نتائج البحث عن (يقتروا)

1-العربية المعاصرة (قتر)

قتَرَ/قتَرَ على يَقتُر ويَقتِر، قَتْرًا وقُتُورًا، فهو قاتِر وقَتُور، والمفعول مقتور عليه.

* قتَر الشَّخصُ: ضاق عيشُهُ (قتَر التّاجرُ بعد أن أفلس) (*) صبرًا وإن كان قَتْرًا: الحثّ على تحمّل الشَّدائد والمشاقّ.

* قتَر على عياله: قتَّر، بخل، ضيَّق عليهم في النَّفقة (قتَر المديرُ على موظّفيه- قتَرت الأمُّ على ابنتها- قتَر الغنيُّ على الفقراء- {والذين إذا أَنْفقوا لم يُسْرفُوا وَلَمْ يَقتِرُوا} [قرآن]).

أقترَ/أقترَ على يُقتر، إقتارًا، فهو مُقْتِر، والمفعول مُقْتَر (للمتعدِّي).

* أقتر الرَّجُلُ: قتَر؛ افتقر، ضاق عيشُهُ وقلَّ مالُه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [قرآن].

* أقتر اللهُ رِزقَ فلان: ضيّقه وقلَّله (لا أقتر اللهُ رزقَك).

* أقترَ على عياله: قَتَر، ضَيَّق عليهم في النَّفقة (أقتر الحاكمُ على رعيَّته).

قتَّرَ على يُقتِّر، تقتيرًا، فهو مُقَتِّر، والمفعول مُقتَّرٌ عليه.

* قتَّر الشّخصُ على عياله: قَتَر؛ بَخِل وضيَّق عليهم في النّفقة (غضبت الزوجةُ لتقتير زوجها عليها- قتّر الأبُ على ابنه- قتَّر الحاكمُ على رعيّته).

قَتْر [مفرد]: مصدر قتَرَ/قتَرَ على.

قَتْرة/قَتَرة [مفرد]: جمعه قَتْرات وقَتَرات وقَتَر: شبه دخان يَغْشَى الوجهَ من كَرْبٍ أو هَوْلٍ {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتْرَةٌ} [قرآن] - {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [قرآن]: لا يغطّي وجوههم قتام أو سواد).

قَتور [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من قتَرَ/قتَرَ على: للمذكر والمؤنث ({وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [قرآن]: بخيل مُضيِّق مُمْسك).

قُتُور [مفرد]: مصدر قتَرَ/قتَرَ على.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (نفق)

نفَقَ يَنفُق، نَفْقًا، فهو نافِق.

* نفَق المالُ: نفِد (نفَق الزّادُ- متاعٌ نافِق- نفقُ الدُّنيا قريب: نفادُها).

نفَقَ يَنفُق، نَفَاقًا، فهو نافِق.

* نفَقتِ البضاعةُ: راجَت ورُغِب فيها (نَفاقُ السِّلع الغذائيَّة- تجارة نافِقة).

* نفَقتِ المرأةُ: كثُر خُطّابُها.

نفَقَ يَنفُق، نُفوقًا، فهو نافِق.

* نفَقتِ الدّابّةُ: ماتَتْ (نفَق الفرسُ- جملٌ يشقُّ الرّمالُ ولا يخشى النُّفوقَ).

* نفَق الجرحُ: تقشَّر (جرح في مرحلة النُّفوق).

أنفقَ/أنفقَ على يُنفق، إنفاقًا، فهو مُنفِق، والمفعول مُنفَق (للمتعدِّي).

* أنفق الشَّخصُ: افتقر وذهب مالُه {إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} [قرآن].

* أنفق السِّلعةَ: روَّجها (عُنِي التّاجرُ بالدّعاية لبضاعته كي يُنفقها).

* أنفق مالًا: صرفه وأنفده (أنفق بلا حساب/ببذَخ- أنفق على بناء المنزل- ومن يُنفق السَّاعات في جمع مالهِ.. مخافة فقر فالذي فعل الفقرُ- مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللهِ كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ [حديث] - {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [قرآن]) (*) أنفق على مضض- الإنفاق القوميّ: القيمة النقديَّة لمجموع إنفاق مجتمع معيّن في زمن معيَّن هو عادةً سنة- سياسَةُ الإنفاق- مُخَصَّص للإنفاق: متبقٍّ للشَّخص بعد حسم الضَّرائب.

* أنفق على المُطَلَّقة: أعطاها النَّفقة.

نافقَ ينافق، نِفاقًا ومُنافقةً، فهو مُنافِق.

* نافَق الشَّخصُ:

1 - أظهر خلاف ما يُبطن (لا تنخدع به فإنَّه يُنافِق- نافق رؤساءه- آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ) [حديث].

2 - [في الديانات] أظهر إيمانَه بلسانه وستر كفرَه في قلبه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [قرآن].

مُنافِق [مفرد]:

1 - اسم فاعل من نافقَ: مخادع.

2 - [في الديانات] مَنْ يُخفي الكُفر في قلبه ويُظهر الإيمانَ بلسانه {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [قرآن].

* المنافقون: اسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 63 في ترتيب المصحف، مدنيَّة، عدد آياتها إحدى عشرة آية.

مِنْفاق [مفرد]: جمعه مَنافِيقُ، والمؤنث مِنْفاق ومِنْفاقَة: صيغة مبالغة من نفَقَ1: كثير النَّفقة وبذل المال (لا تكن مِنفاقًا بل مقتصدًا- امرأة مِنْفاق/مِنْفاقَة).

نَفاق [مفرد]: مصدر نفَقَ.

نِفاق [مفرد]:

1 - مصدر نافقَ.

2 - إخفاء الكفر في الباطن والتَّظاهر بالإيمان.

نفَق [مفرد]: جمعه أنْفاق: مَمرّ يخترق الحواجزَ كالجبال أو البحار له مدخلٌ ومخرج (نفقُ القطار/السيّارات/السكة الحديديّة- تمّ إنشاء نفق تحت البحر يصل البلدين- مترو الأنفاق: قطار يعمل بالكهرباء وأغلب سيره في أنفاق تحت الأرض- {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} [قرآن]).

* النَّفق الهوائيّ: تجويف نفقيّ يتمّ دفع الهواء فيه لتقدير أثر ضغط الرِّياح على طائرة أو قذيفة موجّهة.

نَفْق [مفرد]: مصدر نفَقَ.

نفقات [جمع]: مفرده نفقة: أجر، ما يعطى لموظّف لقاء عمل ما.

* النَّفقات الجارية: [في الاقتصاد] مصروفات تتكبّدها المؤسَّسة في أعمالها العاديَّة اليوميَّة، وكذلك نفقات التَّشغيل العاديَّة التي تكون مستمرَّة بطبيعتها.

* نفقات التَّشغيل: [في الاقتصاد] تكاليف تشغيل المؤسَّسة عدا تكاليف الموادّ والأيدي العاملة، وتعرف هذه التكاليف بأنّها تلك التي تستمرّ الشركة في تكبّدها بصرف النَّظر عن حجم الإنتاج أو مستواه، أو التَّكاليف التي لا يمكن قيدها مباشرة على حساب أيَّة مرحلة أو قسم أو وحدة إنتاجيّة معيّنة في الشركة، ومثال ذلك: رواتب الموظّفين والإيجار والتأمين والصيانة والاستهلاك وما إليها.

نَفَقَة [مفرد]: جمعه نَفَقَات ونِفاق:

1 - ما يُبذل من المال (أقام مأدُبةً على نَفَقَتِه- نفقات المعيشة/انتقال- أسبغ له النَّفقة: وسّع عليه- {وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} [قرآن]) (*) على نفقة فلان: على حسابه، من ماله الخاصّ- فلانٌ قليل النَّفقات: بخيل.

2 - زاد، كلّ ما يحتاج إليه الإنسان ليعيش عيشة لائقة.

3 - ما يُفرض على الزّوج لزوجته من مالٍ وسكنٍ وحضانة (حدّد القاضي نفقة هذه المرأة المطلّقة).

نُفوق [مفرد]: مصدر نفَقَ.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-المعجم الوسيط (قَتَرَ)

[قَتَرَ] فلانٌ -ُ قَتْرًا: ضاق عَيْشُه.

و - على عياله: ضيَّقَ عليهم في النففة.

وفي التنزيل العزيز: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67].

و - اللَّحْمُ: انتشر قُتارُهُ.

و - للأسدِ: وضَعَ له في المصيدةِ لحمًا يجدُ قُتارَهُ.

و - الشيءَ والأمرَ: لزِمَه.

و - الشيءَ: أَلقاه على قُتْرِه: جانبه.

و - ضمَّ بعضَهُ إلى بعض.

و - الدِّرْعَ: جعل لها قتيرًا: مَسَاميرَ.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


4-شمس العلوم (قَتَرَ يَقْتُرُ)

الكلمة: قَتَرَ يَقْتُرُ. الجذر: قتر. الوزن: فَعَلَ/يَفْعُلُ.

[قَتَر] على عياله: أي ضَيَّق، وقرأ الكوفيون: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} بضم التاء، وهو رأي أبي عبيد.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


5-شمس العلوم (قَتَرَ يَقْتِرُ)

الكلمة: قَتَرَ يَقْتِرُ. الجذر: قتر. الوزن: فَعَلَ/يَفْعِلُ.

[قَتَر] على عياله: إذا ضيَّق، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب يَقْتِرُوا بكسر التاء.

قال ابن السكيت: وقَتَرَ اللحمُ فهو قاتر: إذا ارتفع قتاره، مثل قَتِر.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


6-شمس العلوم (الإقتار)

الكلمة: الإقتار. الجذر: قتر. الوزن: الْإِفْعَال.

[الإقتار]: أقتر على أهله: أي ضيَّق، وقرأ ابن عامر ونافع: ولم يُقْتِرُوا.

وأقتر الرجلُ: إذا أقلَّ.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


7-المعجم الاشتقاقي المؤصل (سرف)

(سرف): {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]

شاة مَسْروفة: مقطوعة الأذن أصلًا. والسُرفة - بالضم: دودة تأكل ورق الشجر [لها في ل عشرة تعريفات]. سَرَفَتْ السُرفةُ الشجرة (نصر): أكلتْ ورقها حتى تعرّيها. وسَرِفَ الطعامُ: ائْتَكَلَ كان السُرْفة أصابته. وسَرَفُ الماء - بالتحريك: ما ذهب منه في غير سَقْي ولا نفع. أرْوت البئر النخيل وذهب بقية الماء سَرَفًا.

° المعنى المحوري

تجاوز الحد أو الحق في الأخذ من الشيء إلى الإهدار والإفساد: كقطع الأذن من أصلها وكان يشيع أخذ قليل منها، والسُرفة تُعرى الشجرة من ورقها والمعتاد تخريم بعضه، وكذهاب بقية الماء بعد ريّ النخيل، وذهاب جوف الطعام (البُرّ).

ومنه الإسراف في المال، وهو ينصبّ على الإنفاق المتسع في غير نفع أو طاعة، ويشمل من التجاوز في الإنفاق ما يعد إهدارًا. أما الإنفاق في الفساد فهو أكبر إثمًا من الإسراف {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67]، {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] بقتل غير القاتل أو أكثرَ منه أو أشرف " [ل].

ومن ذلك: "السَرَف والإسراف (في الأمور سلوكًا ومعالجات) مجاوزة القصد/ الإفراط "؛ لأنه تضييع وإهدار للنعم: من مال، أو صحة، أو فراغ أو جاه.. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147]. {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي ضيَّعُوا وأفسدُوا جانين على أنفسهم (لم يتناول

[قر 15/ 267] المعنى اللغوي، ولم يتناول [ل، ق] تعدية أصرف بالحرف "على "). ومن تجاوز الحق الإغفالُ والجهل يقال: "أردتكم فسَرِفتكم/ مررت فسَرِفتكم أي أغفلتكم "أي لم ألْحظكم (عمدًا أو ذهولًا). والذي في القرآن من التركيب بمعنى التجاوز في إنفاق المال والأكل [النساء 6، الأنعام 141، الأعراف 131، والفرقان 67]. وسائرها في التجاوز ذنوبا وإفسادا.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


8-المعجم الاشتقاقي المؤصل (قتر)

(قتر): {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]

القُتْرَة - بالضم: صُنْبور القناة، والخَرْقُ الذي يَدْخُلُ منه الماء الحائطَ، وحَلْقة الدِرع. (الحائط هنا: الحديقة).

