَامِسَةِ مِنْهَا يَكُونُ مَوْقُوفًا.
وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِمَّا أَنْ يَضْمَنَ بَدَلَ الصُّلْحِ أَوْ لَا يَضْمَنَ، وَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ، فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ لَا يُضِيفَهُ.وَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ، فَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إِلَى نَقْدٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ لَا يُشِيرَ.وَإِذَا لَمْ يُشِرْ، فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ أَوْ لَا يُسَلِّمَ.فَالصُّوَرُ خَمْسٌ هِيَ:
الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْفُضُولِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْ فُلَانًا عَنْ دَعْوَاكَ مَعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ وَقَبِلَ الْمُدَّعِي تَمَّ الصُّلْحُ وَصَحَّ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ سِوَى الْبَرَاءَةِ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى بَرَاءَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَلِلْأَجْنَبِيِّ- أَيْضًا- أَنْ يَحْصُلَ عَلَى بَرَاءَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْفُضُولِيَّ بَدَلُ الصُّلْحِ بِسَبَبِ عَقْدِهِ الصُّلْحَ- مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ سَفِيرًا- إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ إِلاَّ أَنَّهُ يُضِيفُهُ إِلَى مَالِهِ، كَأَنْ يَقُولَ الْفُضُولِيُّ: قَدْ صَالَحْتُ عَلَى مَالِي الْفُلَانِيِّ، أَوْ عَلَى فَرَسِي هَذِهِ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمِي هَذِهِ الْأَلْفِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ بِإِضَافَةِ الصُّلْحِ إِلَى مَالِهِ يَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَدِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَ الْفُضُولِيَّ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُشِيرَ إِلَى الْعُرُوضِ أَوِ النُّقُودِ الْمَوْجُودَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ هَذَا الْمَبْلَغُ، أَوْ هَذِهِ السَّاعَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ تَسْلِيمُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِهِ وَبِذَلِكَ تَمَّ الصُّلْحُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: هُوَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ فِي الثَّانِيَةِ قَدْ أَضَافَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ، أَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَبَدَلُ الصُّلْحِ مَعَ كَوْنِهِ مَالَهُ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ: صَالَحْتُ عَلَى كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلَا مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلَا مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، وَسَلَّمَ الْمَبْلَغَ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ بَدَلِ الصُّلْحِ يُوجِبُ بَقَاءَ الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ سَالِمًا لِلْمُدَّعِي، وَيَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بِتَمَامِ الْعَقْدِ، فَصَارَ فَوْقَ الضَّمَانِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: إِذَا حَصَلَ لِلْمُدَّعِي عِوَضٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَتَمَّ رِضَاؤُهُ بِهِ بَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْفُضُولِيِّ الْمُصَالِحِ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَصْرِ لُزُومِ التَّسْلِيمِ فِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ بَدَلِ الصُّلْحِ فِي الصُّورَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصُّلْحِ، فَيَصِحُّ فِيهِمَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ التَّسْلِيمُ، وَيُجْبَرُ الْفُضُولِيُّ عَلَى التَّسْلِيمِ.
هَذَا وَحَيْثُ صَحَّ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ، فَإِنَّ الْفُضُولِيَّ الْمُصَالِحَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ أَجْرَى هَذَا الْعَقْدَ بِلَا أَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُطْلِقَ الْفُضُولِيُّ بِقَوْلِهِ لِلْمُدَّعِي: أُصَالِحُكَ عَنْ دَعْوَاكَ هَذِهِ مَعَ فُلَانٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَا يَكُونُ ضَامِنًا، وَلَا مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلَا مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ لَا يُسَلِّمُ بَدَلَ الصُّلْحِ، فَصُلْحُهُ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ هَاهُنَا- وَهُوَ الْفُضُولِيُّ- لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ أَجَازَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صُلْحَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ إِجَازَتَهُ اللاَّحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّوْكِيلِ، وَيَلْزَمُ بَدَلَ الصُّلْحِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُصَالِحِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ هَذَا الْبَدَلَ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَخْرُجُ الْأَجْنَبِيُّ الْفُضُولِيُّ مِنْ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهِ وَالْمُدَّعَى بِهِ لَا يَسْقُطُ.
وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ لَمْ يُضِفْ بَدَلَ الصُّلْحِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَلُ الْمَذْكُورُ.
ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
20- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ رَجُلٌ عَلَى دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَيَلْزَمُ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ.جَاءَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) فِي بَابِ الصُّلْحِ: وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: هَلُمَّ أُصَالِحُكَ مِنْ دَيْنِكَ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا، فَفَعَلَ، أَوْ أَتَى رَجُلٌ رَجُلًا فَصَالَحَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ بِشَيْءٍ مُسَمًّى لَزِمَ الزَّوْجَ الصُّلْحُ، وَلَزِمَ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: أَنَا ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَضَى عَنِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِمَّا يَحِقُّ عَلَيْهِ.
ثَالِثًا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
21- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ الْجَارِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيِّ حَالَتَيْنِ:
الْأُولَى: مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
وَفِي هَذِهِ الْحَالِ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.
أ- فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، وَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، أَوْ عَنْ كُلِّهَا بِعَيْنٍ مِنْ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَصَالَحَا عَلَيْهِ، صَحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةٌ.ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ صَادِقًا فِي الْوَكَالَةِ، صَارَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ.وَإِلاَّ كَانَ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَصِحَّ صُلْحُهُ، لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهِ، كَشِرَاءِ الْفُضُولِيِّ.
وَلَوْ صَالَحَهُ الْوَكِيلُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْوَكِيلِ، أَوْ عَلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ كَشِرَائِهِ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَيَقَعُ لِلْآذِنِ، فَيَرْجِعُ الْمَأْذُونُ عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ قَرْضٌ لَا هِبَةٌ.
أَمَّا لَوْ صَالَحَ عَنِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَجْرِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ خُصُومُهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ تَرَتَّبَ عَلَى دَعْوَى وَجَوَابٍ.
ب- وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَلَى الْأَلْفِ الَّذِي لَكَ عَلَى فُلَانٍ بِخَمْسِمِائَةٍ صَحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ وَكَّلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ.وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ الْأَجْنَبِيُّ: وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِكَ عَلَى نِصْفِهِ، أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ هَذَا، فَصَالَحَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: صَالِحْنِي عَنْ هَذَا الدَّيْنِ لِيَكُونَ لِي فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ- بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى وَدِيعَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
وَفِي هَذِهِ الْحَالِ- أَيْضًا- فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.
أ- فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، وَصَالَحَهُ الْأَجْنَبِيُّ عَنِ الْمُنْكِرِ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ: أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدِي وَوَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ إِقْرَارَهُ لِئَلاَّ تَنْتَزِعَهُ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ صَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةٌ.قَالَ الشِّيرَازِيُّ: لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمُتَعَاقِدِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَجَازَ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ مَلَكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّهُ ابْتَاعَهُ لَهُ وَكِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ لَمْ يَمْلِكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّهُ ابْتَاعَ لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ.
وَلَوْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: هُوَ مُنْكِرٌ، غَيْرَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ عَلَى دَارِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا فَلَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ صُلْحُ إِنْكَارٍ.
وَإِنْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: هُوَ مُبْطِلٌ فِي إِنْكَارِهِ؛ لِأَنَّكَ صَادِقٌ عِنْدِي، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَارِي هَذِهِ أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي فَهُوَ كَشِرَاءِ الْمَغْصُوبِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ فَيَصِحُّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ انْتِزَاعِهِ فَلَا يَصِحُّ.
ب- وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا: وَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ: أَنْكَرَ الْخَصْمُ وَهُوَ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ بِدَابَّتِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا، فَقَبِلَ صَحَّ الصُّلْحُ، إِذْ لَا يَتَعَذَّرُ قَضَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ، بِخِلَافِ تَمْلِيكِ الْغَيْرِ عَيْنَ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ.
وَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ، وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَابَّتِي هَذِهِ أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي لآِخُذَهُ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ.
رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
22- تَكَلَّمَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ الْمُدَّعِي فِي حَالَةِ الْإِنْكَارِ فَقَطْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِصُلْحِهِ فِي حَالَةِ الْإِقْرَارِ، وَقَالُوا:
أ- إِنَّ صُلْحَ الْأَجْنَبِيِّ عَنِ الْمُنْكِرِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ:
فَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِعَيْنٍ بِإِذْنِهِ، أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمُنْكِرِ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْأَجْنَبِيُّ أَنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلَا يَرْجِعُ الْأَجْنَبِيُّ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ عَلَى الْمُنْكِرِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا لَا يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ.أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ.
وَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِدَيْنٍ بِإِذْنِهِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّ «عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ - رضي الله عنهما- قَضَيَا الدَّيْنَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَأَقَرَّهُمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- »،، وَلَوْ لَمْ يَقُلِ الْأَجْنَبِيُّ إِنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلَا يَرْجِعُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى الْمُنْكِرِ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا لَا يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ.فَإِنْ أَذِنَ الْمُنْكِرُ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الصُّلْحِ، أَوِ الْأَدَاءِ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَى عَنْهُ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ.
ب- وَإِنْ صَالَحَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ، لِتَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ لَا يَعْتَرِفَ لَهُ: فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مِنَ الْمُدَّعِي مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ خُصُومَةٌ يَفْتَدِي مِنْهَا، أَشْبَهَ مَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَ غَيْرِهِ.
وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصَالَحَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى بِهِ دَيْنٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ.وَإِذَا كَانَ بَيْعُ الدَّيْنِ الْمُقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَصِحُّ؛ فَبَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ مُنْكِرٍ مَعْجُوزٍ عَنْ قَبْضِهِ مِنْهُ أَوْلَى.
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا، وَعَلِمَ الْأَجْنَبِيُّ عَجْزَهُ عَنِ اسْتِنْقَاذِهَا مِنْ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَشِرَاءِ الشَّارِدِ.وَإِنْ ظَنَّ الْأَجْنَبِيُّ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ مَالِكٍ مِلْكَهُ الْقَادِرَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الْمَقْدِرَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَنَاوَلَ مَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ظَنُّ عَدَمِهِ.
ثُمَّ إِنْ عَجَزَ الْأَجْنَبِيُّ بَعْدَ الصُّلْحِ ظَانًّا الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا خُيِّرَ الْأَجْنَبِيُّ بَيْنَ فَسْخِ الصُّلْحِ- وَلِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى بَدَلِهِ- وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.وَإِنْ قَدَرَ عَلَى انْتِزَاعِهِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ.
ج- وَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِكَ عَنِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَكَ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَجْحَدُكَ فِي الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ: لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِي بَعْضَ حَقِّهِ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ؛ فَهُوَ هَاضِمٌ لِلْحَقِّ يَتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَأَنَّ هَذَا لَكَ، وَلَكِنْ لَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ وَلَا أُقِرُّ لَكَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ أَوْ عِوَضٍ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ.ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَلَكَ الْعَيْنَ، وَلَزِمَهُ مَا أَدَّى عَنْهُ وَرَجَعَ الْأَجْنَبِيُّ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ إِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ.وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِذْنَ فِي الدَّفْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا بِلَا إِذْنِهِ.وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا رُجُوعَ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ وَلَا يَحْكُمُ لَهُ بِمِلْكِهَا؛ ثُمَّ إِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ قَدْ وَكَّلَ فِي الشِّرَاءِ، فَقَدْ مَلَكَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ فَلَا يَقْدَحُ إِنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْلَ إِنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِالْإِنْكَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ لَمْ يَمْلِكْهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَلَوْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَيَسْأَلُكَ الصُّلْحَ عَنْهُ، وَكَّلَنِي فِيهِ فَصَالَحَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ، بَلِ اعْتَرَفَ بِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ مَعَ بَذْلِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ.
أَرْكَانُ الصُّلْحِ:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ رُكْنًا وَاحِدًا: وَهُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ الدَّالَّةُ عَلَى التَّرَاضِي.وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- حَيْثُ عَدُّوا أَرْكَانَ الصُّلْحِ ثَلَاثَةً:
1- الصِّيغَةُ.
2- وَالْعَاقِدَانِ.
3- وَالْمَحَلُّ. (وَهُوَ الْمُصَالَحُ بِهِ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ).انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد).
شُرُوطُ الصُّلْحِ:
24- لِلصُّلْحِ شُرُوطٌ يَلْزَمُ تَحَقُّقُهَا لِوُجُودِهِ، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ، مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الصِّيغَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَلُ الصُّلْحِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّيغَةِ:
25- الْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الدَّالَّيْنِ عَلَى التَّرَاضِي.مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ مِنْ دَعْوَاكَ كَذَا عَلَى كَذَا، وَيَقُولَ الْآخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ.فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَقَدْ تَمَّ الصُّلْحُ.
هَذَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الصُّلْحِ لِبَيَانِ الشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيغَتِهِ؛ نَظَرًا لِاعْتِبَارِهِمْ عَقْدَ الصُّلْحِ غَيْرَ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، بَلْ تَابِعًا لِأَقْرَبِ الْعُقُودِ بِهِ فِي الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ بَيْعًا إِذَا كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَهِبَةً إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، وَإِبْرَاءً إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، اكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ شُرُوطٍ وَأَحْكَامٍ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ الَّتِي يَلْحَقُ بِهَا الصُّلْحُ، بِحَسَبِ مَحَلِّهِ وَمَا تَصَالَحَا عَلَيْهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى صِيغَةِ الصُّلْحِ بِصُورَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي بَابِهِ، وَأَتَوْا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَسَكَتُوا عَنِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، اكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ تَفْصِيلَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ، الَّتِي يَأْخُذُ الصُّلْحُ أَحْكَامَهَا بِحَسَبِ أَحْوَالِهِ وَصُوَرِهِ.
أَمَّا كَلَامُهُمْ فِي بَابِ الصُّلْحِ عَنْ صِيغَتِهِ وَشُرُوطِهَا: فَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصُّلْحِ حُصُولُ الْإِيجَابِ مِنَ الْمُدَّعِي عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ بِدُونِ إِيجَابٍ مُطْلَقًا.أَمَّا الْقَبُولُ، فَيُشْتَرَطُ فِي كُلِّ صُلْحٍ يَتَضَمَّنُ الْمُبَادَلَةَ بَعْدَ الْإِيجَابِ.