° المعنى المحوري

نفاذ الشيء بقلة أو ضَعفٍ لضيق مَنْفَذِه كالصُنْبور للقناة والخرْق لماء الحائط وحَلقة الدرع. ومنه "قَتَر المتاع وقَتَّره - ض: أدنى بعضه من بعض. وقَتَر ما بين رِكابه "فهذا وذاك من تضييق المسافة بين الأمتعة، وبين الركاب. ومن ذلك: "قَتَر على عياله (ضرب وقعد): ضيّق عليهم في النفقة. وكذلك التقتير والإقتار. والقَتْر - بالفتح: الرُمْقَة - بالضم: القليل من العيش يمسك الرَمَق - في النفقة {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] (المُقْتِر صاحب الرزق القليل) {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100].

ومنه "قَتَرت النار: دَخّنت، والقُتار - كصداع: ريحُ الشِواء إذا ضُهَّبَ (أي شُوِى دون إنضاج) على الجَمْر. وكذلك "القَترة - بالتحريك: غُبْرة يعلوها سواد كالدخان (مادة الدخان والغَبَرة ذرات بالغة الدقة تنفذ من النار شيئًا فشيئًا، لكن تجمّعها يجعلها طبقة نعوذ بالله منها {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26 ومثلها ما في عبس: 41].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


9-المعجم الاشتقاقي المؤصل (قوم)

(قوم): {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2, 3]

قامة الإنسان وقوامه - كسحاب، وقَوْمته وقَيْمتَه - بالفتح، فيهما: شَطَاطه... وحسن طُوله. قام قَوْمًا وقيامًا: خلافُ جلس. وقامت الدابة: وقفت عن المسير. وقام الماء: ثبت متحيرًا لا يجد منفذًا، وجَمُد أيضًا.

° المعنى المحوري

انتصاب الشيء إلى أعلى ثابتًا. كقامة الإنسان، وقيامه، وثبات الدابّة، والماء في مكانه. وبَيْن ثبات الماء (أي عدم جريانه إذا لم يكن له مصرف) وارتفاعه (إذا كان له رافد يزيده) = تلازم. فمن انتصاب قامة الإنسان وغيره (مع عدم الانتقال) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} [آل عمران: 191، ومنه ما في النساء: 103، والفرقان: 64]، {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77]، {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} [الحشر: 5]. ومن انتصاب القامة هذا أو من الثبوت اللازم له {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20، وكذا 125 فيها، آل عمران: 91، 113، التوبة: 84، يونس: 12، هود: 71, 100، الشعراء: 58، الزمر: 9، 68، النبأ: 38]. ومعاني الصيغ فيها واضحة.

ومنه قام يفعل كذا (كأنما انتصب لذلك وجمع نفسه له وأَخَذَ فيه) {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14].

ومن الانتصاب يؤخذ معنى النهوض بالشيء و (تفعيله - كما يقال الآن) "قيام السوق: نفاقها بكثرة كميات السلع وأنواعها وكثرة عمليات البيع والشراء

وكثرة الناس والأصوات. فهذا هو قيام السوق وهو تحقق قوامها وهذا نصْب لها أي إقامة). ومنه كل (إقامة الصلاة) ونحوها {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78] فأداؤها بشروطها في أوقاتها مع الجماعة والمداومة نصْب وإقامة لها. {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 68]، فالعمل بما فيهما، وبتعاليم الدين هو إقرار وإثبات لوجودهما، إقامة، كما أن إهمالهما وإهمال تعاليم الدين إهدار وهدم. ومن هذا النهوض والتفعيل {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229، وكذا ما فيها 230، 275، النساء: 127، 135، المائدة: 66، 68، الكهف: 14، 105، سبأ: 46، الرحمن: 9، الحديد: 25، الجمعة: 11، الطلاق: 2، المعارج: 33، الجن: 19، المدثر: 2] {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] أي متقاضيا بجِدّ [ينظر بحر 2/ 524].

ومنه "قام بالأمر ": تولاه (كما يقال نهض به) وقِوام العيش - ككتاب: عِمَاده الذي يقوم به، وكذا قِوام كل شيء وقِيامه {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. والله عز وجل القَيّوم والقَيّام: القائم بتدبير أمر خَلْقه في إنشائهم ورزقهم {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 25]، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، مُتَوَلٍّ أمورها خَلْقًا ورزقًا وحفظًا وحسابًا [ينظر قر 9/ 322] {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] متكفلون بأمورهن [ل 405/ 15] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33] والقيّم على الأمر - كسيد: متوليه كقيم الوقف والحمّام ".

ومن صور الانتصاب: الاستقامة بمعنى عدم العوج مادّيًّا، وبمعنى الثبات على العهد، أو تعاليم الدين أو موافقتها وعدم الحيود عن جادّتها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف [قر 148] {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] وكل (استقامة) فهي بأي

من هذه المعاني {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] - كسحاب أي عدْلًا (لا ميل إلى أي من الطرفين، وقرئ - ككتاب أي كان فيه مِلاك حال وسَداد) {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] أي الملة القيمة المعتدلة {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3] مستقيمة ناطقة بالحق. وكذا {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف: 2] {دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161] مستقيمًا أو ذا استقامة. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]: القضاء المستقيم، أو الشرع القويم إذ هو دين إبراهيم [بحر 5/ 41] {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] المراد حسن هيأته وصورته، وتزيينه بالعقل والتمييز والبيان [بحر 8/ 486].

ومن القيام والانتصاب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 85] أي {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] من رَقْدَة القبر مِنْ قَامَ، كالزيارة من زار. وزعم تعريبها [ل] في هذا التركيب البالغ الاتساع يكشف عن فراغ كبير في رءوس أصحاب هذه الدعاوى.

وكلمة (مقام) هي في الأصل مصدر ميمي أو مكان القيام {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125، وكذا ما في آل عمران: 97] وعُبّر به عن المجالس [الكشاف 3/ 302] وعن الرتبة والحدود التي يشغلها الشيء {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى مقصور عليه لا يتجاوزه - تبرءوا مما ما نَسَب إليهم الكفرة، فأخبروا عن حال عبوديتهم [بحر 7/ 362 - 363] {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم: 14] مقام يحتمل المصدر والمكان. المصدر بمعنى: قيامي عليه بالحفاظ لأعماله ومراقبتي

إياه - كقوله تعالى {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] والمكان مكان وقوفه بين يدي للحساب. وكذا في {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] [ينظر بحر 8/ 195] {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] يقيمك مقامًا أو يبعثك في مقام أو ذا مقام. وهو مقامه - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة العظمى العامة أو شفاعته لمذنبي أمته لإخراجهم من النار، أو كل مقام يحمد [ينظر بحر 6/ 70] {يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71] أي عظم عليكم طول مقامي فيكم أو قيامي للوعظ [نفسه 5/ 176].

أما (المقام) بضم الميم فمعناه الإقامة بالمكان. وسياقاته واضحة.

والقوم في الأصل جماعة الناس عامة (كأنها اسم جمع قائم)، وهم مظاهِرون (مُقَوُّون) لمن هو منهم. ثم خُصصت بعد فيما أرى بالرجال، باعتبار أنهم كانوا هم الذين يُعْتَدّ بهم في الحروب وما إليها، ولأنهم القادة والذادة أي القائمون بالأمر {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11]. ويُلتفت إلى أن سيدنا موسى قال {يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} في حين أن سيدنا عيسى قال {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [الصف: 6] ولم يقل يا قومي إذ لم يكن له أب منهم.

أما "القِيمةُ - بالكسر: ثمنُ الشيء "فهي من الأصل كأنها ما يقاوِم أو يقوّم الشيء في النفس أي مقداره وحجمه الشامل لارتفاعه.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


10-معجم الأفعال المتعدية بحرف (قتر)

(قتر) على عياله ضيق عليهم في النفقة فهو مقتر وقتر الصائد للوحش دخن بأوبار الإبل لئلا يجد الصيد ريح الصائد فيهرب منه وأقتر على عياله ضيق عليهم في النفقة فهو مقتر وتقتر للأمر تهيأ له وتقتر له تلطف له وتقتر له تلطف وتقتره وتقتر له تخفى في القترة (بيت الصائد) ليختله حاول ختله والاستمكان منه وتقتر عنه تنحى غضب) لم يسرفوا ولم يقتروا (وتقتر لك فلان سوى عليك منصوبة (قتله) بأخيه أي قتله منتقما لإخيه وتقتل للأمر تأنى له وتقتلت له تخضعت له وتذللت حتى عشقها قال الشاعر

(تقتلت لي حتى إذا ما قتلتني

تنسكت ما هذا بفعل النواسك) طويل

وقاتل جوع الضيف بالإطعام قال الكميت

(بالجفان التي بها يترك الج (م) ع

قتيلا ويفثأ الزمهريرا) خفيف وقتله به قتله مكانه وقاتله عن كذا دافعه واستقتل في الأمر جد فيه.

معجم الأفعال المتعدية بحرف-موسى بن الحاج محمد بن الملياني الأحمدي الدراجي المسيلي الجزائري (الملقب نويوات)-صدر:1398هـ/1977م


11-موسوعة الفقه الكويتية (إسراف 1)

إِسْرَافٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْرَافِ فِي اللُّغَةِ: مُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ، يُقَالُ: أَسْرَفَ فِي مَالِهِ أَيْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَالٍ، وَوَضَعَ الْمَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.وَأَسْرَفَ فِي الْكَلَامِ، وَفِي الْقَتْلِ: أَفْرَطَ.وَأَمَّا السَّرَفُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَهُوَ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَلْيُوبِيُّ لِلْإِسْرَافِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ نَفْسَهُ، وَهُوَ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.

وَخَصَّ بَعْضُهُمُ اسْتِعْمَالَ الْإِسْرَافِ بِالنَّفَقَةِ وَالْأَكْلِ.يَقُولُ الْجُرْجَانِيِّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: الْإِسْرَافُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ.

وَقِيلَ: أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، أَوْ يَأْكُلُ مَا يَحِلُّ لَهُ فَوْقَ الِاعْتِدَالِ وَمِقْدَارِ الْحَاجَةِ.

وَقِيلَ: الْإِسْرَافُ تَجَاوُزُ الْكَمِّيَّةَ، فَهُوَ جَهْلٌ بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ.

وَالسَّرَفُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِفِعْلِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّقْتِيرُ:

2- وَهُوَ يُقَابِلُ الْإِسْرَافَ، وَمَعْنَاهُ: التَّقْصِيرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}

ب- التَّبْذِيرُ:

3- التَّبْذِيرُ: هُوَ تَفْرِيقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ قَصْدٍ، وَمِنْهُ الْبَذْرُ فِي الزِّرَاعَةِ.

وَقِيلَ: هُوَ إِفْسَادُ الْمَالِ وَإِنْفَاقُهُ فِي السَّرَفِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْمَعَاصِي، وَتَفْرِيقُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ.

وَيُعَرِّفُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ: عَدَمُ إِحْسَانِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَصَرْفُهُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، فَصَرْفُ الْمَالِ إِلَى وُجُوهِ الْبِرِّ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ، وَصَرْفُهُ فِي الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ تَبْذِيرٌ.

وَعَلَى هَذَا فَالتَّبْذِيرُ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْرَافِ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ يُسْتَعْمَلُ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي السَّرَفِ أَوِ الْمَعَاصِي أَوْ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَالْإِسْرَافُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُجَاوِزٌ الْحَدَّ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْأَمْوَالِ أَمْ فِي غَيْرِهَا، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِسْرَافُ فِي الْإِفْرَاطِ فِي الْكَلَامِ أَوِ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِمَا.

وَقَدْ فَرَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: التَّبْذِيرُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَشْهُورِ بِمَعْنَى الْإِسْرَافِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَهُوَ أَنَّ الْإِسْرَافَ: صَرْفُ الشَّيْءِ فِيمَا يَنْبَغِي زَائِدًا عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَالتَّبْذِيرُ: صَرْفُ الشَّيْءِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي.وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ نَقْلًا عَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، التَّبْذِيرُ: الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ، وَالسَّرَفُ: الْجَهْلُ بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ.

ج- السَّفَهُ:

4- السَّفَهُ فِي اللُّغَةِ: خِفَّةُ الْعَقْلِ وَالطَّيْشُ وَالْحَرَكَةُ.

وَفِي الشَّرِيعَةِ: تَضْيِيعُ الْمَالِ وَإِتْلَافُهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.

وَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي بُلْغَةِ السَّالِكِ: أَنَّ السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَوَرَدَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ: الْمُبَذِّرُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّفَهَ سَبَبُ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَهُمَا أَثَرَانِ لِلسَّفَهِ، كَمَا يَتَبَيَّنُ مِمَّا قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ فِي التَّعْرِيفَاتُ: السَّفَهُ خِفَّةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ طَوْرِ الْعَقْلِ وَمُقْتَضَى الشَّرْعِ.

وَجَاءَ فِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ عَادَةِ السَّفِيهِ التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ فِي النَّفَقَةِ.وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ لِلسَّفَهِ مِنْ أَنَّهُ: خِفَّةُ الْعَقْلِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ السَّفَهِ وَالْإِسْرَافِ عَلَاقَةُ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ.

حُكْمُ الْإِسْرَافِ:

5- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْإِسْرَافِ بِحَسَبِ مُتَعَلَّقِهِ، كَمَا تَبَيَّنَ فِي تَعْرِيفِ الْإِسْرَافِ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ صَرْفَ الْمَالِ الْكَثِيرِ فِي أُمُورِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ لَا يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، فَلَا يَكُونُ مَمْنُوعًا.أَمَّا صَرْفُهُ فِي الْمَعَاصِي وَالتَّرَفِ وَفِيمَا لَا يَنْبَغِي فَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا.

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ جَبَلُ أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا لِرَجُلٍ، فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا، وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا أَوْ مُدًّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مُسْرِفًا، وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِسْرَافَ كَمَا يَكُونُ فِي الشَّرِّ، يَكُونُ فِي الْخَيْرِ، كَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا} أَيْ لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ كُلَّهَا فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ، وَرُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَنْفَقَ جُذَاذَ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ لِأَهْلِهِ شَيْئًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِفِعْلِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.

كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْإِسْرَافِ إِذَا كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ عَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْمَحْظُورَاتِ أَوِ الْمُبَاحَاتِ، أَوْ فِي اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ وَالْعُقُوبَاتِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ.

الْإِسْرَافُ فِي الطَّاعَاتِ

أَوَّلًا- الْإِسْرَافُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ:

أ- الْإِسْرَافُ فِي الْوُضُوءِ:

وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي حَالَتَيْنِ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: تَكْرَارُ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ:

6- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ تَكْرَارَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ إِلَى ثَلَاثٍ مَسْنُونٌ.جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ الْوُضُوءَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يُجْزِئُ، وَالثَّلَاثُ أَفْضَلُ.وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْغَسْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فَضِيلَتَانِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَغَسْلُ الْأَعْضَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبٌ.أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ الْمُوعِبَةِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، لِأَنَّهَا مِنَ السَّرَفِ فِي الْمَاءِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا تُمْنَعُ.

وَالْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مَمْلُوكًا أَوْ مُبَاحًا، أَمَّا الْمَاءُ الْمَوْقُوفُ عَلَى مَنْ يَتَطَهَّرُ بِهِ- وَمِنْهُ مَاءُ الْمَدَارِسِ- فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ عَلَى الثَّلَاثِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَأْذُونٍ بِهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُوقَفُ وَيُسَاقُ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِبَاحَتَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْ نِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ».

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْحَدِيثِ لِمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ الثَّلَاثِ سُنَّةٌ، أَمَّا إِذَا زَادَ- مَعَ اعْتِقَادِ سُنِّيَّةِ الثَّلَاثِ- لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ، أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَرْكِ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْبَدَائِعِ: إِذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الثَّلَاثَ سُنَّةٌ، لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ.ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنَّمَا هُوَ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، فَتَبْقَى الْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، أَفْضَلِيَّةَ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِأَلاَّ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَانَ قَدْ صَلَّى بِالضَّوْءِ الْأَوَّلِ صَلَاةً، وَإِلاَّ يُكْرَهُ التَّكْرَارُ وَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: الْوَجْهُ الْحُرْمَةُ.أَمَّا لَوْ كَرَّرَهُ ثَالِثًا أَوْ رَابِعًا بِغَيْرِ أَنْ تَتَخَلَّلَهُ صَلَاةٌ فَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَحْضًا عِنْدَ الْجَمِيعِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ- اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكْفِيهِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَدْنَى الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَسْبَغَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ وَأَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.

وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَكْرُوهٌ، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ الْمُدُّ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ.وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ فِيمَنِ اعْتَدَلَ جِسْمُهُ عَنْ مُدٍّ تَقْرِيبًا، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُوَضِّئُهُ الْمُدُّ» وَلَا حَدَّ لِمَاءِ الْوُضُوءِ، لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ الْإِسْبَاغُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ تَقْلِيلُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ قَوْلَ مَنْ قَالَ: حَتَّى يَقْطُرَ الْمَاءُ أَوْ يَسِيلَ، يَعْنِي أَنْكَرَ السَّيَلَانَ عَنِ الْعُضْوِ لَا السَّيَلَانَ عَلَى الْعُضْوِ، إِذْ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَعَ عَدَمِ السَّيَلَانِ مَسْحٌ بِلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْقَدْرُ الْكَافِي فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، فَمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَإِسْرَافٌ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِ فَقَدْ أَدَّى السُّنَّةَ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِسْبَاغِ بِقَلِيلٍ أَنْ يُقَلِّلَ الْمَاءَ، وَلَا يَسْتَعْمِلُ زِيَادَةً عَلَى الْإِسْبَاغِ، أَيْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.

وَمِعْيَارُ الْإِسْرَافِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ فَوْقَ الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَكَرَ أَكْثَرُ الْأَحْنَافِ أَنَّ تَرْكَ التَّقْتِيرِ- بِأَنْ يَقْتَرِبَ إِلَى حَدِّ الدَّهْنِ، وَيَكُونُ التَّقَاطُرُ غَيْرَ ظَاهِرٍ- وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ- بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ- سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْإِسْرَافُ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الدُّرِّ، لَكِنْ رَجَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ كَوْنَهُ مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا.

وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ».

وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُوَسْوَسِ، أَمَّا الْمُوَسْوَسُ فَيُغْتَفَرُ فِي حَقِّهِ لِمَا ابْتُلِيَ بِهِ.

ب- الْإِسْرَافُ فِي الْغُسْلِ:

8- مِنْ سُنَنِ الْغُسْلِ التَّثْلِيثُ، بِأَنْ يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى كُلِّ بَدَنِهِ ثَلَاثًا مُسْتَوْعِبًا، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَكْرُوهًا، وَلَا يُقَدَّرُ الْمَاءُ الَّذِي يُجْزِئُ الْغُسْلُ بِهِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ الشَّرْعِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَمَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْوَاجِبِ فَهُوَ سَرَفٌ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» فَهُوَ بَيَانٌ لِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ بِهِ أَدَاءُ السُّنَّةِ عَادَةً، وَلَيْسَ تَقْدِيرًا لَازِمًا.

ج- الْإِسْرَافُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ:

9- الْإِنْسَانُ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِصَادِ وَمُرَاعَاةِ الِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، حَتَّى فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.فَالْعِبَادَاتُ إِنَّمَا أُمِرَ بِفِعْلِهَا مَشْرُوطَةً بِنَفْيِ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْ هُنَا أُبِيحَ الْإِفْطَارُ فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَالْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُرْضِعِ وَكُلِّ مَنْ خَشِيَ ضَرَرَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ، لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِفْطَارِ عُسْرًا، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ إِرَادَةَ الْعُسْرِ.فَلَا يَجُوزُ فِيهَا الْإِسْرَافُ وَالْمُبَالَغَةُ.وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» أَيِ الْمُبَالِغُونَ فِي الْأَمْرِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاَللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الِاقْتِصَادُ فِي الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ إِتْعَابَ النَّفْسِ فِيهَا وَالتَّشْدِيدَ عَلَيْهَا يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجَمِيعِ، وَالدِّينُ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ أَحَدٌ الدِّينَ إِلاَّ غَلَبَهُ، وَالشَّرِيعَةُ النَّبَوِيَّةُ بُنِيَتْ عَلَى التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ.

وَلِهَذَا صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِكَرَاهَةِ صَوْمِ الْوِصَالِ وَصَوْمِ الدَّهْرِ، كَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» وَقَالُوا بِكَرَاهَةِ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: لَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ».قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِحْيَاءِ اللَّيْلِ الِاسْتِيعَابُ، لَكِنَّهُ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِنِصْفِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا نِصْفَ اللَّيْلِ فَقَدْ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَيَتَرَجَّحُ إِرَادَةُ الْأَكْثَرِ أَوِ النِّصْفِ، وَالْأَكْثَرُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ.

وَأَوْضَحُ مَا جَاءَ فِي مَنْعِ الْإِسْرَافِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حُجْرَتِي، فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَلَا تَفْعَلَنَّ، نَمْ وَقُمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجَتِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِصَدِيقِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ، وَأَنَّهُ حَسْبُكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثًا، فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا».

وَقَالَ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ كُلَّ اللَّيْلِ دَائِمًا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الدَّهْرِ- غَيْرِ أَيَّامِ النَّهْيِ- فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كُلِّهِ دَائِمًا يُضِرُّ الْعَيْنَ وَسَائِرَ الْبَدَنِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي فِي اللَّيْلِ مَا فَاتَهُ مِنْ أَكْلِ النَّهَارِ، وَلَا يُمْكِنُهُ نَوْمُ النَّهَارِ إِذَا صَلَّى اللَّيْلَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.هَذَا حُكْمُ قِيَامِ اللَّيْلِ دَائِمًا، فَأَمَّا بَعْضُ اللَّيْلِ فَلَا يُكْرَهُ إِحْيَاؤُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَحْيَا اللَّيْلَ» وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى إِحْيَاءِ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ثَانِيًا- الْإِسْرَافُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ:

أ- الْإِسْرَافُ فِي الصَّدَقَةِ:

10- الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ الْمُحَدَّدَةُ الْمِقْدَارِ، كَالزَّكَاةِ وَالنَّذْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْإِسْرَافُ، لِأَنَّ أَدَاءَهَا بِالْقَدْرِ الْمُحَدَّدِ وَاجِبٌ شَرْعًا.وَتَفْصِيلُ شُرُوطِ الْوُجُوبِ، وَمِقْدَارِ مَا وَجَبَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَاتِ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهَا.

أَمَّا الصَّدَقَاتُ الْمَنْدُوبَةُ- وَهِيَ الَّتِي تُعْطَى لِلْمُحْتَاجِينَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ- فَرَغْمَ حَثِّ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ التَّجَاوُزِ إِلَى حَدٍّ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى فَقْرِ الْمُنْفِقِ نَفْسِهِ حَتَّى يَتَكَفَّفَ النَّاسَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.

وَكَذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا تُخْرِجْ جَمِيعَ مَا فِي يَدِك مَعَ حَاجَتِكَ وَحَاجَةِ عِيَالِكَ إِلَيْهِ، فَتَقْعُدَ مُنْقَطِعًا عَنِ النَّفَقَةِ وَالتَّصَرُّفِ، كَمَا يَكُونُ الْبَعِيرُ الْحَسِيرُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ فَلَا انْبِعَاثَ بِهِ، وَقِيلَ: لِئَلاَّ تَبْقَى مَلُومًا ذَا حَسْرَةٍ عَلَى مَا فِي يَدِكَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَحَسَّرُ عَلَى إِنْفَاقِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنِ الْإِفْرَاطِ فِي الْإِنْفَاقِ وَإِخْرَاجِ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ مِنَ الْمَالِ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ عَلَى مَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ،، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فَأَمَّا مَنْ وَثِقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ فِيمَا أَنْفَقَهُ فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يُعَنِّفْهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِصِحَّةِ يَقِينِهِمْ وَشِدَّةِ بَصَائِرِهِمْ.

وَفِي ضَوْءِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يُمَوِّنُهُ عَلَى الدَّوَامِ، وَمَنْ أَسْرَفَ بِأَنْ تَصَدَّقَ بِمَا يُنْقِصُهُ عَنْ كِفَايَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ- وَلَا كَسْبَ لَهُ- فَقَدْ أَثِمَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يُمَوِّنُهُ» وَلِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يُمَوِّنُهُ وَاجِبَةٌ، وَالتَّطَوُّعُ نَافِلَةٌ، وَتَقْدِيمُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ لَا يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ، فَيُذْهِبُ مَالَهُ، وَيُبْطِلُ أَجْرَهُ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ.

أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنَ التَّوَكُّلِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ، وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ كَانَ ذَا مَكْسَبٍ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا فِي حَقِّهِ إِسْرَافًا.لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ، لِقُوَّةِ يَقِينِهِ وَكَمَالِ إِيمَانِهِ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ.

ب- الْإِسْرَافُ فِي الْوَصِيَّةِ:

11- الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، أَوْ هِيَ التَّبَرُّعُ بِالْمَالِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَالِ لِمَنْ تَرَكَ خَيْرًا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَرِثُ، وَقَدْ حَدَّدَ الشَّرْعُ حُدُودَهَا بِأَنْ لَا تَزِيدَ عَنِ الثُّلُثِ، وَرَغَّبَ فِي التَّقْلِيلِ مِنَ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِتَجَنُّبِ الْإِسْرَافِ، وَإِيقَاعِ الضَّرَرِ بِالْوَرَثَةِ.

فَإِذَا وُجِدَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، نُفِّذَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ، وَبَطَلَتْ فِي الزَّائِدِ مِنْهُ اتِّفَاقًا إِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، لِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».

فَالثُّلُثُ هُوَ الْحَدُّ الْأَعْلَى فِي الْوَصِيَّةِ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْحَدِّ الْأَدْنَى، مَعَ اسْتِحْبَابِهِمُ الْأَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، وَأَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ، لِتَكُونَ صَدَقَةً وَصِلَةً مَعًا.وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلْغَنِيِّ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، أَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ وَأَجَازَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (وَصِيَّة).

ثَالِثًا: الْإِسْرَافُ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ:

12- الْإِسْرَافُ بِمَعْنَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ، حَتَّى فِي الْمُقَابَلَةِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ، فَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِمُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.

وَلِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَدُوُّ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ، حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُكْرَهُ نَقْلُ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ، وَتُكْرَهُ الْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ».

وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ وَلَا شَيْخٌ فَانٍ، وَلَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، أَوْ كَانُوا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَمَكَايِدَ فِي الْحَرْبِ، أَوْ أَعَانُوا الْكُفَّارَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَلَا يَجُوزُ الْغَدْرُ وَالْغُلُولُ، وَلَا يَجُوزُ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ إِنْ أَمْكَنَ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِمْ بِدُونِهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِالْقَتْلِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ» وَيَجُوزُ مَعَهُمْ عَقْدُ الْأَمَانِ وَالصُّلْحِ بِمَالٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}.

وَلَوْ حَاصَرْنَاهُمْ دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فِيهَا، وَإِلاَّ فَرَضْنَا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنْ قَبِلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مِنَّا الْمُعَامَلَةُ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ عَلَى حَسَبِ شُرُوطِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى نَغْلِبَهُمْ عَنْوَةً.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ر: (جِهَاد) (وَجِزْيَة).

الْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ

أ- الْإِسْرَافُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ:

13- الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ فَرْضٌ، وَهُوَ بِقَدْرِ الشِّبَعِ مُبَاحٌ، فَإِذَا نَوَى بِالشِّبَعِ ازْدِيَادَ قُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَمَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مَحْظُورٌ، عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، أَوْ لِئَلاَّ يَسْتَحِي الضَّيْفُ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}.فَالْإِنْسَانُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بِحَيْثُ يَتَقَوَّى عَلَى أَدَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الْحَرَامِ، وَلَا يُكْثِرُ الْإِنْفَاقَ الْمُسْتَقْبَحَ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مِقْدَارًا كَثِيرًا يَضُرُّهُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا يَمْنَعُهُ الْقِيَامَ بِالْوَاجِبِ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، وَلِأَنَّهُ إِضَاعَةُ الْمَالِ وَإِمْرَاضُ النَّفْسِ.

وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ».وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ».

وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْحَضِّ عَلَى تَقْلِيلِ الطَّعَامِ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «قَالَ لِأَبِي جُحَيْفَةَ حِينَمَا أَتَاهُ يَتَجَشَّأُ: اُكْفُفْ عَلَيْكَ مِنْ جُشَائِكَ أَبَا جُحَيْفَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُطْلَبُ تَخْفِيفُ الْمَعِدَةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى قَدْرٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَا كَسَلٌ عَنْ عِبَادَةٍ، فَقَدْ يَكُونُ لِلشِّبَعِ سَبَبًا فِي عِبَادَةٍ فَيَجِبُ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فَيَحْرُمُ، أَوْ تَرْكُ مُسْتَحَبٍّ فَيُكْرَهُ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: صَرْفُ الْمَالِ إِلَى الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ تَبْذِيرٌ.فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْحَجْرِ كَمَا سَيَأْتِي.وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّ هَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَبْذِيرًا مَا لَمْ يُصْرَفْ فِي مُحَرَّمٍ، فَيُعْتَبَرُ عِنْدَئِذٍ إِسْرَافًا وَتَبْذِيرًا إِجْمَاعًا.وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ أَكْلَ الْمَتْخُومِ، أَوِ الْأَكْلَ الْمُفْضِي إِلَى تُخَمَةٍ سَبَبٌ لِمَرَضِهِ وَإِفْسَادِ بَدَنِهِ، وَهُوَ تَضْيِيعُ الْمَالِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ.وَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِالشِّبَعِ، لَكِنْ يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ مِنَ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ.

ب- الْإِسْرَافُ فِي الْمَلْبَسِ وَالزِّينَةِ:

14- الْإِسْرَافُ فِي الْمَلْبَسِ وَالزِّينَةِ مَمْنُوعٌ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْبَسُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيلَةٌ».

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَلْبَسُ بَيْنَ الْخَسِيسِ وَالنَّفِيسِ، إِذْ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَلِلنَّهْيِ عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ النَّفَاسَةِ أَوِ الْخَسَاسَةِ.وَيُنْدَبُ لُبْسُ الثَّوْبِ الْجَمِيلِ لِلتَّزَيُّنِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ».

الْإِسْرَافُ فِي الْمَهْرِ:

15- الْمَهْرُ يَجِبُ إِمَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالْعَقْدِ.فَإِذَا سُمِّيَ فِي الْعَقْدِ، وُعِّينَ مِقْدَارُهُ، وَجَبَ الْمُسَمَّى، وَإِلاَّ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَلَمْ يُحَدِّدِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ أَقَلَّ الْمَهْرِ، وَحَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ أَقَلَّ الْمَهْرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: أَقَلُّهُ رُبُعُ دِينَارٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةً خَالِصَةً.

وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الْمَهْرِ إجْمَاعًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}.لِأَنَّ الْقِنْطَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ الْكَثِيرِ.

وَلَكِنْ حَذَّرَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْمُغَالَاةِ فِي الْمَهْرِ، وَقَالُوا: تُكْرَهُ الْمُغَالَاةُ فِي الصَّدَاقِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً» وَفَسَّرُوا الْمُغَالَاةَ فِي الْمَهْرِ بِمَا خَرَجَ عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْثَالِهَا، إِذِ الْمِائَةُ قَدْ تَكُونُ كَثِيرَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِامْرَأَةٍ، وَقَلِيلَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لأُِخْرَى.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِكَرَاهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَهْرِ بِأَنَّ الرَّجُلَ يُغْلِي بِصَدَقَةِ الْمَرْأَةِ (أَيْ فَوْقَ طَاقَتِهِ)، حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي قَلْبِهِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَثُرَ بِمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَيَتَعَرَّضُ لِلضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (مَهْر).

الْإِسْرَافُ فِي التَّكْفِينِ وَالتَّجْهِيزِ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفَنِ هُوَ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ.وَالْإِيتَارُ فِيهِ إِلَى ثَلَاثٍ لِلرَّجُلِ، وَإِلَى خَمْسٍ لِلْمَرْأَةِ سُنَّةٌ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَّةٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ...»

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «أَعْطَى اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ» وَلِأَنَّ عَدَدَ الثَّلَاثِ أَكْثَرُ مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْمَرْأَةُ تَزِيدُ فِي حَالِ حَيَاتِهَا عَلَى الرَّجُلِ فِي السَّتْرِ، لِزِيَادَةِ عَوْرَتِهَا عَلَى عَوْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ لِلرَّجُلِ، وَالْخَمْسَةِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِسْرَافِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا»

وَمَا رُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَحْسِينِ الْكَفَنِ: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ».مَعْنَاهُ: بَيَاضَهُ وَنَظَافَتَهُ، لَا كَوْنَهُ ثَمِينًا حِلْيَةً.

وَلَا بَأْسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالزِّيَادَةِ إِلَى خَمْسَةٍ فِي الرَّجُلِ، وَإِلَى سَبْعَةٍ فِي الْمَرْأَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْخَمْسَةِ فِي الرَّجُلِ، وَالسَّبْعَةِ فِي الْمَرْأَةِ إِسْرَافٌ، وَثَلَاثَةٌ أَوْلَى مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَخَمْسَةٌ أَوْلَى مِنْ سِتَّةٍ.

فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْرَافَ مَحْظُورٌ فِي الْكَفَنِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَنَ يَكُونُ وَفْقًا لِمَا يَلْبَسُهُ الْمَيِّتُ حَالَ حَيَاتِهِ عَادَةً.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَنٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (تحلية)

تَحْلِيَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّحْلِيَةُ لُغَةً: إِلْبَاسُ الْمَرْأَةِ الْحُلِيَّ، أَوِ اتِّخَاذُهُ لَهَا لِتَلْبَسَهُ.

وَيُقَالُ: تَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ: لَبِسَتِ الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذَتْهُ.وَحَلَّيْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ: أَلْبَسْتُهَا الْحُلِيَّ، أَوِ اتَّخَذْتُهُ لَهَا لِتَلْبَسَهُ.وَالتَّحْلِيَةُ لَا تَخْرُجُ فِي مَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

تَزْيِينٌ:

2- التَّزْيِينُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَيْءٍ يُتَزَيَّنُ بِهِ.