ثُمَّ قَالُوا: تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالِحْنِي عَلَى الدَّارِ الَّتِي تَدَّعِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلَا يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِقَوْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُ؛ لِأَنَّ طَرَفَ الْإِيجَابِ كَانَ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ الصُّلْحِ، وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْإِيجَابِ، فَقَوْلُ الطَّرَفِ الْآخَرِ: قَبِلْتُ، لَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِيجَابِ.أَمَّا إِذَا قَالَ الْمُدَّعِي ثَانِيًا: قَبِلْتُ.فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ.
وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ:
إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ:
كَالْعَقَارَاتِ، وَالْأَرَاضِي، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَنَحْوِهَا فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَ الْإِيجَابِ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَكُونُ إِسْقَاطًا حَتَّى يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهَا، وَسَبَبُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِسْقَاطًا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَرَيَانِ الْإِسْقَاطِ فِي الْأَعْيَانِ.
وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عَلَى جِنْسٍ آخَرَ، فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ- أَيْضًا- سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ: كَالنَّقْدَيْنِ، وَمَا فِي حُكْمِهِمَا.
وَسَبَبُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّ الصُّلْحَ فِيهِمَا مُبَادَلَةٌ، وَفِي الْمُبَادَلَةِ يَجِبُ الْقَبُولُ، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ.
أَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْحُقُوقِ، فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِيجَابِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَالْمُصَالَحِ بِهِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَهَاهُنَا يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الدَّائِنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَدِينِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ عِبَارَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَالْإِسْقَاطُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، بَلْ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الْمُسْقِطِ.
فَمَثَلًا: لَوْ قَالَ الدَّائِنُ لِلْمَدِينِ: صَالَحْتُكَ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِكَ لِي مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ فَيَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَدِينِ، وَيَلْزَمُ الصُّلْحُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ الدَّيْنُ.إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ الْمُدَّعِيَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُوجِبَ، فَيُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمُدَّعِي؛ سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، أَمْ عَمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِسْقَاطًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْقِطُ الْمُدَّعِيَ أَوِ الدَّائِنَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ سُقُوطُ حَقِّهِ بِدُونِ قَبُولِهِ وَرِضَاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً، وَفِي الْمُعَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا.أَمَّا فِي الصُّلْحِ عَمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى عَيْنِ الْجِنْسِ، فَيَقُومُ طَلَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ مَقَامَ الْقَبُولِ.
الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي:
26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ بِالتَّعَاطِي إِذَا كَانَتْ قَرَائِنُ الْحَالِ دَالَّةً عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِهِ، كَمَا لَوْ أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالًا لِلْمُدَّعِي لَا يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ وَقَبَضَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ الْمَالَ.وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنَ، وَأَعْطَى الْمُدَّعِي شَاةً وَقَبَضَهَا الْمُدَّعِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ الِادِّعَاءُ بِالْأَلْفِ دِرْهَمٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُ تِلْكَ الشَّاةِ.
أَمَّا إِذَا أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بَعْضَ الْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْمُدَّعِي حَقُّ أَخْذِهِ وَقَبَضَهُ الْمُدَّعِي، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى الصُّلْحِ فَلَا يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلِلْمُدَّعِي طَلَبُ بَاقِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمُدَّعِي بَعْضًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ اسْتِيفَاءَ بَعْضِ حَقِّهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْمِقْدَارِ الَّذِي أَخَذَهُ وَعَدَلَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَاقِي، وَالْحَقُّ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ.
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاقِدَيْنِ:
27- وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَهْلِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْوِلَايَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلتَّرَاضِي.انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (أَهْلِيَّة، تَرَاضِي، عَقْد، وِلَايَة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-موسوعة الفقه الكويتية (كف النفس)
كَفُّ النَّفْسِالتَّعْرِيفُ
1- مِنْ مَعَانِي الْكَفِّ فِي اللُّغَةِ التَّرْكُ وَالْمَنْعُ، يُقَالُ: كَفَّ عَنِ الشَّيْءِ كَفًّا مِنْ بَابِ قَتَلَ، إِذَا تَرَكَهُ، وَكَفَفْتُهُ كَفًّا مَنَعْتُهُ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَعَرَّفَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِأَنَّهُ الِانْتِهَاءُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قَالَ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: إِنَّ الْفِعْلَ الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي النَّهْيِ هُوَ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنِ الْمَنْهِيِّ، أَيِ انْتِهَاؤُهُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} نَهْيٌ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيِ الزِّنَا إِذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُهُ.
فَلَا يَحْصُلُ الْكَفُّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَيْهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّرْكُ:
2- مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ التَّخْلِيَةُ وَالْإِسْقَاطُ وَعَدَمُ الْفِعْلِ، يُقَالُ: تَرَكْتُ الشَّيْءَ إِذَا خَلَّيْتُهُ، وَتَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا.
فَالتَّرْكُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْوَاجِبِ أَوِ السُّنَّةِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الْحَرَامِ أَوِ الْمَكْرُوهِ.كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنْ كَفِّ النَّفْسِ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إِلاَّ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
3- عَرَّفَ الْأُصُولِيُّونَ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا أَوْ وَضْعًا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ حَتْمًا لِفِعْلِ غَيْرِ كَفٍّ فَالْإِيجَابُ.أَوْ تَرْجِيحًا فَالنَّدْبُ، وَإِنْ كَانَ حَتْمًا لِكَفٍّ فَالتَّحْرِيمُ، أَوْ غَيْرَ حَتْمٍ فَالْكَرَاهَةُ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ- أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا- إِلاَّ بِفِعْلٍ كَسْبِيٍّ لِلْمُكَلَّفِ، وَالْفِعْلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنِ الْمَنْهِيِّ، وَيَسْتَلْزِمُ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ سَبْقَ الدَّاعِيَةِ أَيَّ دَاعِيَةٍ الْمَنْهِيِّ إِلَى فِعْلِهِ، فَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الدَّاعِيَةِ، فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: لَا تَزْنِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ مَعْنَاهُ كُفَّ نَفْسَكَ مِنَ الزِّنَا لَزِمَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ قَبْلَ طَلَبِ النَّفْسِ لِلزِّنَا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْطُرْ طَلَبُهَا لِلزِّنَا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ كَفُّهَا عَنْهُ؟ فَلَوْ طَلَبَ مِنْهُ كَفَّ النَّفْسِ فِي حَالِ عَدَمِ طَلَبِهَا طَلَبَ مَا هُوَ مُحَالٌ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَحْوُ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} تَعْلِيقُ التَّكْلِيفِ، أَيْ إِذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُكَ فَكُفَّهَا.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَسَّرَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ الْقَادِرَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، لَا إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَيَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ عَدَمُ الْفِعْلِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الْمَشِيئَةِ، وَكَانَ الْفِعْلُ مِمَّا يَصِحُّ تَرَتُّبُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، فَتُخْرَجُ الْعَدَمِيَّاتُ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَالْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ لَيْسَ مُجَرَّدُ عَدَمِ الْفِعْلِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَكَفُّ النَّفْسِ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا عَدَمُ الْفِعْلِ، فَكَانَ مُتَحَقِّقًا مِنْ قَبْلُ وَاسْتَمَرَّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ أَصْلًا، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الشِّرْبِينِيُّ عَلَى حَاشِيَةِ الْعَلاَّمَةِ الْبُنَانِيِّ.
وَنَقَلَ ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ عَنِ السُّبْكِيِّ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَلِيلَيْنِ يَدُلاَّنِ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ أَحَدُهُمَا قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} إِذِ الِاتِّخَاذُ افْتِعَالٌ، وَالْمَهْجُورُ الْمَتْرُوكُ.
وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ السَّوَائِيُّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَسَكَتُوا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، قَالَ: هُوَ حِفْظُ اللِّسَانِ».
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
تَرَتُّبُ الثَّوَابِ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ
4- لَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَفَّ النَّفْسِ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مُمْتَثِلَ التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ، وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْكَفُّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، كَمَا حَقَّقَهُ الْآمِدِيُّ فِي مَعْرِضِ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ لَكِنْ يَشْتَرِطُ بَعْضُهُمْ لِلثَّوَابِ أَنْ يَكُونَ الْكَفُّ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَى حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ: إِنَّ فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّهْيِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ، بَلْ مَدَارُهُ عَلَى إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ كَفُّهَا عَنْهُ.
الثَّانِي: الْمُكَلَّفُ بِهِ الْمُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّرْكُ لِلِامْتِثَالِ.
الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِهِ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
18-موسوعة الفقه الكويتية (متاركة)
مُتَارَكَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُتَارَكَةُ فِي اللُّغَةِ:
مَصْدَرُ تَارَكَ مِنَ التَّرْكِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ وَالْمُفَارَقَةُ يُقَالُ: تَتَارَكُوا الْأَمْرَ بَيْنَهُمْ أَيْ تَرَكَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ، وَتَارَكَهُ الْبَيْعَ مُتَارَكَةً إِذَا خَلاَّهُ كُلٌّ مِنْهُمْ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: لَمْ يُعَرِّفِ الْفُقَهَاءُ الْمُتَارَكَةَ تَعْرِيفًا وَاضِحًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الْمُتَارَكَةِ بَلِ اسْتَعَاضُوا عَنْهُ بِلَفْظِ الْفَسْخِ وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْمُتَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فِي الْجُمْلَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْإِبْطَالُ:
2- الْإِبْطَالُ لُغَةً: إِفْسَادُ الشَّيْءِ وَإِزَالَتُهُ حَقًّا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَوْ بَاطِلًا.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْبُطْلَانِ سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ سَبَبُ الْبُطْلَانِ أَوْ وُجِدَ وُجُودًا حِسِّيًّا لَا شَرْعِيًّا وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْفَسْخِ وَالْإِفْسَادِ وَالْإِزَالَةِ وَالنَّقْضِ وَالْإِسْقَاطِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ.
رُكْنُ الْمُتَارَكَةِ
3- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْأَصْلُ فِي الْمُتَارَكَةِ أَنْ تَكُونَ بِاللَّفْظِ الْمُعَبَّرِ بِهِ عَنْهَا مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَتَرَكْتُ وَفَسَخْتُ وَنَقَضْتُ، وَتَصِحُّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلَا يَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ الطَّلَقَاتِ عَلَى الزَّوْجِ.
وَيَحِلُّ مَحَلَّ اللَّفْظِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ الْفِعْلُ الْمُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا مِثْلُ رَدِّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا عَلَى بَائِعِهِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُتَارَكَةٌ لِلْبَيْعِ فَتَصِحُّ وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِهِ.هَذَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ عَامَّةً.وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا؟.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُتَارَكَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ الدُّخُولِ إِلاَّ بِالْقَوْلِ كَتَرَكْتُكِ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَكِ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَقِيلَ: تَكُونُ الْمُتَارَكَةُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالتَّرْكِ عَلَى قَصْدِ عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: لَا تَكُونُ إِلاَّ بِالْقَوْلِ كَحَالِ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا وَمَضَى عَلَى عِدَّتِهَا سُنُونَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ هَذَا إِذَا تَرَكَهَا مَعَ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا فَإِذَا تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مُتَارَكَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَخَالَفَ زُفَرُ فِي ذَلِكَ وَعَدَّهَا مُتَارَكَةً أَيْضًا وَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ مِنْ تَارِيخِ آخِرِ لِقَاءٍ لَهُ بِهَا.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُتَارَكَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَبِيعٍ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ: كَإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ وَوَقَعَ فِي يَدِ بَائِعِهِ فَهُوَ مُتَارَكَةٌ لِلْبَيْعِ وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِهِ.
وَقَالُوا: يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَسْخُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَا فِي الْأَصَحِّ خُرُوجًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يُنَافِي وُجُوبَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَتَجِبُ الْعِدَّةُ بَعْدَ الْوَطْءِ لَا الْخَلْوَةِ لِلطَّلَاقِ لَا لِلْمَوْتِ مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ أَوْ مُتَارَكَةِ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمِ الْمَرْأَةُ بِالْمُتَارَكَةِ فِي الْأَصَحِّ.
وَإِذَا تَمَّتِ الْمُتَارَكَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَحَقَّقَ رُكْنُهَا انْقَضَتْ كُلُّ آثَارِ الْعَقْدِ الَّذِي وَرَدَتْ عَلَيْهِ لِانْتِقَاضِهِ بِهَا وَوَجَبَ رَدُّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَهَا إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَا عَلَيْهَا قَبْلَ التَّعَاقُدِ مَا أَمْكَنَ فَيَتَرَادَّ الْمُتَعَاقِدَانِ الْبَدَلَيْنِ وَيَتَفَرَّقُ الزَّوْجَانِ وَيَكُونُ كُلُّ لِقَاءٍ لَهُمَا بَعْدَهُ حَرَامًا وَزِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ.فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَوْ وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ثُمَّ تَمَّتِ الْمُتَارَكَةُ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ قِيمَةِ الْمَبِيعِ بَالِغًا مَا بَلَغَ لِتَعَذُّرِ رَدِّ عَيْنِهِ كَمَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ التَّفَرُّقُ إِثْرَ الْمُتَارَكَةِ مَعَ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ إِثْبَاتُ الْمَهْرِ وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ حِفْظًا لِحَقِّ الشَّرْعِ فِي الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَحَقِّ الْوَلَدِ فِي النَّسَبِ وَهِيَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِلْغَاءَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
19-موسوعة الفقه الكويتية (مهر 2)
مَهْرٌ -2الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ وَالْحَطُّ مِنْهُ
21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ تَلْحَقُ بِهِ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}.
فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا تَرَاضَيَا عَلَى إِلْحَاقِهِ وَإِسْقَاطِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْعَقْدِ زَمَنٌ لِفَرْضِ الْمَهْرِ فَكَانَ حَالَةَ الزِّيَادَةِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ صَحِيحَةٌ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ (أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ)؛ فَإِذَا زَادَهَا فِي الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَزِمَتْهُ؛ هَذَا إِذَا قَبِلَتِ الْمَرْأَةُ الزِّيَادَةَ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَهْرِ أَوْ لَا؛ مِنْ زَوْجٍ أَوْ مِنْ وَلِيٍّ.
وَالزِّيَادَةُ إِنَّمَا تَتَأَكَّدُ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا بِالدُّخُولِ وَإِمَّا بِالْخَلْوَةِ وَإِمَّا بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ بَطَلَتِ الزِّيَادَةُ وَتَنَصَّفَ الْأَصْلُ وَلَا تُنْتَصَفُ الزِّيَادَةُ؛ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُنْتَصَفُ الزِّيَادَةُ.
وَقَالَ زُفَرُ: إِنْ زَادَ لَهَا فِي الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ بَعْدَ الْعَقْدِ لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ بَدَلَ مِلْكِهِ.وَإِنْ حَطَّتِ الزَّوْجَةُ عَنْ زَوْجِهَا مَهْرَهَا صَحَّ الْحَطُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَوْ بِشَرْطٍ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تَحُطَّ عَنْهُ خَمْسِينَ مِنْهَا فَقَبِلَتْ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَقَاءُ حَقِّهَا وَالْحَطُّ يُلَاقِيهِ حَالَةَ الْبَقَاءِ؛ وَيَصِحُّ الْحَطُّ وَلَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوِ الْبَيْنُونَةِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ حَطَّ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ صَغِيرَةً فَالْحَطُّ بَاطِلٌ؛ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَوَقَّفَ عَلَى إِجَازَتِهَا.
ثُمَّ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْحَطِّ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ؛ فَلَوْ كَانَ عَيْنًا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْحَطَّ لَا يَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ؛ وَمَعْنَى عَدَمِ صِحَّتِهِ أَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ مَا دَامَ قَائِمًا؛ فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الْمَهْرُ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَهْرَ صَارَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ فَيَصِحُّ الْإِسْقَاطُ.
كَمَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ حَطِّهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَرِيضَةً مَرَضَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَطَّ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مُبَانَةً مِنَ الزَّوْجِ وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَيَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ.
وَلَا بُدَّ لِصِحَّةِ حَطِّهَا مِنَ الرِّضَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُكْرَهَةً لَمْ يَصِحَّ؛ فَلَوْ خَوَّفَ امْرَأَتَهُ بِضَرْبٍ حَتَّى وَهَبَتْ مَهْرَهَا لَا يَصِحُّ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الضَّرْبِ.
وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْكَرَاهِيَةِ وَالطَّوْعِ- وَلَا بَيِّنَةَ- فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الْإِكْرَاهِ؛ وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الطَّوَاعِيَةِ أَوْلَى.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَهَبَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا جَمِيعَ صَدَاقِهَا؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ وَكَأَنَّهَا عَجَّلَتْ إِلَيْهِ بِالصَّدَاقِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ وَانْكَشَفَ الْآنَ أَنَّهَا إِنَّمَا تَمْلِكُ مِنْهُ النِّصْفَ؛ وَافَقَتْ هِبَتُهَا مِلْكَهَا وَمِلْكَهُ؛ فَنَفَذَتْ فِي مِلْكِهَا دُونَ مِلْكِهِ.
وَلَوْ وَهَبَتْ مِنْهُ نِصْفَ الصَّدَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهُ الرُّبُعُ؛ وَكَذَلِك إِنْ وَهَبَتْهُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ أَوْ أَقَلَّ؛ فَلَهُ نِصْفُ مَا بَقِيَ لَهَا بَعْدَ الْهِبَةِ.
وَقَالُوا: يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُسْقِطَ نِصْفَ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْبِنَاءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ وَهَبَتِ الْمَهْرَ لِزَوْجِهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ بَعْدَ قَبْضِهَا لَهُ- وَالْمَهْرُ عَيْنٌ- ثُمَّ طَلَّقَ؛ أَوْ فَارَقَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ- كَرِدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ- فَلَهُ نِصْفُ بَدَلِ الْمَهْرِ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَهْرَ قَبْلَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الطَّلَاقِ.
وَفِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ لَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهَا عَجَّلَتْ لَهُ مَا يَسْتَحِقُّ بِالطَّلَاقِ فَأَشْبَهَ تَعْجِيلَ الدَّيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَأَبْرَأَتْهُ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ وَلَوْ وَهَبَتْ لَهُ الدَّيْنَ؛ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَالْإِبْرَاءِ؛ وَقِيلَ كَهِبَةِ الْعَيْنِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ بِأَنَّهُ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنْ مَهْرِ مُوَلِّيَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِهَا؛ وَالْقَدِيمُ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ وَسَائِرِ مَا يُقَرِّرُ الصَّدَاقَ؛ فَأَيُّ الزَّوْجَيْنِ عَفَا لِصَاحِبِهِ عَمَّا وَجَبَ لَهُ مِنَ الْمَهْرِ- وَالْعَافِي جَائِزُ التَّصَرُّفِ- بَرِئَ مِنْهُ صَاحِبُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ فَإِنْ كَانَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ دَيْنًا سَقَطَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّرْكِ؛ وَلَا يَفْتَقِرُ إِسْقَاطُهُ إِلَى الْقَبُولِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ عَيْنًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَعَفَا الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ فَهُوَ هِبَةٌ يَصِحُّ بِلَفْظِ الْعَفْوِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ؛ وَلَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ أَصَالَةً؛ وَيَفْتَقِرُ لُزُومُ الْعَفْوِ عَنِ الْعَيْنِ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هِبَةٌ حَقِيقَةٌ وَلَا تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ؛ وَالْقَبْضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
وَلَا يَمْلِكُ الْأَبُ الْعَفْوَ عَنْ نِصْفِ مَهْرِ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ إِذَا طُلِّقَتْ- وَلَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ- كَثَمَنِ مَبِيعِهَا؛ وَلَا يَمْلِكُ الْأَبُ أَيْضًا الْعَفْوَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَهْرِ ابْنَتِهِ الْكَبِيرَةِ إِذَا طُلِّقَتْ وَلَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا.
وَلَا يَمْلِكُ غَيْرُ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ الْعَفْوَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَهْرِ وَلِيَّتِهِ وَلَوْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ فِي الْمَالِ.
تَعْجِيلُ الْمَهْرِ وَتَأْجِيلُهُ
22- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ كَوْنِ كُلِّ الْمَهْرِ مُعَجَّلاً أَوْ مُؤَجَّلاً وَجَوَازَ كَوْنِ بَعْضِهِ مُعَجَّلاً وَبَعْضِهِ مُؤَجَّلاً.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا سَمَّى الْمَهْرَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَأَطْلَقَ فَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمُعَجَّلِ مِنَ الْمَهْرِ هُوَ الْعُرْفُ؛ قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: يَتَنَاوَلُ الْمُعَجَّلَ عُرْفًا وَشَرْطًا؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ شَرَطَ تَعْجِيلَ كُلِّهِ فَلَهَا الِامْتِنَاعُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ كُلَّهُ؛ أَوْ بَعْضَهُ فَبَعْضَهُ.
وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ تَعْجِيلُ شَيْءٍ بَلْ سَكَتُوا عَنْ تَعْجِيلِهِ وَتَأْجِيلِهِ: فَإِنْ كَانَ عُرِفَ فِي تَعْجِيلِ بَعْضِهِ وَتَأْخِيرِ بَاقِيهِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحْتَبِسَ إِلاَّ إِلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ الْقَدْرِ.
قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: إِنْ لَمْ يُبَيِّنُوا قَدْرَ الْمُعَجَّلِ يُنْظَرُ إِلَى الْمَرْأَةِ وَإِلَى الْمَهْرِ: أَنَّهُ كَمْ يَكُونُ الْمُعَجَّلُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْمَهْرِ؟ فَيُعَجَّلُ ذَلِكَ؛ وَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبُعِ وَالْخُمُسِ بَلْ يُعْتَبَرُ الْمُتَعَارَفُ؛ فَإِنَّ الثَّابِتَ عُرْفًا كَالثَّابِتِ شَرْطًا بِخِلَافِ مَا إِذَا شَرَطَ تَعْجِيلَ الْكُلِّ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ إِذَا جَاءَ الصَّرِيحُ بِخِلَافِهِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ مُتَّفِقُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى صِحَّةِ تَأْجِيلِ الْمَهْرِ إِلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ نَحْوِ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ.
أَمَا إِذَا كَانَ التَّأْجِيلُ لَا إِلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ:
فَعَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ يَصِحُّ هَذَا التَّأْجِيلُ لِأَنَّ الْغَايَةَ مَعْلُومَةٌ فِي نَفْسِهَا وَهُوَ الطَّلَاقُ أَوِ الْمَوْتُ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ تَخْتَلِفُ آرَاءُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا إِذَا فُرِضَ نِصْفُ الْمَهْرِ مُعَجَّلاً وَنِصْفُهُ مُؤَجَّلاً وَلَمْ يُذْكَرِ الْوَقْتُ لِلْمُؤَجَّلِ؛ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ الْأَجَلُ وَيَجِبُ حَالًّا؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وَيَقَعُ ذَلِكَ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالطَّلَاقِ؛ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْمَهْرِ مُعَجَّلاً.
وَلَوْ شَرَطَ الْأَجَلَ فِي الصَّدَاقِ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كَانَ مَالِكُ وَأَصْحَابُهُ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ مُؤَخَّرًا؛ وَكَانَ مَالِكُ يَقُولُ: إِنَّمَا الصَّدَاقُ فِيمَا مَضَى نَاجِزٌ كُلُّهُ؛ فَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ مُؤَخَّرًا فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَطُولَ الْأَجَلُ فِي ذَلِكَ.
وَيَشْتَرِطُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ لِجَوَازِ تَأْجِيلِ الصَّدَاقِ مَعْلُومِيَّةَ الْأَجَلِ حَيْثُ قَالُوا: وَجَازَ تَأْجِيلُ الصَّدَاقِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا لِلدُّخُولِ إِنْ عُلِمَ وَقْتُ الدُّخُولِ عِنْدَهُمْ كَالشِّتَاءِ أَوِ الصَّيْفِ؛ لَا إِنْ لَمْ يُعْلَمْ؛ فَيُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ جَوَازُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ الدُّخُولِ مَعْلُومًا لِأَنَّ الدُّخُولَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ كَالْحَالِّ مَتَى شَاءَتْ أَخَذَتْهُ.
وَجَازَ تَأْجِيلُ الصَّدَاقِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَلِيًّا بِالْقُوَّةِ؛ بِأَنْ كَانَ لَهُ سِلَعٌ يَرْصُدُ بِهَا الْأَسْوَاقَ أَوْ لَهُ مَعْلُومٌ فِي وَقْفٍ أَوْ وَظِيفَةٍ؛ لَا إِنْ كَانَ مُعْدَمًا؛ وَيُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ لِمَزِيدِ الْجَهَالَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي تَأْخِيرِ الْأَجَلِ إِلَى السَّنَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ؛ وَذَكَرَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ إِلَى السَّنَةِ؛ ثُمَّ حُكِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ إِلاَّ أَنْ يَزِيدَ الْأَجَلُ إِلَى أَكْثَرَ مِنَ الْعِشْرِينَ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَفْسَخُهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ؛ ثُمَّ حَكَى أَنَّهُ يَفْسَخُهُ إِلَى الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ.
قَالَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ: لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْأَجَلَ الطَّوِيلَ مِثْلُ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا إِلَى مَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا قَصُرَ مِنَ الْأَجَلِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَإِنْ بَعُدَ لَمْ أَفْسَخْهُ إِلاَّ أَنْ يُجَاوِزَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْبَعُونَ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الصَّدَاقِ مُؤَخَّرًا إِلَى غَيْرِ أَجَلٍ فَإِنَّ مَالِكًا كَانَ يَفْسَخُهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَمْضِيهِ بَعْدَهُ؛ وَتُرَدُّ الْمَرْأَةُ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا مُعَجَّلاً كُلِّهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنَ الْمُعَجَّلِ فَلَا تَنْقُصُ مِنْهُ؛ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُعَجَّلِ، وَالْمُؤَجَّلِ فَتُوَفَّى تَمَامَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى النَّاكِحُ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمُؤَخَّرَ مُعَجَّلاً كُلَّهُ مَعَ النَّقْدِ مِنْهُ فَيُمْضِي النِّكَاحَ؛ فَلَا يُفْسَخُ لَا قَبْلَ الْبِنَاءِ وَلَا بَعْدَهُ؛ وَلَا تُرَدُّ الْمَرْأَةُ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا؛ فَإِنْ كَرِهَ النَّاكِحُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُعَجَّلاً كُلَّهُ؛ وَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُسْقِطَ الْمُؤَخَّرَ وَتَقْتَصِرَ عَلَى النَّقْدِ مَضَى النِّكَاحُ وَلَا كَلَامَ لِلنَّاكِحِ.
وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ: إِذَا رُدَّتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الْبِنَاءِ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا فَوُجِدَ صَدَاقُ مِثْلِهَا أَكْثَرُ مِنَ الْمُعَجَّلِ وَالْمُؤَخَّرِ فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: كَمَا لَا يُنْقَصُ إِذَا قَلَّ صَدَاقُ مِثْلِهَا مِنْ مِقْدَارِ الْمُعَجَّلِ؛ كَذَلِكَ لَا يُزَادُ إِذَا ارْتَفَعَ عَلَى مِقْدَارِ؛ الْمُعَجَّلِ وَالْمُؤَخَّرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ حَالًّا وَمُؤَجَّلاً؛ وَلِلزَّوْجَةِ حَبْسُ نَفْسِهَا وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ لِتَقْبِضَ الْمَهْرَ الْمُعَيَّنَ وَالْحَالَّ؛ لَا الْمُؤَجَّلَ فَلَا تَحْبِسُ نَفْسَهَا بِسَبَبِهِ لِرِضَاهَا بِالتَّأْجِيلِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ جَعْلُ بَعْضِ الْمَهْرِ حَالًّا وَبَعْضَهُ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ أَوِ الْفِرَاقِ؛ وَلَا يَصِحُّ تَأْجِيلُ الْمَهْرِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ كَقُدُومِ زَيْدٍ.
وَإِذَا سَمَّى الصَّدَاقَ فِي الْعَقْدِ وَأَطْلَقَ فَلَمْ يُقَيَّدْ بِحُلُولٍ وَلَا تَأْجِيلٍ صَحَّ؛ وَيَكُونُ الصَّدَاقُ حَالًّا لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْأَجَلِ.