فَالتَّزَيُّنُ أَعَمُّ مِنَ التَّحْلِيَةِ، لِتَنَاوُلِهِ مَا لَيْسَ حِلْيَةً كَالِاكْتِحَالِ وَتَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَالِاخْتِضَابِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّحْلِيَةِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ.

فَقَدْ تَكُونُ التَّحْلِيَةُ وَاجِبَةً كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَتَزَيُّنِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا مَتَى طَلَبَ مِنْهَا ذَلِكَ.

وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً كَتَحَلِّي الرَّجُلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ وَلِقَاءِ الْوُفُودِ وَخِضَابِ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً كَلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ لِلرِّجَالِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَخِضَابِ الرَّجُلِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ لِلتَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.

وَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا كَتَحَلِّي الرِّجَالِ بِحِلْيَةِ النِّسَاءِ، وَتَحَلِّي النِّسَاءِ بِحِلْيَةِ الرِّجَالِ، وَكَتَحَلِّي الرِّجَالِ بِالذَّهَبِ.

الْإِسْرَافُ فِي التَّحْلِيَةِ:

4- التَّحْلِيَةُ الْمُبَاحَةُ أَوِ الْمُسْتَحَبَّةُ إِذَا أُسْرِفَ فِيهَا تُصْبِحُ مَحْظُورَةً، وَقَدْ تَصِلُ إِلَى مَرْتَبَةِ التَّحْرِيمِ.

وَالْإِسْرَافُ: هُوَ مُجَاوَزَةُ حَدِّ الِاسْتِوَاءِ، فَتَارَةً يَكُونُ بِمُجَاوَزَةِ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ، فَيَكُونُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} وَالْإِسْرَافُ وَضِدُّهُ مِنَ الْإِقْتَارِ مَذْمُومَانِ، وَالِاسْتِوَاءُ هُوَ التَّوَسُّطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.

تَحْلِيَةُ الْمُحِدَّةِ:

5- الْمُحِدَّةُ مِنَ النِّسَاءِ هِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي تَتْرُكُ الزِّينَةَ وَالْحُلِيَّ وَالطِّيبَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا لِلْعِدَّةِ، وَالْحِدَادُ تَرْكُهَا ذَلِكَ.

وَإِحْدَادُهَا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: امْتِنَاعُهَا عَنِ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ حُزْنًا عَلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْمَوْتِ- وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ- أَمْ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى خِلَافٍ.

6- وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحِدَّةِ أَنْ تَسْتَعْمِلَ الذَّهَبَ بِكُلِّ صُوَرِهِ، فَيَلْزَمُهَا نَزْعُهُ حِينَ تَعْلَمُ بِمَوْتِ زَوْجِهَا، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَسَاوِرِ وَالدَّمَالِجِ وَالْخَوَاتِمِ، وَمِثْلُهُ الْحُلِيُّ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يُتَّخَذُ لِلْحِلْيَةِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْعَاجِ وَغَيْرِهِ.

وَجَوَّزَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لُبْسَ الْحُلِيِّ مِنَ الْفِضَّةِ، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ، لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحُلِيِّ عَلَى الْمُحِدَّةِ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا الْحُلِيَّ» وَلِأَنَّ الزِّينَةَ تَحْصُلُ بِالْفِضَّةِ، فَحَرُمَ عَلَيْهَا لُبْسُهَا وَالتَّحَلِّي بِهَا كَالذَّهَبِ.وَقَصَرَ الْغَزَالِيُّ الْإِبَاحَةَ عَلَى لُبْسِ الْخَاتَمِ مِنَ الْفِضَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَخْتَصُّ النِّسَاءُ بِحِلِّهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَحَلَّى لِتَتَعَرَّضَ لِلْخُطَّابِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنَ الْوَسَائِلِ تَلْمِيحًا أَوْ تَصْرِيحًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ: «وَلَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ وَلَا الْحُلِيَّ».

التَّحَلِّي فِي الْإِحْرَامِ:

7- وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُرِيدُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ مِمَّنْ أَحْرَمَ بِهِمَا فِعْلًا.

وَتَحَلِّي الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ بِالذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُلِيِّ مُبَاحٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ سِوَارًا أَمْ غَيْرَهُ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْيَلْبَسْنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ».

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا الْخَلْخَالُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْحُلِيِّ مِثْلُ السِّوَارِ وَالدُّمْلُوجِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ.وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: الْمُحْرِمَةُ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يَتْرُكَانِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ، وَلَهُمَا مَا سِوَى ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ.وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ.وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ الْخَاتَمَ وَالْقُرْطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ، وَكَرِهَ السِّوَارَيْنِ وَالدُّمْلُجَيْنِ وَالْخَلْخَالَيْنِ.وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: الرُّخْصَةُ فِيهِ.وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهما- وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ.وَقَالَ عَنْ نَافِعٍ: كَانَ نِسَاءُ ابْنِ عُمَرَ وَبَنَاتُهُ يَلْبَسْنَ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ.وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمَنَاسِكِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مَا تَلْبَسُ وَهِيَ حَلَالٌ مِنْ خَزِّهَا وَقَزِّهَا وَحُلِيِّهَا.وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَيُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ فِي الْمَنْعِ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّينَةِ.

وَلُبْسُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلرَّجُلِ، وَفِيهِ الْفِدَاءُ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ.

8- وَمِنَ التَّحَلِّي فِي الْإِحْرَامِ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ.وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، لَكِنَّهُ سُنَّ اسْتِعْدَادًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الْإِحْرَامَ بِمُطَيَّبٍ، وَنَدَبُوهُ بِغَيْرِهِ.

وَالتَّطَيُّبُ فِي ثَوْبِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.

وَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ التَّحْلِيَةَ بِالطِّيبِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ هُوَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَأَمَّا لُبْسُ الْمَرْأَةِ حُلِيَّهَا فِي الْإِحْرَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِغْرَاءٌ ر: (إِحْرَامٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (توسعة)

تَوْسِعَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّوْسِعَةُ وَالتَّوْسِيعُ: لُغَةً: مَصْدَرُ وَسَّعَ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلَهُ وَاسِعًا، وَهِيَ ضِدُّ التَّضْيِيقِ، وَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ أَغْنَاهُ.

وَالتَّوْسِعَةُ فِي الرِّزْقِ أَوِ النَّفَقَةِ وَالْبَسْطِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَالْبَسْطَةُ: السِّعَةُ، وَبَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ: كَثَّرَهُ وَوَسَّعَهُ، وَ {كُلَّ الْبَسْطِ} كِنَايَةٌ عَنِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ.

وَالتَّوْسِعَةُ غَيْرُ الْإِسْرَافِ،

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ:

2- الْإِسْرَافُ فِي اللُّغَةِ: التَّبْذِيرُ وَالْإِغْفَالُ وَالْخَطَأُ، وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ سَرَفٌ وَإِسْرَافٌ.

وَفِي مَعْنَى التَّبْذِيرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه-: التَّبْذِيرُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ.وَلَا تَبْذِيرَ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَلَا تُسْرِفُوا} وَلَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ.فَالتَّوْسِعَةُ غَيْرُ الْإِسْرَافِ؛ لِأَنَّ التَّوْسِعَةَ مَحْمُودَةٌ لِعَدَمِ تَجَاوُزِ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ فِي قَدْرِ الْإِنْفَاقِ.

ب- الْقَصْدُ وَالِاقْتِصَادُ:

3- مِنْ مَعَانِي الْقَصْدِ وَالِاقْتِصَادِ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَبَيْنَ التَّقْتِيرِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ.

ج- التَّقْتِيرُ وَالْإِقْتَارُ:

4- التَّقْتِيرُ وَالْإِقْتَارُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْفَاقُ أَقَلُّ مِنَ الْحَاجَةِ.قَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- التَّوْسِعَةُ فِي إِنْفَاقِ الْمُسْلِمِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِيَالِهِ سُنَّةٌ لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيأَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ».

وَيُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ.لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ».

وَيُشْتَرَطُ فِي التَّوْسِعَةِ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ تَكُونَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى.لِمَا رُوِيَ «عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكِ فَهُوَ خَيْرٌ لَك».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى».

الْأَوْقَاتُ الَّتِي يَتَأَكَّدُ فِيهَا التَّوْسِعَةُ:

أ- التَّوْسِعَةُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ:

6- تَتَأَكَّدُ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَالِ فِي أَيَّامِ الْأَعْيَادِ بِأَنْوَاعِ مَا يَحْصُلُ بِهِ لَهُمْ بَسْطُ النَّفْسِ وَتَرْوِيحُ الْبَدَنِ مِنْ كَلَفِ الْعِبَادَةِ، كَمَا أَنَّ إِظْهَارَ السُّرُورِ فِي الْأَعْيَادِ شِعَارُ هَذَا الدِّينِ، وَاللَّعِبُ وَالزَّفْنُ فِي أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ مُبَاحٌ، فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، إِذَا كَانَ عَلَى النَّحْوِ الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي لَعِبِ الْحَبَشَةِ بِالسِّلَاحِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ الْمَرْءُ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ وَيَتَطَيَّبَ وَيَتَسَوَّكَ.

وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ.مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: دَعْهُمَا.فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا».وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا»، «وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ فِيهِ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.قَالَ: فَاذْهَبِي».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا، فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوَفْدِ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ».قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّجَمُّلَ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَانَ مَشْهُورًا.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ تَقْرِيرُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِعُمَرِ عَلَى أَصْلِ التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ وَقَصْرُ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَبِسَ مِثْلَ تِلْكَ الْحُلَّةِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَرِيرًا.

وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ- رضي الله عنهم- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَ حِبَرَةً فِي كُلِّ عِيدٍ».

وَعَنْ عَائِشَة- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ».

وَقَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي كُلِّ عِيدٍ، وَالْإِمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ؛ لِأَنَّهُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلاَّ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ لِيَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرُ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ.وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: طَاوُسٍ كَانَ يَأْمُرُ بِزِينَةِ الثِّيَابِ، وَعَطَاءٌ قَالَ: هُوَ يَوْمُ التَّخَشُّعِ وَاسْتَحْسَنَهُمَا جَمِيعًا، وَذُكِرَ اسْتِحْبَابُ خُرُوجِهِ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَمِنَ التَّوْسِعَةِ فِي الْعِيدَيْنِ، الْأُضْحِيَّةُ فِي عِيدِ الْأَضْحَى، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ.

ب- التَّوْسِعَةُ فِي رَمَضَانَ:

7- تُسْتَحَبُّ التَّوْسِعَةُ فِي رَمَضَانَ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَجْوَد النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَد مَا يَكُونُ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ- عليه السلام- يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ- عليه السلام- كَانَ أَجْوَد بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ».

وَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: صَدَقَةُ رَمَضَانَ».قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْجُودُ وَالْإِفْضَالُ مُسْتَحَبٌّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَبِالسَّلَفِ؛ وَلِأَنَّهُ شَهْرٌ شَرِيفٌ فَالْحَسَنَةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِصِيَامِهِمْ، وَزِيَادَةِ طَاعَتِهِمْ عَنِ الْمَكَاسِبِ، فَيَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى الْمُوَاسَاةِ.

ج- التَّوْسِعَةُ فِي عَاشُورَاءَ:

8- قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تُسْتَحَبُّ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَالِ وَالْأَهْلِ فِي عَاشُورَاءَ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ».

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ «اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمُخَالَفةُ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ»: وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَالِ آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ: أَعْلَى مَا فِيهَا حَدِيثُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ «وَهَذَا بَلَاغٌ مُنْقَطِعٌ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَتَوْسِيعُ النَّفَقَاتِ فِيهِ هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ.