وَإِنْ فَرَضَ الصَّدَاقَ مُؤَجَّلاً أَوْ فَرَضَ بَعْضَهُ مُؤَجَّلاً إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَوْ إِلَى أَوْقَاتٍ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ صَحَّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ كَالثَّمَنِ؛ وَهُوَ إِلَى أَجَلِهِ؛ سَوَاءٌ فَارَقَهَا أَوْ أَبْقَاهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُؤَجَّلَةِ.
وَإِنْ أَجَّلَ الصَّدَاقَ أَوْ أَجَّلَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ مَحِلَّ الْأَجَلِ صَحَّ نَصًّا وَمَحِلُّهُ الْفُرْقَةُ الْبَائِنَةُ فَلَا يَحِلُّ مَهْرُ الرَّجْعِيَّةِ إِلاَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
قَبْضُ الْمَهْرِ
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْقَاضِي قَبْضَ مَهْرِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً إِلاَّ إِذَا نَهَتْ وَهِيَ بَالِغَةٌ صَحَّ النَّهْيُ؛ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ ذَلِكَ؛ وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَى الصَّغِيرَةِ؛ وَالْبِنْتُ الْبَالِغَةُ حَقُّ الْقَبْضِ لَهَا دُونَ غَيْرِهَا.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى قَبْضَ الْمَهْرِ هُوَ الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ (الْأَبُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوِ السَّيِّدُ) أَوْ وَلِيُّ الزَّوْجَةِ السَّفِيهَةِ؛ أَمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلسَّفِيهَةِ وَلِيٌّ وَلَا مُجْبِرٌ فَلَا يَقْبِضُ صَدَاقَهَا إِلاَّ الْحَاكِمُ؛ فَإِنْ شَاءَ قَبَضَهُ وَاشْتَرَى لَهَا بِهِ جِهَازًا وَإِنْ شَاءَ عَيَّنَ لَهَا مَنْ يَقْبِضُهُ وَيَصْرِفُهُ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ مِمَّا يَجِبُ لَهَا.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ؛ أَوْ لَمْ يُمْكِنِ الرَّفْعُ إِلَيْهِ؛ أَوْ خِيفَ عَلَى الصَّدَاقِ مِنْهُ حَضَرَ الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ فَيَشْتَرُونَ لَهَا بِصَدَاقِهَا جِهَازًا وَيُدْخِلُونَهُ فِي بَيْتِ الْبِنَاءِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْبِرٌ وَلَا وَلِيُّ سَفِيهَةٍ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ مُقَدَّمٍ عَلَيْهَا مِنْهُ فَالْمَرْأَةُ الرَّشِيدَةُ هِيَ الَّتِي تَقْبِضُ مَهْرَهَا لَا مَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَهَا إِلاَّ بِتَوْكِيلٍ مِنْهَا فِي قَبْضِهِ.
فَإِنْ قَبَضَ الْمَهْرَ غَيْرُ الْمُجْبِرِ وَوَلِيُّ السَّفِيهَةِ وَالْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ بِلَا تَوْكِيلٍ مِمَّنْ لَهُ الْقَبْضُ فَضَاعَ وَلَوْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ كَانَ ضَامِنًا لَهُ لِتَعَدِّيهِ بِقَبْضِهِ؛ وَاتَّبَعَتْهُ الزَّوْجَةُ أَوْ تَبِعَتِ الزَّوْجَ لِتَعَدِّيهِ بِدَفْعِ الْمَهْرِ لِغَيْرِ مَنْ لَهُ قَبْضُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْأَبَ إِذَا قَبَضَ مَهْرَ ابْنَتِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَلًّى عَلَيْهَا؛ أَوْ رَشِيدَةً: فَإِنْ كَانَتْ مُوَلًّى عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ؛ أَوْ سَفَهٍ جَازَ لَهُ قَبْضُ مَهْرِهَا لِاسْتِحْقَاقِهِ الْوِلَايَةَ عَلَى مَالِهَا؛ وَلَوْ قَبَضَتْهُ مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَبْرَأِ الزَّوْجُ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يُبَادِرَ الْأَبُ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهَا فَيَبْرَأُ الزَّوْجُ حِينَئِذٍ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَتْ بَالِغَةً عَاقِلَةً رَشِيدَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ ثَيِّبًا لَا تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ؛ فَلَيْسَ لِلْأَبِ قَبْضُ مَهْرِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا؛ فَإِنْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا لَمْ يَبْرَأِ الزَّوْجُ مِنْهُ؛ كَمَا لَوْ قَبَضَ لَهَا دَيْنًا أَوْ ثَمَنًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِكْرًا يُجْبِرُهَا أَبُوهَا عَلَى النِّكَاحِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ مَهْرِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا؛ فَإِنْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَمْ يَبْرَأِ الزَّوْجُ مِنْهُ؛ وَجَعَلَ لَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَبْضَ مَهْرِهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِجْبَارَهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالصَّغِيرَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْأَبِ وَالْوَلِيِّ قَبْضَ مَهْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ لِأَنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَكَانَ لَهُ قَبْضُهُ كَثَمَنِ مَبِيعِهَا.
وَلَا يَقْبِضُ الْأَبُ صَدَاقَ مُكَلَّفَةٍ رَشِيدَةٍ وَلَوْ بِكْرًا إِلاَّ بِإِذْنِهَا لِأَنَّهَا الْمُتَصَرِّفَةُ فِي مَالِهَا فَاعْتُبِرَ إِذْنُهَا فِي قَبْضِهِ كَثَمَنِ مَبِيعِهَا؛ فَإِنْ سَلَّمَ زَوْجُ رَشِيدَةٍ الصَّدَاقَ لِلْأَبِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا لَمْ يَبْرَأِ الزَّوْجُ بِتَسْلِيمِهِ لَهُ فَتَرْجِعُ هِيَ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْأَبِ بِمَا غَرِمَهُ.
ضَمَانُ الْمَهْرِ
24- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْوَلِيِّ مَهْرَ الزَّوْجَةِ سَوَاءٌ كَانَ وَلِيُّ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ؛ صَغِيرَيْنِ كَانَا أَوْ كَبِيرَيْنِ؛ أَمَا ضَمَانُ وَلِيِّ الْكَبِيرِ مِنْهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ؛ وَأَمَّا وَلِيُّ الصَّغِيرَيْنِ فَلِأَنَّهُ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: زَوَّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْكَبِيرَةَ- وَهِيَ بِكْرٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ- رَجُلاً وَضَمِنَ عَنْهُ مَهْرَهَا صَحَّ ضَمَانُهُ؛ ثُمَّ هِيَ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَتْ طَالَبَتْ زَوْجَهَا أَوْ وَلِيَّهَا إِنْ كَانَتْ أَهْلاً لِذَلِكَ؛ وَيَرْجِعُ الْوَلِيُّ بَعْدَ الْأَدَاءِ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ.
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِصِحَّةِ هَذَا الضَّمَانِ شَرْطَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ فِي حَالِ صِحَّةِ الضَّامِنِ؛ فَلَوْ كَفَلَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ أَوِ الْمَكْفُولُ لَهُ وَارِثُهُ لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لِوَارِثِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا حَصَلَ الضَّمَانُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا الضَّمَانِ إِيصَالَ النَّفْعِ إِلَى الْوَارِثِ؛ وَالْمَرِيضُ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ.
الثَّانِي: قَبُولُ الْمَرْأَةِ أَوْ وَلِيِّهَا أَوْ فُضُولِيٍّ فِي مَجْلِسِ الضَّمَانِ؛ إِذْ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَوْعَيْهَا (بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ) بِلَا قَبُولِ الطَّالِبِ أَوْ نَائِبِهِ وَلَوْ فُضُولِيًّا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
مَنْعُ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ مَنْعَ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ بُضْعِهَا؛ كَالثَّمَنِ عِوَضٌ عَنِ الْمَبِيعِ؛ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَكَانَ لِلْمَرْأَةِ حَقُّ حَبْسِ نَفْسِهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ.
هَذَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ حَالًّا وَلَمْ يَحْصُلْ وَطْءٌ وَلَا تَمْكِينٌ.
26- فَإِنْ تَطَوَّعَتِ الْمَرْأَةُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ الْمَهْرِ؛ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ لِقَبْضِ الْمَهْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ:
فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ بِرِضَاهَا وَهِيَ مُكَلَّفَةٌ فَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمَهْرَ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ الْوَطَآتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي هَذَا الْمِلْكِ؛ لَا بِالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْلَاءُ شَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ عَنْ بَدَلٍ يُقَابِلُهُ احْتِرَامًا لِلْبُضْعِ وَإِبَانَةً لِخَطَرِهِ؛ فَكَانَتْ هِيَ بِالْمَنْعِ مُمْتَنِعَةً عَنْ تَسْلِيمِ مَا يُقَابِلُهُ بَدَلٌ؛ فَكَانَ لَهَا ذَلِكَ بِالْوَطْءِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى؛ فَكَانَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ عَنِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَأْخُذَ مَهْرَهَا فَكَذَا عَنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: فِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَخَلَ بِهَا أَوْ صَحَّتِ الْخَلْوَةُ وَتَأَكَّدَ كُلُّ الْمَهْرِ لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمُعَجَّلِ كَانَ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلصَّاحِبَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا لِقَبْضِ الْمَهْرِ الْحَالِّ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الْوَطْءِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ بِرِضَا الْمُسَلِّمِ؛ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ كَمَا لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ وَطِئَهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ أَمَّا إِذَا لَمْ يَجْرِ وَطْءٌ فَلَهَا الْعَوْدُ إِلَى الِامْتِنَاعِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا قَبْلَ التَّمْكِينِ.
27- أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ مُؤَجَّلاً إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَلَيْهَا تَسْلِيمَ نَفْسِهَا وَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ لِقَبْضِ الْمَهْرِ وَلَوْ حَلَّ الْأَجَلُ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا وَتَعْجِيلِ حَقِّهِ؛ فَصَارَ كَالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا بِالْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِمُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الْمَهْرِ؛ فَمَتَى طَلَبَ الزَّوْجُ تَأْجِيلَ الْمَهْرِ فَقَدْ رَضِيَ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ.
28- وَلَوْ كَانَ بَعْضُ الْمَهْرِ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلاً مَعْلُومًا؛ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا؛ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الزَّوْجَ مَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ؛ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَجَّلَ الْبَعْضَ لَمْ يَرْضَ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَكَحَ بِنَقْدٍ وَآجِلٍ؛ فَإِنْ دَفَعَ النَّقْدَ كَانَ لَهُ الْبِنَاءُ؛ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَلَوَّمَ لَهُ الْإِمَامُ وَضَرَبَ لَهُ أَجَلاً بَعْدَ أَجَلٍ؛ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَعْضُ صَدَاقِهَا حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلاً فَيَصِحُّ إِذَا كَانَ قَدْرُ الْحَالِّ مِنْهُ مَعْلُومًا وَأَجَلُ الْمُؤَجَّلِ مَعْلُومًا؛ وَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِقَبْضِ الْحَالِّ؛ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِقَبْضِ الْمُؤَجَّلِ؛ فَيَكُونُ حُكْمُ الْحَالِّ مِنْهُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ حَالًّا؛ وَحُكْمُ الْمُؤَجَّلِ مِنْهُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ مُؤَجَّلاً؛ فَلَوْ تَرَاخَى التَّسْلِيمُ حَتَّى حَلَّ الْمُؤَجَّلُ كَانَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا عَلَى قَبْضِ الْمُعَجَّلِ دُونَ مَا حَلَّ مِنَ الْمُؤَجَّلِ.
وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ؛ فَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلاً فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ الْعَاجِلِ دُونَ الْآجِلِ.
مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَهْرُ
29- الْأَصْلُ أَنَّ الزَّوْجَةَ تَمْلِكُ الصَّدَاقَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلاً لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَقْدٌ يَمْلِكُ الزَّوْجُ بِهِ الْعِوَضَ؛ فَتَمْلِكُ الزَّوْجَةُ بِهِ الْمُعَوَّضَ كَامِلاً كَالْبَيْعِ؛ وَلَكِنْ هَذَا الْمِلْكُ عُرْضَةٌ لِلسُّقُوطِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا مَا دَامَ لَمْ يُوجَدْ مَا يُؤَكِّدُ الْمَهْرَ وَيُقَرِّرُهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأُمُورِ مُؤَكِّدَةً لِلْمَهْرِ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ؛ وَفِيمَا يَلِي مُؤَكِّدَاتُ الْمَهْرِ مَعَ بَيَانِ مَوْقِفِ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْهَا:
أ- الْوَطْءُ (الدُّخُولُ):
30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِوَطْءِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ؛ وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا لِوُقُوعِهِ فِي الْحَيْضِ أَوِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ يُوجِبُ الْمَهْرَ ابْتِدَاءً فَذَا أَوْلَى بِالتَّقْرِيرِ وَيَسْتَقِرُّ بِوَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: وَيَتَّجِهُ احْتِمَالُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُقُوعُ الْوَطْءِ مِنِ ابْنِ عَشْرٍ فَأَكْثَرَ؛ إِذْ مَنْ كَانَ سِنُّهُ دُونَهَا فَوُجُودُ الْوَطْءِ مِنْهُ كَعَدَمِهِ؛ وَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْوَطْءِ فِي بِنْتِ تِسْعٍ فَأَكْثَرَ لِأَنَّهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَتَأَهَّلْ لِوَطْءِ الرَّجُلِ عَادَةً وَلَا هِيَ مَحِلٌّ لِلشَّهْوَةِ غَالِبًا.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: وَطْءٌ).
ب- الْمَوْتُ:
31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ مَهْرٍ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ الْمُسَمَّى؛ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ كَانَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ؛ وَالْعَقْدُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ؛ بَلِ انْتَهَى نِهَايَتَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لِلْعُمْرِ؛ فَتَنْتَهِي نِهَايَتُهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْعُمْرِ؛ وَإِذَا انْتَهَى يَتَأَكَّدُ فِيمَا مَضَى وَيَتَقَرَّرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ يَتَقَرَّرُ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ فَيَتَقَرَّرُ الْوَاجِبُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ لَمَّا وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ- وَالْمَوْتُ لَمْ يَعْرِفْ مُسْقِطًا لِلدَّيْنِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ- فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
وَإِذَا تَأَكَّدَ الْمَهْرُ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ.
32- وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ يَتَأَكَّدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا قُتِلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ؛ سَوَاءٌ كَانَ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ بَلَغَ غَايَتَهُ فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
وَإِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً لَا يَسْقُطُ عَنِ الزَّوْجِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ؛ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْكُلُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَوْتَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَالْمَوْتِ الْمُتَيَقَّنِ فِي تَأْكِيدِ الْمَهْرِ؛ وَذَلِكَ كَالْمَفْقُودِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّعْمِيرِ يَحْكُمُ الْحُكَّامُ بِمَوْتِهِ.
وَيَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ مَا إِذَا قَتَلَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا كُرْهًا فِي زَوْجِهَا؛ أَوْ قَتَلَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُتَزَوِّجَةَ؛ فَلَا يَسْقُطُ الصَّدَاقُ عَنْ زَوْجِهَا؛ وَقَالُوا: يَبْقَى النَّظَرُ فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا هَلْ تُعَامَلُ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهَا وَلَا يَتَكَمَّلُ صَدَاقُهَا أَوْ يَتَكَمَّلُ؟
وَاسْتَظْهَرَ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ أَنَّهُ لَا يَتَكَمَّلُ لَهَا لِاتِّهَامِهَا؛ لِئَلاَّ يَكُونَ ذَرِيعَةً لِقَتْلِ النِّسَاءِ أَزْوَاجَهُنَّ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَصْلِ اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَسَائِلَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَعْرِضِ تَفْصِيلِهِ لِلْمَسْأَلَةِ: هَلَاكُ الْمَنْكُوحَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ؛ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً؛ سَوَاءٌ هَلَكَتْ بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ.
فَأَمَّا إِذَا هَلَكَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ قَتَلَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ؛ فَالنَّصُّ فِي «الْمُخْتَصَرِ»: أَنْ لَا مَهْرَ؛ وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» فِي الْحُرَّةِ إِذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا: لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ.
ثُمَّ الْحُرَّةُ إِذَا مَاتَتْ أَوْ قَتَلَهَا الزَّوْجُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا قَطْعًا؛ وَكَذَا لَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: مَوْتٌ).
ج- الْخَلْوَةُ
33- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يَتَأَكَّدُ بِهَا الْمَهْرُ؛ حَتَّى لَوْ خَلَا رَجُلٌ بِامْرَأَتِهِ خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمُسَمَّى؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْخَلْوَةُ بِمُجَرَّدِهَا لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ عِنْدَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ الْمَقَامُ فَيَتَقَرَّرُ الْكَمَالُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْجِهَازَ قَدْ تَغَيَّرَ وَاللَّذَّةُ قَدْ حَصَلَتْ وَدَامَتْ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ فِي ضَبْطِ مُدَّةِ الطُّولِ فَقِيلَ: سَنَةٌ؛ وَقِيلَ: مَا يُعَدُّ طُولاً فِي الْعَادَةِ.
قَالَ ابْنُ شَاسٍ: ثُمَّ حَيْثُ قُلْنَا إِنَّ الْخَلْوَةَ بِمُجَرَّدِهَا لَا تُقَرِّرُ؛ فَإِنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي جَعْلِ الْقَوْلِ قَوْلَهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ إِذَا تَنَازَعَا فِي الْوَطْءِ لِأَجْلِ التَّقْرِيرِ؛ كَمَا إِذَا خَلَا بِهَا خَلْوَةَ الْبِنَاءِ؛ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا؛ وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إِلَيْهَا النِّسَاءُ؛ وَتَثْبُتُ خَلْوَةُ الْبِنَاءِ (خَلْوَةُ الِاهْتِدَاءِ) وَلَوْ بِامْرَأَتَيْنِ أَوْ بِاتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا فِي خَلْوَةِ الزِّيَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّائِرِ مِنْهُمَا جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَةِ.
قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَإِنْ زَارَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَتَنَازَعَا فِي الْوَطْءِ صُدِّقَ الزَّائِرُ مِنْهُمَا بِيَمِينٍ؛ فَإِنْ زَارَتْهُ صُدِّقَتْ أَنَّهُ وَطِئَهَا وَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِهِ؛ وَإِنْ زَارَهَا صُدِّقَ فِي نَفْيِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِدَعْوَاهَا الْوَطْءَ؛ لِأَنَّ لَهُ جُرْأَةً عَلَيْهَا فِي بَيْتِهِ دُونَ بَيْتِهَا؛ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الزَّائِرَ يُصَدَّقُ مُطْلَقًا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ فَإِنْ كَانَا مَعًا زَائِرَيْنِ صُدِّقَ فِي نَفْيِهِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تُقَرِّرُ الْمَهْرَ وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ؛ وَعَلَى هَذَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْخَلْوَةِ وَادَّعَتِ الْإِصَابَةَ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُهَا؛ بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُهَا فِي تَقْرِيرِ الْمَهْرِ (ر: خَلْوَةٌ ف 14 وَمَا بَعْدَهَا).
د- مُقَدِّمَاتُ الْجِمَاعِ
34- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْقُبْلَةَ وَالْمُبَاشَرَةَ وَالتَّجَرُّدَ وَالْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَاقَ وَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمَهْرُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَا بِاسْتِدْخَالِ مَنِيٍّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اسْتَمْتَعَ بِامْرَأَتِهِ بِمُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ كَالْقُبْلَةِ وَنَحْوِهَا فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكَمَّلُ بِهِ الصَّدَاقُ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا أَخَذَهَا فَمَسَّهَا وَقَبَضَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً إِذَا نَالَ مِنْهَا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ؛ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَهِيَ عُرْيَانَةُ تَغْتَسِلُ أُوجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرَ؛ وَرَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِذَا اطَّلَعَ مِنْهَا عَلَى مَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ فَهُوَ كَالْقُبْلَةِ.
قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِذَلِكَ؛ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ فَيَكُونُ فِي تَكْمِيلِ الصَّدَاقِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُكَمَّلُ بِهِ الصَّدَاقُ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- : «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا»؛ وَلِأَنَّهُ مَسِيسٌ فَيَدْخُلُ فِي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ بِامْرَأَتِهِ فَكُمِّلَ بِهِ الصَّدَاقُ كَالْوَطْءِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: لَا يُكَمَّلُ بِهِ الصَّدَاقُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَمَسُّوهُنَّ} إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ الْجِمَاعُ؛ وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أَنْ لَا يُكَمَّلَ الصَّدَاقُ لِغَيْرِ مَنْ وَطِئَهَا؛ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ تَرَكَ عُمُومَهُ فِيمَنْ خَلَا بِهَا لِلْإِجْمَاعِ الْوَارِدِ عَنِ الصَّحَابَةِ؛ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ.
هـ- إِزَالَةُ الْبَكَارَةِ بِغَيْرِ آلَةِ الْجِمَاعِ
35- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ أَزَالَ الزَّوْجُ بَكَارَةَ زَوْجَتِهِ بِحَجَرٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ لَهَا كَمَالَ الْمَهْرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَزَالَهَا بِدَفْعَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى عَلَى الزَّوْجِ وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ صَدَاقِ مِثْلِهَا.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ دُخُولَ صُورَةِ إِزَالَةِ الْبَكَارَةِ بِغَيْرِ آلَةِ الْجِمَاعِ فِي الْخَلْوَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ عَلَى أَنَّ إِزَالَةَ الْبَكَارَةِ بِحَجَرٍ وَنَحْوِهِ كَإِصْبَعٍ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْخَلْوَةِ فَلِذَا أَوْجَبَ كُلَّ الْمَهْرِ بِخِلَافِ إِزَالَتِهَا بِدَفْعَةٍ فَإِنَّ الْمُرَادَ حُصُولُهَا فِي غَيْرِ خَلْوَةٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ دَفَعَ امْرَأَةً فَسَقَطَتْ عُذْرَتُهَا فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا بِذَلِكَ مِنْ صَدَاقِهَا عِنْدَ الْأَزْوَاجِ؛ وَعَلَيْهِ الْأَدَبُ؛ وَكَذَا لَوْ أَزَالَهَا بِإِصْبَعِهِ وَالْأَدَبُ هُنَا أَشَدُّ؛ وَسَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ أَوْ غُلَامٌ أَوِ امْرَأَةٌ.
هَذَا فِي غَيْرِ الزَّوْجِ؛ وَأَمَّا الزَّوْجُ فَحُكْمُهُ فِي الدَّفْعَةِ مِثْلُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَإِنْ فَارَقَهَا وَلَمْ يُمْسِكْهَا.وَإِنْ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ بِإِصْبَعِهِ فَاخْتُلِفَ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الصَّدَاقُ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الصَّدَاقُ؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا شَانَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُمْسِكْهَا؟ قَوْلَانِ؛ وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: إِنْ أَصَابَهَا بِإِصْبَعِهِ وَطَلَّقَهَا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا وَافْتَضَّهَا بِهِ فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ كُلُّ الْمَهْرِ؛ وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ مَا شَانَهَا مَعَ نِصْفِهِ؛ وَقِيلَ: إِنْ رُئِيَ أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ بِمَهْرِ ثَيِّبٍ فَكَالْأَوَّلِ وَإِلاَّ فَكَالثَّانِي.وَمَالَ أَصْبَغُ إِلَى الثَّانِي وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ؛ قَالَ فِي النَّوَادِرِ: وَلَا أَدَبَ عَلَيْهِ.وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ زَوْجِهَا فَعَلَيْهِ الْأَدَبُ وَمَا شَانَهَا؛ وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ بَالِغٍ فَلَا يَتَكَمَّلُ بِوَطْئِهِ الصَّدَاقُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَسْتَقِرُّ بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ بِغَيْرِ آلَةِ الْجِمَاعِ.
و- وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجَةِ مِنَ النِّكَاحِ
36- اعْتَبَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْهُ مُؤَكِّدًا مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الْمَهْرِ؛ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَجَبَ كَمَالُ الْمَهْرِ الثَّانِي بِدُونِ الْخَلْوَةِ وَالدُّخُولِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَوْقَ الْخَلْوَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
20-موسوعة الفقه الكويتية (مهر 4)
مَهْرٌ -4سُقُوطُ الْمَهْرِ
يَسْقُطُ الْمَهْرُ، بِأَسْبَابٍ، مِنْهَا:
أ- الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ
48- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ حَصَلَتْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ تُسْقِطُ جَمِيعَ الْمَهْرِ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ تَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ؛ وَفَسْخُ الْعَقْدِ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ سُقُوطَ كُلِّ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنَ الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفُرْقَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِيَارُ الْبُلُوغِ؛ وَخِيَارُ الْعِتْقِ؛ وَاخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِعَيْبٍ وَالْعُنَّةُ وَالْخِصَاءُ وَالْخُنُوثَةُ.
وَمَثَّلَ الْحَنَابِلَةُ لِهَذِهِ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَفَسْخِ الزَّوْجِ النِّكَاحَ لِعَيْبِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَعَكْسِهِ كَكَوْنِ الزَّوْجِ عِنِّينًا أَوْ أَشَلَّ وَنَحْوَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَتَّفِقُونَ مَعَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَصْلِ سُقُوطِ الْمَهْرِ عِنْدَ حُصُولِ الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا؛ أَوْ عِنْدَ حُصُولِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبِهَا؛ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي تَطْبِيقَاتِ هَذَا الْأَصْلِ إِذْ يَذْكُرُونَ مِنْ أَمْثِلَةِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ: إِسْلَامَ الزَّوْجَةِ بِنَفْسِهَا أَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ؛ وَفَسْخَهَا بِعَيْبِهِ؛ أَوْ بِعِتْقِهَا تَحْتَ رَقِيقٍ؛ أَوْ رِدَّتِهَا؛ أَوْ إِرْضَاعِهَا زَوْجَةَ زَوْجِهَا الصَّغِيرَةَ.
وَمِنْ ضِمْنِ أَمْثِلَةِ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْفُرْقَةِ: فَسْخُ الزَّوْجِ النِّكَاحَ بِعَيْبِهَا.
أَمَّا الْفُرْقَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مِنْهَا وَلَا بِسَبَبِهَا كَالطَّلَاقِ وَإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَرِدَّتِهِ وَلِعَانِهِ وَإِرْضَاعِ أُمَّ الزَّوْجِ لَهَا؛ أَوْ إِرْضَاعِ أُمِّ الزَّوْجَةِ لَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَإِنَّهَا تُنَصِّفُ الْمَهْرَ.
ب- الْإِبْرَاءُ:
49- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا فَإِنَّهُ يُسْقِطُهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ فِي مَحِلٍّ قَابِلٍ لِلسُّقُوطِ يُوجِبُ السُّقُوطَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ إِنْ طَلَّقَ زَوْجٌ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَأَيُّ الزَّوْجَيْنِ عَفَا لِصَاحِبِهِ عَمَّا وَجَبَ لَهُ بِالطَّلَاقِ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا؛ - وَالْعَافِي جَائِزُ التَّصَرُّفِ- بَرِئَ مِنْهُ صَاحِبُهُ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ عَيْنًا بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَلِمَنْ بِيَدِهِ الْعَيْنُ أَنْ يَعْفُوَ بِلَفْظِ الْعَفْوِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ؛ وَلَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ أَصَالَةً؛ وَإِنْ عَفَا غَيْرُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ- زَوْجًا كَانَ الْعَافِي أَوْ زَوْجَةً- صَحَّ الْعَفْوُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا.
وَإِذَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ صَدَاقِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ.
وَإِنْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الْإِبْرَاءِ وَأَلْفَاظِهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهِبَةِ (ر: إِبْرَاءٌ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا؛ هِبَةٌ).
ج- الْهِبَةُ:
50- عَدَّ الْحَنَفِيَّةُ هِبَةَ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْمَهْرِ كُلِّهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَهْرَ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا؛ وَالْحَالُّ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ وَهَبَتْ كُلَّ الْمَهْرِ أَوْ بَعْضَهُ.
فَإِنْ وَهَبَتْهُ كُلَّ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.
وَإِنْ وَهَبَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ: فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ عَيْنًا فَقَبَضَهُ؛ ثُمَّ وَهَبَهُ مِنْهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ هُوَ نِصْفُ الْمَوْهُوبِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ رَجَعَ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ؛ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا؛ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ عَرْضًا فَكَذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ؛ أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ وَهَبَتْهُ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مِثْلِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا فَقَبَضَتِ الْكُلَّ ثُمَّ وَهَبَتِ الْبَعْضَ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا إِذَا وَهَبَتِ الْكُلَّ فَإِذَا وَهَبَتِ الْبَعْضَ أَوْلَى.
وَإِذَا قَبَضَتِ النِّصْفَ؛ ثُمَّ وَهَبَتِ النِّصْفَ الْبَاقِيَ؛ أَوْ وَهَبَتِ الْكُلَّ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِرُبُعِ الْمَهْرِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَهَبَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا جَمِيعَ صَدَاقِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَكَأَنَّهَا عَجَّلَتْ إِلَيْهِ بِالصَّدَاقِ.
وَلَوْ وَهَبَتْ مِنْهُ نِصْفَ الصَّدَاقِ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهُ الرُّبُعُ؛ وَكَذَلِكَ إِنْ وَهَبَتْهُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ أَوْ أَقَلَّ فَلَهُ نِصْفُ مَا بَقِيَ لَهَا بَعْدَ الْهِبَةِ.
وَلَوْ وَهَبَتْهُ لِأَجْنَبِيٍّ فَقَبَضَهُ مَضَى لَهُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالنِّصْفِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وَهَبَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ طَلَاقًا يَمْلِكُ بِهِ نِصْفَ الصَّدَاقِ لَمْ يَخْلُ الصَّدَاقُ الْمَوْهُوبُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا؛ أَوْ دَيْنًا.
فَإِنْ كَانَ عَيْنًا؛ فَسَوَاءٌ وَهَبَتْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ أَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ هَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ بَدَلِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ؛ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ؛ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا لَهَا عَلَى زَوْجِهَا فَأَبْرَأَتْهُ مِنْهُ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ مَالًا وَلَمْ تَتَحَصَّلْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي طَرْدُ قَوْلَيِ الْهِبَةِ؛ وَلَوْ قَبَضَتِ الدَّيْنَ ثُمَّ وَهَبَتْهُ لَهُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ كَهِبَةِ الْعَيْنِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ عَيْنًا فَوَهَبَتْهَا لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ إِلَى الزَّوْجِ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ فَلَا تَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَهَا بِالطَّلَاقِ؛ كَمَا لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ بِالْبَيْعِ أَوْ وَهَبَتْهَا لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ وَهَبَتْهَا لَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَنْ تَزِيدَ الْعَيْنُ أَوْ تَنْقُصَ ثُمَّ تَهَبَهَا لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَادَ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ تَهَبْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ وَعَقْدُ الْهِبَةِ لَا يَقْتَضِي ضَمَانًا وَلِأَنَّ نِصْفَ الصَّدَاقِ تُعَجَّلُ لَهُ بِالْهِبَةِ.
فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَأَبْرَأَتْهُ مِنْهُ فَإِنْ قُلْنَا لَا يَرْجِعُ ثَمَّ فَهَاهُنَا أَوْلَى؛ وَإِنْ قُلْنَا يَرْجِعُ ثُمَّ خَرَجَ هَاهُنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطُ حَقٍّ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ كَتَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولٍ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ لِأَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ فَهُوَ كَالْعَيْنِ وَالْإِبْرَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ بِلَفْظِهَا وَإِنْ قَبَضَتِ الدَّيْنَ مِنْهُ ثُمَّ وَهَبَتْهُ لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَهُوَ كَهِبَةِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِقَبْضِهِ؛ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ لِأَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ مَا أَصْدَقَهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَيْنًا فَقَبَضَتْهَا ثُمَّ وَهَبَتْهَا أَوْ وَهَبَتْهُ الْعَيْنَ أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنَ الدَّيْنِ ثُمَّ فَسَخَتِ النِّكَاحَ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا كَإِسْلَامِهَا أَوْ رِدَّتِهَا أَوْ إِرْضَاعِهَا لِمَنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِرَضَاعِهِ فَفِي الرُّجُوعِ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ عَلَيْهَا رِوَايَتَانِ كَمَا فِي الرُّجُوعِ بِالنِّصْفِ سَوَاءٌ.
اقْتِرَانُ الْمَهْرِ بِشَرْطٍ
51- قَدْ يَقْتَرِنُ الْمَهْرُ بِشَرْطٍ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ- أَنْ يُسَمِّيَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ فِي الْعَقْدِ مَهْرًا أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَيَشْرِطُ فِيهِ مَنْفَعَةً مُبَاحَةً شَرْعًا لِلزَّوْجَةِ؛ أَوْ لِأَحَدِ مَحَارِمِهَا- كَأَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ؛ وَسَمَّى لَهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى شَرْطِ أَلاَّ يُسَافِرَ بِهَا؛ أَوْ أَلاَّ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا- فَإِنْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَجَبَ الْمُسَمَّى؛ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الشَّرْطُ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَا رَضِيَتْ بِمَا دُونَ مَهْرِ مِثْلِهَا إِلاَّ لِتَحْقِيقِ الْمَنْفَعَةِ الْمَشْرُوطَةِ لَهَا.
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَضَرَّةً لَهَا؛ كَأَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا؛ أَوْ مَنْفَعَةً غَيْرَ مُبَاحَةٍ شَرْعًا؛ كَأَنْ يَسْقِيَهَا خَمْرًا؛ أَوْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لِأَجْنَبِيٍّ عَنْهَا؛ وَجَبَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُبَاحَةٍ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا؛ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِفَوَاتِهَا الْعِوَضَ؛ وَإِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لِأَجْنَبِيٍّ عَنْهَا تَكُونُ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؛ فَيَجِبُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ.
ب- أَنْ يُسَمِّيَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ مَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهَا شَرْطًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَأَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ؛ وَسَمَّى لَهَا مَهْرًا أَلْفَ دِينَارٍ؛ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا؛ فَإِنْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَجَبَ الْمُسَمَّى؛ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِلاَّ لِهَذَا الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ.
ج- أَنْ يُسَمِّيَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ مَهْرًا عَلَى شَرْطٍ؛ وَيُسَمِّيَ لَهَا مَهْرًا آخَرَ عَلَى شَرْطٍ؛ آخَرَ كَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ إِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّمَةً؛ وَعَلَى خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَعَلِّمَةٍ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّسْمِيَةُ الْأُولَى صَحِيحَةٌ؛ فَإِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَجَبَ الْمَشْرُوطُ؛ وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ فَغَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ مَحِلًّا؛ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ الْأُولَى الصَّحِيحَةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَعَلِّمَةٍ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى؛ وَلَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ؛ لِرِضَاهَا بِهِ؛ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ لِرِضَاهُ بِهَا.
وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: التَّسْمِيَتَانِ صَحِيحَتَانِ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّمَةً وَجَبَ لَهَا الْمُسَمَّى الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ أَلْفُ دِينَارٍ؛ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَعَلِّمَةٍ وَجَبَ الْمُسَمَّى الثَّانِي؛ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ؛ وَهَذَا هُوَ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَقَدَ بِأَلْفٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَثَلًا وَشَرَطَ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَأَلْفَانِ؛ فَيُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِلشَّكِّ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ حَالَ الْعَقْدِ فَأَثَّرَ خَلَلًا فِي الصَّدَاقِ؛ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ؛ بِخِلَافِ تَزَوُّجِهَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا؛ أَوْ إِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ بَيْتِ أَبِيهَا أَوْ تَزَوَّجَ أَوْ تَسَرَّى عَلَيْهَا فَأَلْفَانِ فَصَحِيحٌ إِذْ لَا شَكَّ فِي قَدْرِهِ حَالَ الْعَقْدِ؛ وَالشَّكُّ فِي الزَّائِدِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ؛ أَيْ مِنْ حَيْثُ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ؛ فَالْغَرَرُ فِيهِ أَخَفُّ مِنَ الْوَاقِعِ فِي الْحَالِّ؛ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ الشَّرْطُ وَهُوَ عَدَمُ التَّزَوُّجِ وَالْإِخْرَاجُ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ إِنْ وَقَعَ؛ وَكُرِهَ هَذَا الشَّرْطُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْجِيرِ عَلَيْهِ كَمَا يُكْرَهُ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِ فَالشَّرْطُ يُكْرَهُ ابْتِدَاءً؛ فَإِنْ وَقَعَ اسْتُحِبَّ الْوَفَاءُ بِهِ وَكُرِهَ عَدَمُهُ؛ وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ إِنْ خَالَفَ بِأَنْ أَخْرَجَهَا أَوْ تَزَوَّجَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَكَحَ امْرَأَةً بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا أَوْ أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا فَالْمَذْهَبُ فَسَادُ الصَّدَاقِ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ مَا الْتَزَمَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ لِغَيْرِ الزَّوْجَةِ؛ وَوُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيهِمَا لِفَسَادِ الْمُسَمَّى؛ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فَسَادُهُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِعْطَاءِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُعْطَى لِلْأَبِ.
وَلَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ خِيَارًا فِي الْمَهْرِ فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ لَا الْمَهْرِ فَلَا يَصِحُّ فِي الْأَظْهَرِ بَلْ يَفْسُدُ؛ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَتَمَحَّضُ عِوَضًا بَلْ فِيهِ مَعْنَى النِّحْلَةِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ الْخِيَارُ؛ وَالْمَرْأَةُ لَمْ تَرْضَ بِالْمُسَمَّى إِلاَّ بِالْخِيَارِ؛ وَالثَّانِي يَصِحُّ الْمَهْرُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَالُ كَالْبَيْعِ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ؛ وَالثَّالِثُ يَفْسُدُ النِّكَاحُ لِفَسَادِ الْمَهْرِ أَيْضًا.
وَقَالُوا: لَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنَ الْبَلَدِ وَعَلَى أَلْفَيْنِ إِنْ أَخْرَجَهَا وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ كَانَ أَبُوهَا حَيًّا وَأَلْفَيْنِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا؛ لَمْ يَصِحَّ.
نَصَّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَأَلْفَيْنِ إِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ؛ لَمْ يَصِحَّ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: عَلَى الْأَصَحِّ؛ قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَصِحُّ؛ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ؛ وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ دَارِهَا وَعَلَى أَلْفَيْنِ إِنْ أَخْرَجَهَا.
قَبْضُ الْمَهْرِ وَتَصَرُّفُ الزَّوْجَةِ فِيهِ:
52- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ بَالِغَةً؛ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِقَبْضِهِ؛ أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا؛ وَأَمَّا الْبَالِغَةُ فَلِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ بِنَفْسِهَا كَمَا تَسْتَحْيِي عَنِ التَّكَلُّمِ بِالنِّكَاحِ فَجَعَلَ سُكُوتَهَا رِضًا بِقَبْضِ الْأَبِ كَمَا جُعِلَ رِضًا بِالنِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَرْضَى بِقَبْضِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ مَهْرَهَا فَيَضُمُّ إِلَيْهِ أَمْثَالَهُ فَيُجَهِّزُهَا بِهِ؛ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَكَانَ مَأْذُونًا بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَتِهَا دَلَالَةً حَتَّى لَوْ نَهَتْهُ عَنِ الْقَبْضِ لَا يَتَمَلَّكُ الْقَبْضَ وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ؛ وَكَذَا الْجَدُّ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ.
وَإِنْ كَانَتِ ابْنَتُهُ عَاقِلَةً وَهِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَبْضُ إِلَيْهَا لَا إِلَى الْأَبِ؛ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِدَفْعِهِ إِلَيْهَا وَلَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَى الْأَبِ؛ وَمَا سِوَى الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْقَبْضِ سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْوَصِيُّ فَلَهُ حَقُّ الْقَبْضِ إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً كَمَا يَقْبِضُ سَائِرَ دُيُونِهَا؛ وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ حَقُّ الْقَبْضِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَلِيَّ الزَّوْجَةِ الْمُجْبِرَ وَهُوَ الْأَبُ أَوْ وَصِيُّهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَوَلِّي قَبْضِ مَهْرِهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ مُجْبِرٌ؛ وَكَانَتْ رَشِيدَةً؛ فَهِيَ الَّتِي تَقُومُ بِقَبْضِ مَهْرِهَا؛ أَوْ مَنْ تُوَكِّلُهُ عَنْهَا فِي قَبْضِهِ؛ وَإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً فَالَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ مَهْرِهَا وَلِيُّ مَالِهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْقَاضِي أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ يَقْبِضُ مَهْرَهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَهَذَا بِلَا نِزَاعٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ وَلَا يَقْبِضُ صَدَاقَ ابْنَتِهِ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا إِذَا كَانَتْ رَشِيدَةً؛ فَإِنْ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا فَلَهُ قَبْضُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا؛ وَفِي الْبِكْرِ الْبَالِغِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: لَا يَقْبِضُ إِلاَّ بِإِذْنِهَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ وَالثَّانِيَةُ يَقْبِضُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا مُطْلَقًا.
53- وَلِلْمَرْأَةِ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا- وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَهْرِهَا بِكُلِّ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ لَهَا شَرْعًا؛ مَا دَامَتْ كَامِلَةَ الْأَهْلِيَّةِ؛ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي تَصَرُّفِ كُلِّ مَالِكٍ فِي مِلْكِهِ؛ فَلَهَا أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ؛ وَتَبِيعَهُ؛ وَتَهَبَهُ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِزَوْجِهَا؛ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عَلَى تَصَرُّفِهَا؛ كَمَا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ مَهْرِهَا لِزَوْجِهَا أَوْ لِغَيْرِهِ؛ وَلَوْ كَانَ أَبَاهَا أَوْ أُمَّهَا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ؛ وَلَا عَلَى إِعْطَائِهِ لِغَيْرِهِ؛ وَيُورَثُ عَنْهَا مَهْرُهَا بِوَصْفِهِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهَا؛ مَعَ مُرَاعَاةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضِمْنِ وَرَثَتِهَا؛ وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَمْلِكُ الزَّوْجَةُ الصَّدَاقَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ؛ فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا كَالْعَبْدِ وَالدَّارِ وَالْمَاشِيَةِ فَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِلْكُهَا فَكَانَ لَهَا ذَلِكَ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهَا وَنَمَاؤُهُ الْمُتَّصِلُ وَالْمُنْفَصِلُ لَهَا وَزَكَاتُهُ وَنَقْصُهُ وَضَمَانُهُ عَلَيْهَا سَوَاءٌ قَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ؛ إِلاَّ أَنْ يَتْلَفَ الصَّدَاقُ الْمُعَيَّنُ بِفِعْلِهَا فَيَكُونُ إِتْلَافُهُ قَبْضًا مِنْهَا؛ وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ مَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ؛ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهَا إِلاَّ بِقَبْضِهِ وَلَمْ تَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ كَمَبِيعٍ.