د- التَّوْسِعَةُ فِي أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ:

9- أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً، فَأَمَّا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ، وَسَكَّنَ الظَّمَأَ فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَقْلًا وَشَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنَ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْحَوَاسِّ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ، وَيُمِيتُ النَّفْسَ، وَيُضْعِفُ الْعِبَادَةَ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ وَيَدْفَعُهُ الْعَقْلُ، وَلَيْسَ لِمَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ وَلَا نَصِيبٌ مِنْ زُهْدٍ؛ لِأَنَّ مَا حَرَّمَهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَعْظَمُ أَجْرًا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ حَرَامٌ، وَقِيلَ مَكْرُوهٌ.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.فَإِنَّ قَدْرَ الشِّبَعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَسْنَانِ (الْأَعْمَارِ) وَالطُّعْمَانِ.ثُمَّ قِيلَ: فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَصَحّ جِسْمًا، وَأَجْوَد حِفْظًا، وَأَزْكَى فَهْمًا، وَأَقَلّ نَوْمًا، وَأَخَفّ نَفْسًا.وَالْكَثْرَةُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ تُثْقِلُ الْمَعِدَةَ، وَتُثْبِطُ الْإِنْسَانَ عَنْ خِدْمَةِ رَبِّهِ، وَالْأَخْذِ بِحَظِّهِ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ.فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِمَّا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، رَوَى أَسَدُ بْنُ مُوسَى مِنْ حَدِيثِ «عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَكَلْتُ ثَرِيدًا بِلَحْمٍ سَمِينٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أَتَجَشَّأُ، فَقَالَ: اُكْفُفْ عَلَيْكَ مِنْ جُشَائِكَ أَبَا جُحَيْفَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُوعًا فَمَا أَكَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ بِمِلْءِ بَطْنِهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَكَانَ إِذَا تَغَدَّى لَا يَتَعَشَّى، وَإِذَا تَعَشَّى لَا يَتَغَدَّى».وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ». وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنَ التَّامُّ الْإِيمَانُ لِأَنَّ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَمُلَ إِيمَانُهُ كَأَبِي جُحَيْفَةَ تَفَكَّرَ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ مِنِ اسْتِيفَاءِ شَهَوَاتِهِ.

كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ «مَنْ كَثُرَ تَفَكُّرُهُ قَلَّ طَعْمُهُ، وَمَنْ قَلَّ تَفَكُّرُهُ كَثُرَ طَعْمُهُ وَقَسَا قَلْبُهُ».

وَقَالَ فِي الْفَتْحِ تَعْلِيقًا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا اطِّرَادُهُ فِي حَقِّ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَأْكُلُ كَثِيرًا إِمَّا بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَإِمَّا لِعَرَضٍ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مَرَضٍ بَاطِنٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ.

10- وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ القُرُبَاتِ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ يَسْتَوِي فِي الْمُبَاحَاتِ.قَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَقَصْرُ الْأَمَلِ فِيهَا، وَتَرْكُ التَّكَلُّفِ لِأَجْلِهَا، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَالْمَنْدُوبُ قُرْبَةٌ، وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَوْلُهُ: لَوْ شِئْنَا لَاتَّخَذْنَا صِلَاءً، وَصَلَائِقَ، وَصِنَابًا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَذُمُّ أَقْوَامًا فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}.

وَيُرْوَى صَرَائِقُ بِالرَّاءِ وَهُمَا جَمِيعًا الْجَرَادِقُ، وَالصَّلَائِقُ جَمْعُ صَلِيقَةٍ وَهِيَ اللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ، وَالصِّلَاءُ بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْمَدِّ الشِّوَاءُ، وَالصِّنَابُ الْخَرْدَلُ بِالزَّبِيبِ، وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ حُضُورِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِكُلْفَةٍ وَبِغَيْرِ كُلْفَةٍ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ طَعَامٍ مِنْ أَجْلِ طِيبِهِ قَطُّ بَلْ كَانَ يَأْكُلُ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ وَالْبِطِّيخَ وَالرُّطَبَ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ التَّكَلُّفَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَاغُلِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ مُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ، فَإِنَّ لَهُ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ.وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنَ عُمَرَ قَوْلٌ خَرَجَ عَلَى مَنْ خُشِيَ مِنْهُ إِيثَارُ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَشَقَاءُ النَّفْسِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَنِسْيَانُ الْآخِرَةِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا؛ وَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ: إِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الْعَجَمِ، وَاخْشَوْشِنُوا، وَلَمْ يُرِدْ- رضي الله عنه- تَحْرِيمَ شَيْءٍ أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَلَا تَحْظِيرَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ، وَقَوْلُ اللَّهِ أَوْلَى مَا امْتَثَلَ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ: قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ» وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ وَيَقُولُ: نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا، وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا».

وَالطِّبِّيخُ لُغَةٌ فِي الْبِطِّيخِ.وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «أَرَادَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّلَ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لَاخْتَصَيْنَا».

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَمَا شَابَهَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي مَعْنَاهَا رَدٌّ عَلَى غُلَاةِ الزَّاهِدِينَ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَطَالَةِ مِنَ الْمُتَصَوِّفِينَ؛ إِذْ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ قَدْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ وَحَادَ عَنْ تَحْقِيقِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمُنَاكَحِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ بِهَا بَعْضَ الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ؛ وَلِذَلِكَ «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- التَّبَتُّلَ عَلَى ابْنِ مَظْعُونٍ» فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ وَالْبِرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِ مَا نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَسَنَّهُ لأُِمَّتِهِ وَاتَّبَعَهُ عَلَى مِنْهَاجِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ آثَرَ لُبْسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَلَى لِبَاسِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ إِذَا قَدَرَ عَلَى لِبَاسِ ذَلِكَ مِنْ حِلِّهِ، وَآثَرَ أَكْلَ الْخَشِنِ مِنَ الطَّعَامِ وَتَرَكَ اللَّحْمَ وَغَيْرَهُ حَذَرًا مِنْ عَارِضِ الْحَاجَةِ إِلَى النِّسَاءِ.

قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْخَيْرَ فِي غَيْرِ الَّذِي قُلْنَا لِمَا فِي لِبَاسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ، وَصَرْفِ مَا فَضَلَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ صَلَاحُ نَفْسِهِ وَعَوْنُهُ لَهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهَا، وَلَا شَيْءَ أَضَرُّ لِلْجِسْمِ مِنَ الْمَطَاعِمِ الرَّدِيئَةِ؛ لِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِعَقْلِهِ وَمُضْعِفَةٌ لِأَدَوَاتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا إِلَى طَاعَتِهِ.

وَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقَالَ: لِي جَارٌ لَا يَأْكُلُ الْفَالُوذَجَ فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لَا يُؤَدِّي شُكْرَهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَفَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ جَارَك جَاهِلٌ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَالُوذَجِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمَا شَهْوَةُ الْأَشْيَاءِ اللَّذَّةُ وَمُنَازَعَةُ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الْأَنْوَاعِ الشَّهِيَّةِ، فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي تَمْكِينِ النَّفْسِ مِنْهَا مُخْتَلِفَةٌ.فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى صَرْفَ النَّفْسِ عَنْهَا وَقَهْرَهَا عَنِ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أَحْرَى لِيُذِلَّ قِيَادَهَا وَيَهُونَ عَلَيْهِ عِنَادُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَادَ يَصِيرُ أَسِيرَ شَهَوَاتِهِ وَمُنْقَادًا بِانْقِيَادِهَا.

وَقَالَ آخَرُونَ: تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنِ ارْتِيَاحِهَا وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ إِرَادَتِهَا.وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ التَّوَسُّطُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّ فِي عَطَائِهَا ذَلِكَ مَرَّةً وَمَنْعِهَا أُخْرَى جَمْعًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ غَيْرِ شَيْنٍ.

قَالَ جَابِرٌ: اشْتَهَى أَهْلِي لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ لَهُمْ، فَمَرَرْتُ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فَقَالَ مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَوَكُلَّمَا اشْتَهَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي بَطْنِهِ؟، أَمَا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ، فَإِنَّ تَعَاطِيَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِهُ لَهَا الطِّبَاعُ وَتَسْتَمْرِئُهَا الْعَادَةُ، فَإِذَا فَقَدَتْهَا اسْتَسْهَلَتْ فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ، حَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ وَحَمَاهُ مِنِ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ.

وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قِفَارًا (أَيْ بِلَا إِدَامٍ)، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ وَيَتَّخِذُهُ عَادَةً، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْكُلُ الْحَلْوَى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إِذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إِذَا تَيَسَّرَ وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا»، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ مَنْقُولَةٌ، فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ. وَقِيلَ: فِي مَعْنَى قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الْآيَةَ: وَاقِعٌ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ لَا عَلَى تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ الْمُحَلَّلَةِ، وَهُوَ حَسَنٌ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الطَّيِّبِ الْحَلَالِ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَإِذَا تَرَكَ الشُّكْرَ عَلَيْهِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَقَدْ أَذْهَبَهُ.

هـ- التَّوْسِعَةُ فِي اللِّبَاسِ:

11- يُسْتَحَبُّ لُبْسُ الثَّوْبِ الْحَسَنِ، وَالنَّعْلِ الْحَسَنِ، وَتَخَيُّرُ اللِّبَاسِ الْجَمِيلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ».

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ».

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَلَا شَكَّ أَنَّ لُبْسَ مَا فِيهِ جَمَالٌ زَائِدٌ مِنَ الثِّيَابِ يَجْذِبُ بَعْضَ الطِّبَاعِ إِلَى الزَّهْوِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ، وَقَدْ كَانَ هَدْيُهُ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ- أَنْ يَلْبَسَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ اللِّبَاسِ، الصُّوفَ تَارَةً، وَالْقُطْنَ أُخْرَى، وَالْكَتَّانَ تَارَةً، وَلَبِسَ الْبُرُودَ الْيَمَانِيَّةَ، وَالْبُرُدَ الْأَخْضَرَ، وَلَبِسَ الْجُبَّةَ، وَالْقَبَاءَ، وَالْقَمِيصَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَاَلَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ مِنَ الْمَلَابِسِ وَالْمَطَاعِمِ وَالْمُنَاكَحِ تَزَهُّدًا وَتَعَبُّدًا بِإِزَائِهِمْ طَائِفَةٌ قَابِلُوهُمْ فَلَا يَلْبَسُونَ إِلاَّ أَشْرَفَ الثِّيَابِ، وَلَمْ يَأْكُلُوا إِلاَّ أَطْيَبَ وَأَلْيَنَ الطَّعَامِ، وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ هَدْيُهُ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الشُّهْرَتَيْنِ مِنَ الثِّيَابِ الْعَالِيَ وَالْمُنْخَفِضَ، وَفِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ النَّارَ»» وَهَذَا لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الِاخْتِيَالَ وَالْفَخْرَ فَعَاقَبَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ.إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الْكِسْوَةَ فِيهَا فَرْضٌ: وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَالْأَوْلَى كَوْنُهُ مِنَ الْقُطْنِ، أَوِ الْكَتَّانِ، أَوِ الصُّوفِ عَلَى وِفَاقِ السُّنَّةِ بِأَنْ يَكُونَ ذَيْلُهُ لِنِصْفِ سَاقِهِ وَكُمُّهُ لِرُءُوسِ أَصَابِعِهِ، وَفَمُهُ قَدْرَ شِبْرٍ، كَمَا فِي «النُّتَفِ» بَيْنَ النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ إِذْ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا؛ وَلِلنَّهْيِ عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ وَهُوَ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ النَّفَاسَةِ وَالْخَسَاسَةِ.

وَمُسْتَحَبٌّ: وَهُوَ الزَّائِدُ لِأَخْذِ الزِّينَةِ وَإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ».وَمُبَاحٌ: وَهُوَ الثَّوْبُ الْجَمِيلُ لِلتَّزَيُّنِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ لَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُ صَلَفٌ وَخُيَلَاءُ، وَرُبَّمَا يَغِيظُ الْمُحْتَاجِينَ فَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْلَى، وَمَكْرُوهٌ: وَهُوَ اللُّبْسُ لِلتَّكَبُّرِ.ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْهِنْدِيَّةِ عَنِ السِّرَاجِيَّةِ: لُبْسُ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ مُبَاحٌ إِذَا لَمْ يَتَكَبَّرْ، وَتَفْسِيرُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَهَا.

و- التَّوسِعَةُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ:

12- حَضَّ الشَّارِعُ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ.قَالَ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: تُعْلَى وَتُبْنَى، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَحُضُّ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ.

ز- تَشْيِيدُ الْمَسَاجِدِ وَزَخْرَفَتُهَا:

13- قَالَ الْبَغَوِيّ: التَّشْيِيدُ: رَفْعُ الْبِنَاءِ وَتَطْوِيلُهُ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وَهِيَ الَّتِي طُوِّلَ بِنَاؤُهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ، الْمُجَصَّصَةُ، وَالزَّخْرَفَةُ، الزِّينَةُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزَّخْرَفَةِ، فَكَرِهَهَا قَوْمٌ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ، بَلْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنَ مَالِ الْمَسْجِدِ.وَأَبَاحَهَا آخَرُونَ، فَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَقَتَادَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهُونَ بِهَا ثُمَّ لَا يُعَمِّرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ.

قَالَ ابْنُ بِطَالٍ: كَأَنَّ عُمَرَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ «رَدِّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِخَمِيصَةَ إِلَى أَبِي جَهْمٍ مِنْ أَجْلِ الْأَعْلَامِ الَّتِي فِيهَا وَقَالَ: إِنَّهَا أَلْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي».

وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ الْمَسَاجِدِ، وَاَللَّهُ أَمَرَ بِتَعْظِيمِهَا فِي قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} يَعْنِي تُعَظَّمَ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ بَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِالسَّاجِ وَحَسَّنَهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ نَقَشَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَبَالَغَ فِي عِمَارَتِهِ وَتَزْيِينِهِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ قَبْلَ خِلَافَتِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنْفَقَ فِي عِمَارَةِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَفِي تَزْيِينِهِ مِثْلَ خَرَاجِ الشَّامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد- عليهما السلام- بَنَى مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَالَغَ فِي تَزْيِينِهِ.

قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَأَوَّلُ مَنْ زَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي أَوَاخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ، وَسَكَتَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِلْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يَقَعِ الصَّرْفُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا شَيَّدَ النَّاسُ بُيُوتَهُمْ وَزَخْرَفُوهَا نَاسَبَ أَنْ نَصْنَعَ ذَلِكَ بِالْمَسَاجِدِ صَوْنًا لَهَا عَنِ الِاسْتِهَانَةِ.

ح- تَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ:

14- تَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يُسْتَحَبُّ تَجْمِيرُ الْمَسْجِدِ بِالْبَخُورِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُجَمِّرِ يُجَمِّرُ الْمَسْجِدَ إِذَا قَعَدَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ تَجْمِيرَ الْمَسَاجِدِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ السَّلَفِ تَخْلِيقَ الْمَسَاجِدِ بِالزَّعْفَرَانِ وَالطِّيبِ، وَرُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- فِعْلُهُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ سُنَّةٌ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ طَلَا حِيطَانَهَا بِالْمِسْكِ.

ط- التَّوسِعَةُ فِي الْمَسْكَنِ:

15- أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْبِنَاءَ الرَّفِيعَ كَالْقُصُورِ وَنَحْوِهَا، لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}

وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ذُكِرَ أَنَّ ابْنًا لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بَنَى دَارًا وَأَنْفَقَ فِيهَا مَالًا كَثِيرًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ بِنَاءً يَنْفَعُهُ.وَرُوِيَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ».

وَمِنْ آثَارِ النِّعْمَةِ الْبِنَاءُ الْحَسَنُ وَالثِّيَابُ الْحَسَنَةُ.وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ.

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (كفاية)

كِفَايَة

التَّعْرِيفُ:

1- الْكِفَايَةُ لُغَةً: مِنْ كَفَى يَكْفِي كِفَايَةً.

وَمِنْ مَعَانِيهَا: مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيُقَالُ: اكْتَفَيْتُ بِالشَّيْءِ: أَيِ اسْتَغْنَيْتُ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ».

وَمِنْهَا: الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ.فَيُقَالُ: اسْتَكْفَيْتُهُ أَمْرًا فَكَفَانِيهِ: أَيْ قَامَ بِهِ مَقَامِي، وَيُقَالُ: كَفَاهُ الْأَمْرَ إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ فَهُوَ كَافٍ وَكَفِيٌّ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.

وَمِنْهَا: سَدُّ الْخُلَّةِ أَيِ الْحَاجَةِ وَبُلُوغُ الْأَمْرِ فِي الْمُرَادِ، فَيُقَالُ: كَفَاهُ مَئُونَتَهُ يَكْفِيه كِفَايَةً، وَمِنْهُ الْكَفِيَّةُ: وَهِيَ مَا يَكْفِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْعَيْشِ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ لِلْكِفَايَةِ عِدَّةُ اسْتِعْمَالَاتٍ مِنْهَا:

الْكِفَايَةُ بِمَعْنَى: الْأَفْعَالِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ وُجُودَهَا دُونَ النَّظَرِ إِلَى شَخْصِ فَاعِلِهَا، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ فُرُوضُ الْكِفَايَاتِ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ.

وَبِمَعْنَى: أَهْلِيَّةُ الشَّخْصِ لِلْقِيَامِ بِالْأَفْعَالِ الْمُهِمَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، كَالْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْوَظَائِفِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَقْصُودِ الْوِلَايَةِ وَوَسَائِلِ تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ.

وَبِمَعْنَى: سَدُّ الْحَاجَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِلشَّخْصِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَحَالِ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتِ الصِّلَةِ:

أ- الْكَفَافُ

2- الْكَفَافُ لُغَةً مِنْ كَفَّ بِمَعْنَى: تَرَكَ، يُقَالُ: كَفَّ عَنِ الشَّيْءِ كَفًّا: تَرَكَهُ، وَيُقَالُ: كَفَفْتُهُ كَفًّا: مَنَعْتُهُ، وَيُقَالُ: قُوتُهُ كَفَافٌ: أَيْ مِقْدَارُ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُفُّ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ وَيُغْنِي عَنْهُمْ، وَيُقَالُ: اسْتَكَفَّ وَتَكَفَّفَ إِذَا أَخَذَ بِبَطْنِ كَفِّهِ، أَوْ سَأَلَ كَفًّا مِنَ الطَّعَامِ، أَوْ مَا يَكُفُّ بِهِ الْجُوعَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَعَلَى ذَلِكَ عَرَّفَهُ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ: (مَا كَانَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَا يَفْضُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَكُفُّ عَنِ السُّؤَالِ).

وَيَخْتَلِفُ حَدُّ الْكَفَافِ فِي الْإِنْسَانِ عَنْ حَدِّ الْكِفَايَةِ، مِنْ أَنَّ حَدَّ الْكَفَافِ يَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ الْقُصْوَى مِنْ مَطْعَمٍ وَمَسْكَنٍ وَمَلْبَسٍ، أَمَّا حَدُّ الْكِفَايَةِ فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، مِنْ نِكَاحٍ وَتَعْلِيمٍ وَعِلَاجٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ، وَمَا يَتَزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَلَابِسَ وَحُلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ب- الْحَاجَةُ

3- الْحَاجَةُ لُغَةً: الِافْتِقَارُ إِلَى الشَّيْءِ وَالِاضْطِرَارُ إِلَيْهِ، جَمْعُهَا حَاجَاتٌ وَحَوَائِجُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْحَاجَةُ مَا يَفْتَقِرُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَبْقَى بِدُونِهِ.

وَعَرَّفَهَا عُلَمَاءُ الْأُصُولِ بِأَنَّهَا: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَلَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ- فِي الْجُمْلَةِ- الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ التَّضَادُّ.

الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ:

4- نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى حَاجَاتِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَطَلَبَ مِنَ النَّاسِ الْقِيَامَ بِهَا دُونَ النَّظَرِ إِلَى شَخْصِ مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَهِيَ تُسَمَّى (الْأَمْرَ الْكِفَائِيَّ)، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ لِذَلِكَ.

أَقْسَامُ الْأَمْرِ الْكِفَائِيِّ

الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الْأُمَّةِ كَمَا تُتَصَوَّرُ فِي الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ تُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالسُّنَنِ، وَلِذَلِكَ يَنْقَسِمُ الْأَمْرُ الْكِفَائِيُّ إِلَى: فَرْضِ كِفَايَةٍ، وَسُنَّةِ كِفَايَةٍ.

أ- فَرْضُ الْكِفَايَةِ:

5- فَرْضُ الْكِفَايَةِ هُوَ: أَمْرٌ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ لَا يَنْتَظِمُ الْأَمْرُ إِلاَّ بِحُصُولِهَا، قَصَدَ الشَّارِعُ حُصُولَهَا مِنْ مَجْمُوعِ الْمُكَلَّفِينَ لَا مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ.

وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَلِفُ عَنْ (فَرْضِ الْعَيْنِ)، وَهُوَ: مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ لَا يَسْقُطُ الْإِثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ.

وَأَهَمُّ وُجُوهِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا

أ- أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ، كَصَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُضُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمُهُ وَمُنَاجَاتُهُ وَالتَّذَلُّلُ إِلَيْهِ وَالْمُثُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالتَّفَهُّمُ لِخِطَابِهِ وَالتَّأَدُّبُ بِأَدَبِهِ، وَهَذِهِ مَصَالِحُ تَتَكَرَّرُ كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ الصَّلَاةُ فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ.

أَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَلَا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَنُزُولِ الْبَحْرِ لِإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ لَا تَتَكَرَّرُ بِنُزُولِ كُلِّ مُكَلَّفٍ، فَإِذَا أَنْقَذَ الْغَرِيقَ إِنْسَانٌ تَحَقَّقَتِ الْمَصْلَحَةُ بِنُزُولِهِ، وَالنَّازِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْبَحْرِ لَا تَحْصُلُ مِنْهُ مَصْلَحَةُ إِنْقَاذِ ذَلِكَ الْغَرِيقِ، فَجَعَلَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَى الْكِفَايَةِ نَفْيًا لِلْعَبَثِ فِي الْأَفْعَالِ.

ب- فَرْضُ الْعَيْنِ يُقْصَدُ مِنْهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فِي حِينِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ حُصُولُ الْفِعْلِ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْفَاعِلِ.

ج- فَرْضُ الْعَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِ مَصْلَحَةِ الْفَرْدِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ فِي مَجَالِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فِي حِينِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِ مَصْلَحَةِ الْمُجْتَمَعِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ.

د- فَرْضُ الْعَيْنِ يُطَالَبُ بِهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَا يَسْقُطُ الْإِثْمُ عَنِ التَّارِكِينَ لَهُ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ، لِبَقَاءِ التَّكْلِيفِ بِهِ عَلَى التَّارِكِينَ لَهُ، فِي حِينِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ عَنِ التَّارِكِينَ لَهُ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَكَانَ كَافِيًا.

ب- سُنَّةُ الْكِفَايَةِ:

6- سُنَّةُ الْكِفَايَةِ مِثْلُ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ مِنْ جَمَاعَةٍ وَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنْ سُنَّةِ الْعَيْنِ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصِيَامِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ وَالطَّوَافِ فِي غَيْرِ النُّسُكِ.

الْمَصَالِحُ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ

مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ مَا يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ وَهُوَ أَقْسَامٌ

أَوَّلًا: الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ

7- مِنْهَا الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ كَطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَصْنِيفِ كُتُبِهِ، وَحِفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَحِفْظِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْقَضَايَا الْمُسْتَجَدَّةِ.