هَلَاكُ الْمَهْرِ وَاسْتِهْلَاكُهُ وَاسْتِحْقَاقُهُ
54- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا هَلَكَ الْمَهْرُ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ أَوِ اسْتَهْلَكَتْهُ بَعْدَ أَنْ قَبَضَتْهُ فَلَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنَ الْمَهْرِ بَعْدَ دَفْعِهِ إِلَيْهَا.
وَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهَا كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى مَنِ اسْتَهْلَكَهُ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْتَهْلِكُ الزَّوْجَ أَمْ غَيْرَهُ.
وَأَمَّا إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الزَّوْجِ؛ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَهُ الزَّوْجَةُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمِثْلِهِ؛ أَوْ قِيمَتِهِ؛ سَوَاءٌ هَلَكَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ فِعْلِ الزَّوْجِ.
وَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ؛ وَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَضْمِينِ الزَّوْجِ وَتَضْمِينِ الْأَجْنَبِيِّ الْمُسْتَهْلِكِ؛ فَإِنْ ضَمِنَتِ الزَّوْجَ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ بِقِيمَةِ مَا اسْتَهْلَكَهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَبَضَتِ الزَّوْجَةُ الصَّدَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَهَلَكَ بِيَدِهَا فَضَمَانُهُ مِنْهَا؛ أَمَّا لَوْ كَانَ فَسَادُهُ لِعَقْدِهِ وَكَانَ فِيهِ الْمُسَمَّى؛ وَدَخَلَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ كَانَ ضَمَانُهَا لِلصَّدَاقِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالصَّحِيحِ سَوَاءٌ قَبَضَتْهُ أَوْ كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَجْهُورِيِّ.
فَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَهْرَ إِنْ تَلِفَ فِي يَدِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ؛ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى هَلَاكِهِ فَخَسَارَتُهُ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ؛ وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ فَضَمَانُهُ عَلَى الزَّوْجَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ: إِنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ عَيْنًا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهَا؛ فَتَلِفَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ضَمِنَهَا ضَمَانَ عَقْدٍ لَا ضَمَانَ يَدٍ؛ وَقِيلَ ضَمَانَ يَدٍ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَ ضَمَانَيِ الْعَقْدِ وَالْيَدِ فِي الصَّدَاقِ؛ أَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ يَضْمَنُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ وَعَلَى الثَّانِي يَضْمَنُ بِالْبَدَلِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْمِثْلُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا؛ وَالْقِيمَةُ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الصَّدَاقُ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا فَوَجَدَتْ بِهِ عَيْبًا فَلَهَا رَدُّهُ كَالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ؛ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ كَثِيرًا؛ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَحُكِيَ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ فَرُدَّ بِهِ الصَّدَاقُ كَالْكَثِيرِ؛ وَإِذَا رُدَّ بِهِ فَلَهَا قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ فَيَبْقَى سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ غَصَبَهَا إِيَّاهُ فَأَتْلَفَهُ.
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مِثْلِيًّا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَرَدَّتْهُ فَلَهَا عَلَيْهِ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ؛ وَإِنِ اخْتَارَتْ إِمْسَاكَ الْمَعِيبِ وَأَخَذَ أَرْشَهُ فَلَهَا ذَلِكَ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ.
وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ تَظُنُّهُ عَبْدًا مَمْلُوكًا فَخَرَجَ حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا فَلَهَا قِيمَتُهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى التَّسْمِيَةِ فَكَانَتْ لَهَا قِيمَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ؛ وَلِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِقِيمَتِهِ؛ إِذْ ظَنَّتْهُ مَمْلُوكًا فَكَانَ لَهَا قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَعِيبًا فَرَدَّتْهُ؛ بِخِلَافِ مَا إِذْا قَالَ: أَصْدَقْتُكِ هَذَا الْحُرَّ أَوْ هَذَا الْمَغْصُوبَ فَإِنَّهَا رَضِيَتْ بِلَا شَيْءٍ لِرِضَاهَا بِمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ أَوْ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِهِ إِيَّاهَا فَكَانَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ كَعَدَمِهَا فَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَإِنْ أَصْدَقَهَا مِثْلِيًّا فَبَانَ مَغْصُوبًا فَلَهَا مِثْلُهُ لِأَنَّ الْمِثْلَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ بِهِ فِي الْإِتْلَافِ.
وَقَالُوا: إِذَا قَبَضَتِ الزَّوْجَةُ الصَّدَاقَ وَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ اتَّضَحَ أَنَّ الصَّدَاقَ مَعِيبٌ كَانَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ بَدَلَهُ؛ أَوْ أَرْشَهُ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ظَنًّا مِنْهَا أَنَّهَا قَبَضَتْ صَدَاقَهَا؛ فَتَبَيَّنَ عَدَمُهُ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحْقَاقٌ ف 33).
الِاخْتِلَافُ فِي الْمَهْرِ
الِاخْتِلَافُ فِي الْمَهْرِ أَنْوَاعٌ:
أ- الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ التَّسْمِيَةِ.
ب- الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ
ج- الِاخْتِلَافُ فِي قَبْضِ شَيْءٍ مِنَ الْمَهْرِ.
أ- الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ التَّسْمِيَةِ:
55- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَنَّهُ سَمَّى مَهْرًا مَعْلُومًا كَأَلْفِ دِينَارٍ مَثَلًا؛ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ حُصُولَ التَّسْمِيَةِ فَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ؛ فَإِنْ أَقَامَ مُدَّعِي التَّسْمِيَةِ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِالْمُسَمَّى الَّذِي ادَّعَاهُ؛ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِقَامَتِهَا؛ وُجِّهَتِ الْيَمِينُ بِطَلَبِهِ إِلَى مُنْكِرِ التَّسْمِيَةِ؛ فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ؛ حُكِمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ نُكُولِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ اعْتِرَافٍ مِنْهُ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي.
وَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ تَسْمِيَةٌ أَصْلًا؛ رُفِضَتْ دَعْوَى التَّسْمِيَةِ؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا؛ وَحِينَئِذٍ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمَهْرِ الْمِثْلِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ؛ وَيُشْتَرَطُ أَلاَّ يَنْقُصَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَمَّا ادَّعَاهُ الزَّوْجُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي؛ لِرِضَاهُ بِالْمُسَمَّى الَّذِي ادَّعَاهُ؛ وَأَلاَّ يَزِيدَ عَمَّا ادَّعَتْهُ الزَّوْجَةُ؛ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ لِرِضَاهَا بِمَا ادَّعَتْ تَسْمِيَتَهُ.
وَهَذَا الْحُكْمُ السَّابِقُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَالَةٍ تَسْتَحِقُّ فِيهَا الزَّوْجَةُ الْمَهْرَ كَامِلًا؛ بِأَنْ كَانَتِ الزَّوْجِيَّةُ الصَّحِيحَةُ قَائِمَةً؛ أَوْ حَصَلَتْ فُرْقَةٌ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ مَا يُوجِبُ الْمَهْرَ كَامِلًا مِنْ دُخُولٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ حُكْمِيٍّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ؛ وَقَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا- وَثَبَتَتِ التَّسْمِيَةُ بِالْبَيِّنَةِ؛ أَوْ بِالنُّكُولِ عَنِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ- حَكَمَ الْقَاضِي بِرِفْضِ دَعْوَى التَّسْمِيَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا؛ فَالْوَاجِبُ الْمُتْعَةُ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ؛ عِنْدَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ فِي الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ عَلَى أَلاَّ تَنْقُصَ عَنْ نِصْفِ مَا سَمَّاهُ الزَّوْجُ؛ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي؛ وَأَلاَّ تَزِيدَ عَلَى نِصْفِ الْمَهْرِ الَّذِي تَدَّعِيهِ الزَّوْجَةُ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ.
وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَوَرَثَةِ الْآخَرِ؛ أَوْ بَيْنَ وَرَثَتِهِمَا؛ فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْحُكْمِ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ وَهَذَا قَوْلُ الصَّاحِبَيْنِ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فَيُخَالِفُ صَاحِبَيْهِ فِيمَا إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ وَطَالَ الْعَهْدُ بِمَوْتِ الزَّوْجَيْنِ وَمَوْتِ أَقْرَانِهِمَا؛ وَيَرَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَيْءٍ إِنْ عَجَزَ وَرَثَةُ الزَّوْجَةِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُمْ؛ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِتَقَادُمِ عَهْدِ الْمَوْتِ.
وَإِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْمِثْلِ؛ لِعَدَمِ تَقَادُمِ عَهْدِ الْمَوْتِ؛ فَالْإِمَامُ وَصَاحِبَاهُ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الْيَمِينِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَقَامَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ قُضِيَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ؛ وَإِنْ لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْعُرْفُ فِي صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ؛ وَعَدَمِهَا مَعَ الْيَمِينِ؛ فَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا تَفْوِيضًا عِنْدَ مُعْتَادِيهِ؛ وَادَّعَتْ هِيَ التَّسْمِيَةَ فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ بِيَمِينٍ؛ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ؛ أَوِ الْمَوْتِ؛ أَوِ الطَّلَاقِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ بَعْدَ الْبِنَاءِ؛ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا؛ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَادُ التَّسْمِيَةَ؛ فَالْقَوْلُ لَهَا بِيَمِينٍ؛ وَثَبَتَ النِّكَاحُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الزَّوْجَةَ لَوِ ادَّعَتْ تَسْمِيَةً لِقَدْرٍ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ فَأَنْكَرَ زَوْجُهَا بِأَنْ قَالَ لَمْ تَقَعْ تَسْمِيَةٌ؛ وَلَمْ يَدَّعِ تَفْوِيضًا؛ تَحَالَفَا فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: الْوَاجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ وَهِيَ تَدَّعِي زِيَادَةً عَلَيْهِ؛ وَالثَّانِي: يُصَدَّقُ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ؛ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْأَصْلِ؛ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ وَلَوِ ادَّعَى تَسْمِيَةً لِقَدْرٍ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَأَنْكَرَتِ الزَّوْجَةُ ذِكْرَهَا تَحَالَفَا أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ وَبِالتَّحَالُفِ تَنْتِفِي الدَّعْوَى؛ وَيَبْقَى الْعَقْدُ بِدُونِ تَسْمِيَةٍ؛ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ أَوْ وَرَثَتُهُمَا؛ أَوْ أَحَدُهُمَا وَوَلِيُّ الْآخَرِ أَوْ وَارِثُهُ فِي تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ بِأَنْ قَالَ: لَمْ نُسَمِّ مَهْرًا؛ وَقَالَتْ: سَمَّى لِي مَهْرَ الْمِثْلِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِيَمِينِهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَا يُوَافِقُ الْأَصْلَ؛ وَهُوَ الصَّوَابُ- كَمَا قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ -؛ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ إِنْ وُجِدَ مَا يُقَرِّرُهُ؛ فَإِنْ طَلَّقَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ التَّسْمِيَةِ فَهِيَ مُفَوِّضَةٌ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى لَهَا لِقَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
21-موسوعة الفقه الكويتية (وفاء)
وَفَاءٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْوَفَاءُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْغَدْرِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ وَفَى، يُقَالُ: وَفَى يَفِي وَفَاءً وَوَفْيًا أَيْ تَمَّ، وَوَفَّى فُلَانٌ نَذْرَهُ: أَدَّاهُ، وَوَفَّى بِعَهْدِهِ: عَمِلَ بِهِ.
وَأَوْفَى الْكَيْلَ: أَتَمَّهُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا.وَأَوْفَى فُلَانًا حَقَّهُ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَافِيًا تَامًّا، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: وَفَّى نَذْرَهُ وَأَوْفَاهُ: أَيْ أَبْلَغَهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}.قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ بَلَّغَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي قَوْلِهِمْ: الْزَمِ الْوَفَاءَ: مَعْنَى الْوَفَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْخُلُقُ الشَّرِيفُ الْعَالِي الرَّفِيعُ.
وَالْوَفَاءُ اصْطِلَاحًا: مُلَازِمَةُ طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، وَمُحَافَظَةُ الْعُهُودِ، وَحِفْظُ مَرَاسِمِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُخَالَطَةُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، حُضُورًا وَغَيْبَةً.
وَفَسَّرَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بِحِفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالْقِيَامُ بِمُوجَبِهِ.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْوَفَاءِ بِمَعْنَى: تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَارَةً، وَبِمَعْنَى الْقَضَاءِ تَارَةً أُخْرَى، وَبِمَعْنَى الْأَدَاءِ أَيْضًا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتِ الصِّلَةِ:
أ- الِاسْتِيفَاءُ:
2- الِاسْتِيفَاءُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ اسْتَوْفَى، يُقَالُ: اسْتَوْفَى فَلَانٌ حَقَّهُ أَيْ: أَخَذَهُ وَافِيًا تَامًّا.وَيُقَالُ: اسْتَوْفَى مِنْهُ مَالَهُ: لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ شَيْئًا
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ: أَنَّ الْوَفَاءَ يَكُونُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ أَوْ وَكِيلِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيفَاء ف24- 25).
ب- الْإِسْقَاطُ
3- الْإِسْقَاطُ لُغَةً: الْإِيقَاعُ وَالْإِلْقَاءُ، يُقَالُ:
أَسْقَطَتِ الْحَامِلُ: أَلْقَتِ الْجَنِينَ.وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ، أَيْ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ.
وَالْإِسْقَاطُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ وَلَا إِلَى مُسْتَحِقٍّ، وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ.
كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِسْقَاطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِسْقَاطِ الْجَنِينِ أَيِّ السِّقْطِ، يَعْنِي تَضَعُهُ قَبْلَ التَّمَامِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالْإِسْقَاطِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِمَّا شُغِلَتْ بِهِ مِنْ حُقُوقٍ.
ج- الْإِبْرَاءُ:
4- مِنْ مَعَانِي الْإِبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ.قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَرِئَ: تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، فَالْإِبْرَاءُ عَلَى هَذَا جَعْلُ الْمَدِينِ بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلَا تُجَاهَهُ- كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ السُّكْنَى الْمُوصَى بِهِ- فَتَرْكُهُ لَا يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ.
(ر: إِبْرَاء ف1) وَقَالَ الْبَرَكَتِيُّ: الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ هُوَ: جَعْلُ الْمَدْيُونِ بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ.
وَأَصْلُ الْبَرَاءِ التَّلَخُّصُ وَالتَّقَصِّي مِمَّا يُكْرَهُ مُجَاوَرَتُهُ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِمَّا شُغِلَتْ بِهِ مِنْ حُقُوقٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الْوَفَاءُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَعْتَرِيهَا الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ، كَالْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَالْحُرْمَةِ...وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: مَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ:
أ- الْعُقُودُ:
6- مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا مُقْتَضَيَاتُ الْعُقُودِ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْإِنْسَانُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ.
فَهَذِهِ الْعُقُودُ إِذَا تَمَّتْ مُسْتَوْفِيَةً لِشَرَائِطِهَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهَا، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَالْأُجْرَةِ لِلْأَجِيرِ..وَهَكَذَا.
وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
ب- الشُّرُوطُ:
7- الشُّرُوطُ: كُلُّ مَا يَشْرِطُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا وَلَا يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ بَاطِلًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ».
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا يَصِحُّ مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يَصِحُّ، فِي كُلِّ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ (بَيْع ف27) وَ (إِجَارَة ف27) وَ (رَهْن ف11، وَ23)، وَ (مُزَارَعَة ف9- 19) وَ (نِكَاح ف132- 133).
ج- النَّذْرُ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النَّذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمَا كَانَ طَاعَةً مِنْهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْر ف5).
ثَانِيًا: مَا يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ:
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا مَا يَلِي:
أ- الْمَعْرُوفُ:
9- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ، وَالتَّبَرُّعُ لَا يُجْبَرُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ (وَصِيَّة وَهِبَة ف5، 6).
ب- الْوَعْدُ:
10- الْوَعْدُ لُغَةً يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، يُقَالُ: وَعَدْتُهُ أَعِدُهُ وَعْدًا، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا.
وَالْوَعْدُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْوَعْدُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مُجَرَّدًا عَنْ حَاجَةٍ أَوْ سَبَبٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ تَسْتَدْعِي الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ كَانَ الْوَفَاءُ وَاجِبًا، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: لَوْ ذَكَرَا الْبَيْعَ بِلَا شَرْطٍ، ثُمَّ ذَكَرَا الشَّرْطَ عَلَى وَجْهِ الْعِدَّةِ جَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، إِذِ الْمَوَاعِيدُ قَدْ تَكُونُ لَازِمَةً، فَيُجْعَلُ لَازِمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَعْدَ مُلْزِمٌ وَيُقْضَى بِهِ إِذَا دَخَلَ الْمَوْعِدُ بِسَبَبِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَعْد).
ثَالِثًا: مَا يُبَاحُ الْوَفَاءُ بِهِ:
11- نَذْرُ الْمُبَاحِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُبَاحُ الْوَفَاءُ بِهَا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ نَذْرِ الْمُبَاحِ وَصِحَّةِ الِالْتِزَامِ بِالْمُبَاحَاتِ، وَحُكْمِ الْوَفَاءِ بِهِ إِنْ قِيلَ بِانْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْر ف18، 19).
رَابِعًا: مَا يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ:
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهَا مَا يَلِي: أ- نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ:
12- نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ، وَيَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَقْتُلَ فُلَانًا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ».
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نَذْر ف16).
ب- الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ:
13- مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ فَقَدْ عَصَى بِيَمِينِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، بَلِ الْوَاجِبُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف118).
ج- الشُّرُوطُ غَيْرُ الْمَشْرُوعَةِ:
14- يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِالشُّرُوطِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».
(ر: شَرْط ف21)
مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْوَفَاءُ:
15- يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْوَفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، التَّكْلِيفُ (الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ)، لِأَنَّ الْوَفَاءَ إِنَّمَا يَجِبُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يُبَاحُ نَتِيجَةَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَنْعَقِدُ بِإِرَادَتَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، أَوْ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ، فَلَا يُؤَاخَذُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ، لِأَنَّ عُقُودَهُمَا لَا تَنْعَقِدُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (أَهْلِيَّة ف19- 23، صِغَر ف32 وَمَا بَعْدَهَا، جُنُون ف15 وَمَا بَعْدَهَا، عَقْد ف28، 29).
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَفَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْوَفَاءِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ مِنْهَا:
أَوَّلًا: مَا يَتِمُّ بِهِ الْوَفَاءُ:
يَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ وَيَتِمُّ بِمَا يَأْتِي:
أ- التَّسْلِيمُ:
16- يَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ فِي الْعُقُودِ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلًا يَكُونُ الْوَفَاءُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ.
وَهَكَذَا فِي كُلِّ الْعُقُودِ يَكُونُ الْوَفَاءُ بِهَا بِتَسْلِيمِ مُقْتَضَاهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (تَسْلِيم ف4 وَمَا بَعْدَهَا، قَبْض ف5- 11).
ب- الرَّدُّ:
17- مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْوَفَاءُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (رَدّ ف3- 7، 12، اسْتِرْدَاد ف4- 6، إِجَارَة ف58، قَرْض ف18، إِعَارَة ف21، 22).
ج- الْقِيَامُ بِالْعَمَلِ:
18- قِيَامُ الشَّخْصِ بِأَدَاءِ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ يُعْتَبَرُ وَفَاءً بِمَا تَعَهَّدَ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: قِيَامُ الْأَجِيرِ بِالْعَمَلِ الْمُوكَلِ إِلَيْهِ أَوِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ- سَوَاءٌ أَكَانَ أَجِيرًا خَاصًّا أَوْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا- يُعْتَبَرُ وَفَاءً بِهَذَا الْعَمَلِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَة ف106، 130).
د- الْحَوَالَةُ:
19- الْحَوَالَةُ هِيَ نَقْلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى أُخْرَى، فَإِذَا أَحَالَ الْمَدِينُ الدَّائِنَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ دَيْنَهُ، وَاسْتَوْفَتِ الْحَوَالَةُ جَمِيعَ شَرَائِطِهَا، كَانَ ذَلِكَ وَفَاءً مِنَ الْمَدِينِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَوَالَة ف106).
ثَانِيًا: وَفَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ:
20- يَصِحُّ وَفَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ وَضَمَانُهُ (الْكَفَالَةُ بِهِ)، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَفَاءُ بِإِذْنِ الْمَدِينِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْوَفَاءُ رِفْقًا بِالْمَدِينِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ- عَلَى مَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ- مَنْ أَدَّى عَنْ رَجُلٍ دَيْنًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ إِنْ فَعَلَهُ رِفْقًا بِالْمَطْلُوبِ، فَإِنْ أَرَادَ الضَّرَرَ بِطَلَبِهِ وَإِعْنَاتَهُ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْوَفَاءُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِهَذَا الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِهِ.
وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَالَة ف41، 42، 43، دَيْن ف31، 32).
ثَالِثًا: وَفَاءُ دَيْنِ الْمَيِّتِ:
21- يَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَوَفَاؤُهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مَا يُوَفَّى مِنْهُ دَيْنُهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُفْلِسًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِدَيْنِهِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- يَرَوْنَ صِحَّةَ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَأَدَائِهِ وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ- رضي الله عنه- فَإِنَّهُ ضَمِنَ دَيْنَ مَيِّتٍ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ- رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِجِنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَصَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.فَصَلَّى عَلَيْهِ».
وَقَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ إِنْسَانٌ بِوَفَائِهِ جَازَ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ مُفْلِسًا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِدَيْنِهِ فَقَدْ سَقَطَ دَيْنُهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ، لَكِنْ لَوْ تَبَرَّعَ شَخْصٌ بِوَفَائِهِ صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَالَة ف21، 22، رُجُوع ف20، 21، دَيْن ف78).
عَدَمُ الْوَفَاءِ وَأَسْبَابُهُ:
لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْإِنْسَانِ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- الْمُمَاطَلَةُ:
22- مَنْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ حَالٌّ، وَكَانَ مُوسِرًا قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ، وَقَدْ طَلَبَ الدَّائِنُ دَيْنَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ فَوْرًا بَعْدَ الطَّلَبِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُمَاطِلًا، وَهُوَ ظَالِمٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ».وَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِظُلْمِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ اتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تَحْمِلُ الْمَدِينَ الْمُوسِرَ عَلَى الْوَفَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ حَبْسِهِ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ، وَمُخْتَلِفُونَ عَلَى بَعْضِهَا.
وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ (مَطْل ف9- 16، حَبْس ف79- 82، إِعْسَار ف15).
ب- الْإِعْسَارُ:
23- إِذَا كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا وَثَبَتَ إِعْسَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ بِأَنْ شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُمَا لَا يَعْرِفَانِ لَهُ مَالًا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَحَلَفَ الْمَدِينُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُخْلَى سَبِيلُهُ وَلَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي، لِأَنَّ حَبْسَهُ لَا تَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْإِنْظَارَ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.
وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى الْمَدِينُ الْإِعْسَارَ وَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يُحْبَسْ، وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، وَلَمْ تَجُزْ مُلَازَمَتُهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِعْسَار ف15).
ج- الْإِفْلَاسُ:
24- الْإِفْلَاسُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْوَفَاءِ.
وَإِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِ الْمَدِينِ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَفْلِيسُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَكَذَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَهُمْ بَيْعُ مَالِهِ جَبْرًا عَلَيْهِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِفْلَاس ف6 وَمَا بَعْدَهَا).
الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْوَفَاءِ:
تَأْتِي الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْوَفَاءِ فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ الَّتِي تَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ تَكُونُ حَقًّا لِلْعَبْدِ، أَوِ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا الْإِنْسَانُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ.
أ- حُقُوقُ اللَّهِ:
25- مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الزَّكَاةُ، وَمَصَارِفُ الزَّكَاةِ هِيَ الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ وَرَدَ ذِكْرُهُمْ فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَصَارِفِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاة ف184) ب- الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ:
26- قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ لَيْسَتْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ بَعْضَهَا مُقَدَّمٌ عَلَى بَعْضٍ، فَيُقَدَّمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ، ثُمَّ أَدَاءُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ كَانَ مِنْ دُيُونِ الْعِبَادِ، ثُمَّ تَنْفِيذُ وَصَايَاهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَرِكَة ف21- 32).
ج- الصَّدَقَةُ وَالْوَصَايَا:
27- مِمَّا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ الصَّدَقَةُ وَالْوَصَايَا، أَمَّا الصَّدَقَةُ: فَهِيَ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ.
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ الْإِنْسَانُ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ وَمَؤُونَتِهِ وَمَؤُونَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ.وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»
وَيَقُولُ السَّرَخْسِيُّ: الصَّدَقَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْقَرَابَاتِ وَذَلِكَ أَفْضَلُ، لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ.وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» (512).
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَوْلَى فِي الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَفِي الْأَشَدِّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِيَتَأَلَّفَ قَلْبَهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَقَة ف17، 18).
وَأَمَّا الْوَصَايَا: فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ الْأَقْرَبُ غَيْرُ الْوَارِثِ، لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُقَرَاءُ غَيْرُ وَارِثِينَ فَإِلَى ذِي رَضَاعٍ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: ثُمَّ صِهْرٍ، ثُمَّ ذِي وَلَاءٍ، ثُمَّ ذِي جِوَارٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَحَارِمَ مِنَ الرَّضَاعِ، فَإِلَى جِيرَانِهِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى لِأَقْرِبَائِهِ أَوْ لِأَرْحَامِهِ أَوْ لِأَنْسَابِهِ فَهُمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ غَيْرَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ.
وَيُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالَانِ فَلِلْعَمِّ النِّصْفُ وَلِلْخَالَيْنِ النِّصْفُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، فَيُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَكُونُ الْمُوصَى بِهِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى لِلْأَقَارِبِ أَوِ الْأَرْحَامِ أَوِ الْأَهْلِ أَوْ لِغَيْرِهِ أُوثِرَ الْمُحْتَاجُ الْأَبْعَدُ فِي الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِشِدَّةِ فَقْرِهِ أَوْ كَثْرَةِ عِيَالِهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ لَا بِالْجَمِيعِ، فَالْمُحْتَاجُ الْأَقْرَبُ عُلِمَ إِيثَارُهُ بِالْأَوْلَى فِي كُلِّ حَالٍ، إِلاَّ بِبَيَانٍ مِنَ الْمُوصِي خِلَافَ ذَلِكَ: كَأَعْطُوا الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، أَوْ أَعْطُوا فُلَانًا ثُمَّ فُلَانًا، فَيُفَضَّلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحْوَجَ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّة).
G
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
22-المغرب في ترتيب المعرب (حذف-الحذف)
(حذف) (الْحَذْفُ) الْقَطْعُ وَالْإِسْقَاطُ (وَمِنْهُ) فَرَسٌ مَحْذُوفُ الذَّنَبِ أَوْ الْعُرْفِ أَيْ مَقْطُوعُهُ وَيُجْعَلُ عِبَارَةً عَنْ تَرْكِ التَّطْوِيلِ وَالتَّمْطِيطِ فِي الْأَذَانِ وَالْقِرَاءَةِ وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ (وَتَحْذِيفُ) الشَّعْرِ تَطْرِيرُهُ وَتَسْوِيَتُهُ تَفْعِيلٌ مِنْ الطُّرَّةِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نَوَاحِيهِ حَتَّى يَسْتَوِيَ (وَمِنْهُ) الْأَخْذُ مِنْ عُرْفِ الدَّابَّةِ وَقَصُّ الْحَافِرِ لَيْسَ بِرَضِيٍّ كَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَالتَّحْذِيفِ فِي الْجَارِيَةِ حُذَافَةُ فِي حز.
المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م