وَمِنْهَا إِقَامَةُ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي جَمَاعَةٍ، وَالْأَذَانِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ، وَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالِاعْتِكَافِ وَإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَالْأُضْحِيَةِ.

وَمِنْهَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاسْتِنْقَاذُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَإِفْشَاءُ السِّلَامِ وَرَدُّهُ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.

ثَانِيًا: الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ

8- مِنْهَا الِاشْتِغَالُ بِالْعُلُومِ الْحَيَاتِيَّةِ وَتَعَلُّمُ أُصُولِ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ كَالصَّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ.

ثَالِثًا: الْمَصَالِحُ الْمُشْتَرَكَةُ

9- بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ تُوجَدُ مَصَالِحُ مُشْتَرَكَةٌ تَجْمَعُ بَيْنَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ طَلَبَ الشَّرْعُ مِنَ الْأُمَّةِ فِعْلَهَا.

مِنْهَا تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا، وَالْتِقَاطُ اللَّقِيطِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَغُسْلُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ، وَالْقِيَامُ بِالْوِلَايَاتِ وَالْوَظَائِفِ، وَبَيَانُهَا كَالتَّالِي:

أ- تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا

10- تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ: هُوَ الْعِلْمُ بِمَا يُشْهَدُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا كَانَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً، فَلَوِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ عَنِ التَّحَمُّلِ أَثِمُوا جَمِيعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ وَاحِدًا فَيَتَعَيَّنُ التَّحَمُّلُ فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، لِأَنَّ التَّحَمُّلَ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ وَيُخْشَى ضَيَاعُ الْحُقُوقِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَمْرَيْنِ: التَّحَمُّلَ وَالْأَدَاءَ.

وَأَمَّا أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْمُتَحَمِّلِ إِذَا طَلَبَهَا الْمُدَّعِي فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّلُونَ جَمَاعَةً، فَإِذَا امْتَنَعُوا أَثِمُوا جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَإِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّلُ وَاحِدًا تَعَيَّنَ الْأَدَاءُ فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَدَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (شَهَادَةٌ ف 5).

ب- الْتِقَاطُ اللَّقِيطِ

11- اللَّقِيطُ: هُوَ الطِّفْلُ الْمَنْبُوذُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَهُوَ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ فِي الشَّرْعِ الْإِسْلَامِيِّ تَسْتَحِقُّ الْحِفْظَ وَالرِّعَايَةَ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْتِقَاطَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ الْوَاجِدُونَ لَهُ جَمَاعَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاجِدُ فَرْدًا وَاحِدًا وَخَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ إِنْ تَرَكَهُ صَارَ الْتِقَاطُهُ فَرْضَ عَيْنٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَرْكُهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (لَقِيطٌ).

ج- عِيَادَةُ الْمَرِيضِ:

12- الْمَرِيضُ: هُوَ الَّذِي أُصِيبَ بِمَرَضٍ يُضْعِفُ جِسْمَهُ وَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُوَاسِيهِ وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ وَيَقُومُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَتَمْرِيضِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ لِحَدِيثِ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْعِيَادَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَرِيضِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَقَالَ بِهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَصَوَّبَهُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (عِيَادَةٌ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).

د- غُسْلُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَتَشْيِيعُهُ وَدَفْنُهُ:

13- غُسْلُ الْمَيِّتِ غَيْرِ الشَّهِيدِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ فَمَاتَ-: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف 2).

وَأَمَّا تَكْفِينُ الْمَيِّتِ غَيْرِ الشَّهِيدِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا».

وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَكْفِينٌ ف 2، 3).

وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي (جَنَائِزُ ف 20).

وَأَمَّا تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِحَدِيثِ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ...وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ».

وَالتَّفْصِيلُ فِي (جَنَائِزُ ف 14).

وَأَمَّا دَفْنُ الْمَيِّتِ فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.

بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (دَفْنٌ ف 2).

الْكِفَايَةُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْوَظَائِفِ

14- الْوِلَايَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْإِنْسَانِ لِتَنْظِيمِ مَا يَنْشَأُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ تَعَاوُنٍ، وَمَنْعِ التَّظَالُمِ، وَحِفْظِ الْحُقُوقِ لِأَصْحَابِهَا، وَإِعَانَةِ الضَّعِيفِ وَحِمَايَتِهِ، وَوَقْفِ الْمُعْتَدِي عَنْ عُدْوَانِهِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ تَنْصِيبُ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».

الْمُكَلَّفُ بِتَحْقِيقِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى

15- إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ سَقَطَ الْإِثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ حُرِّجَ النَّاسُ جَمِيعًا، وَيُطَالَبُ بِهَا فَرِيقَانِ مِنَ النَّاسِ هُمَا: أ- أَهْلُ الِاخْتِيَارِ، أَوْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ: وَهُمُ الَّذِينَ يَنُوبُونَ عَنِ الْأُمَّةِ فِي اخْتِيَارِ الْخَلِيفَةِ.

ب- أَهْلُ الْإِمَامَةِ: وَهُمُ الَّذِينَ تَوَافَرَتْ فِيهِمُ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْإِمَامَةِ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْوِلَايَاتِ الْأُخْرَى وَالْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (إِمَارَةٌ ف 4، وَإِمَامَةُ الصَّلَاةِ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَالْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 6 وَمَا بَعْدَهَا، وَقَضَاءٌ، وَفَتْوَى).

الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الْأَفْرَادِ الْخَاصَّةِ:

16- تَكُونُ كِفَايَةُ الْإِنْسَانِ بِسَدِّ حَاجَاتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهِيَ مَا يَدْفَعُ عَنِ الْإِنْسَانِ الْهَلَاكَ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَحَالِ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ.

وَتَوْفِيرُ حَدِّ الْكِفَايَةِ لِلْأَفْرَادِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَذَلِكَ عَلَى الْفَرْدِ نَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ عَلَى أَقَارِبِهِ ثُمَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَتَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا قِوَامُ الْعَيْشِ وَسَدَادُ الْخُلَّةِ مُعْتَبَرٌ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.

أ- تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ مِنْ قِبَلِ الْفَرْدِ نَفْسِهِ:

17- بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ جُبِلَ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِنَفْسِهِ وَتَوْفِيرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ بَيَّنَتْ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَحُدُودَهَا عَلَى النَّفْسِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا»،، وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا».

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ أَوِ الْقَادِرَ عَلَى الْعَمَلِ يُكَلَّفُ بِالْقِيَامِ بِسَدِّ حَاجَاتِهِ الْأَصْلِيَّةِ بِنَفْسِهِ وَلَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ قَوِيٍّ».

ب- تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ مِنْ قِبَلِ الْأَقَارِبِ:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ الْوَاجِبَةَ عَلَى قَرِيبِهِ هِيَ نَفَقَةُ كِفَايَةٍ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ وَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهِنْدِ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»،، فَيَجِبُ لَهُ بِذَلِكَ الْمَأْكَلُ وَالْمَشْرَبُ وَالْمَلْبَسُ وَالسُّكْنَى وَالرَّضَاعُ إِنْ كَانَ رَضِيعًا وَالْخَادِمُ إِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَةٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نَفَقَةٌ).

ج- تَوْفِيرُ كِفَايَةِ الزَّوْجَةِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ فِي مِقْدَارِهَا لِقَوْلِهِ لِهِنْدَ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْمُوسِرِ لِزَوْجَتِهِ مُدَّانِ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ مُدٌّ وَاحِدٌ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ وَجَبَ اللاَّئِقُ بِالزَّوْجِ، وَيَجِبُ أُدْمُ غَالِبِ الْبَلَدِ وَكِسْوَةٌ تَكْفِيهَا، وَمَا تَقْعُدُ عَلَيْهِ أَوْ تَنَامُ عَلَيْهِ، وَإِخْدَامُهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهَا خِدْمَةُ نَفْسِهَا، وَيَجِبُ مَسْكَنٌ يَلِيقُ بِهَا، وَيَجِبُ فِي الْمَسْكَنِ إِمْتَاعٌ لَا تَمْلِيكٌ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَفَقَةٌ).

طُرُقُ تَوْفِيرِ الْكِفَايَةِ:

تَتَعَدَّدُ طُرُقُ تَوْفِيرِ الْكِفَايَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ الزَّكَاةِ:

20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُعْطَى أَقَلَّ مِنَ النِّصَابِ، فَإِذَا أُعْطِيَ نِصَابًا جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ نِصَابًا، لِأَنَّ الْغِنَى قَارَنَ الْأَدَاءَ فَكَأَنَّ الْأَدَاءَ حَصَلَ لِلْغِنَى وَهُوَ لَا يَجُوزُ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبَ الْعِيَالِ بِحَيْثُ لَوْ فُرِّقَ عَلَيْهِمْ لَا يَخُصُّ كُلًّا مِنْهُمْ نِصَابًا وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ وَالْبَغَوِيِّ إِلَى أَنَّهُ يُعْطَى مَا يَكْفِيهِ مُدَّةَ سَنَةٍ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ فَيَحْصُلُ كِفَايَتُهُ مِنْهَا سَنَةً بِسَنَةٍ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ- وَهِيَ الْمَذْهَبُ- وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُعْطَى كِفَايَةَ الْعُمْرِ الْغَالِبِ بِحَيْثُ يَخْرُجُ مِنَ الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى وَلَا يَرْجِعُ إِلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مَرَّةً أُخْرَى.

ب- تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ بَيْتِ الْمَالِ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ كِفَايَتِهَا أَوْ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا كَفُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُصْرَفُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

ج- تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ تَوْظِيفِ الضَّرَائِبِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ فَرْضَ ضَرَائِبَ عَلَى الْقَادِرِينَ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَلِسَدِّ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ القرطبي: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهَا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (ولاية 3)

وِلَايَـة -3

مَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا لَا يَجُوزُ:

55- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ إِلاَّ عَلَى النَّظَرِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَبِمَا فِيهِ حَظٌّ لَهُ وَاغْتِبَاطٌ لِحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».

وَقَدْ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ:

56- إِنَّ مَا لَا حَظَّ لِلْمَحْجُورِ فِيهِ كَالْهِبَةِ بِغَيْرِ الْعِوَضِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُعَاوَضَةِ لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا تَبَرَّعَ بِهِ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ، أَوْ حَابَى بِهِ أَوْ مَا زَادَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْمَعْرُوفِ أَوْ دَفَعَهُ لِغَيْرِ أَمِينٍ، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ ضَرَرًا مَحْضًا.

أَمَّا الْهِبَةُ بِعِوَضٍ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَ بِهَا، لِأَنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَهً فِي الِانْتِهَاءِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ فَلَمْ تَنْعَقِدْ هِبَتُهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ لَهُ أَنْ يَهَبَ بَعِوَضٍ، لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ.

57- لِلْوَلِيِّ مُطْلَقًا الِاتِّجَارُ بِمَالِ الْمَحْجُورِ، وَلَهُ دَفْعُهُ لِغَيْرِهِ مُضَارَبَةً بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ رِبْحِهِ، وَكَذَا بَيْعُهُ نَسِيئَةً لِمَصْلَحَتِهِ، وَإِيدَاعُهُ عِنْدَ أَمِينٍ ثِقَةٍ عِنْدَ قِيَامِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ.وَلَهُ شِرَاءُ عَقَارٍ لَهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِأَقَلَّ لِاسْتِغْلَالِهِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا أَنَّ لَهُ بَيْعَ عَقَارِهِ وَمَنْقُولِهِ وَإِجَارَتَهُ لِلْغَيْرِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِمَا فِيهِ حَظٌّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ الْغَيْرَ بِذَلِكَ.

58- أَمَّا إِقْرَاضُ مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِقْرَاضُهُ لِلْغَيْرِ وَلَا اقْتِرَاضُهُ لِنَفْسِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ مَالَهُ، لِأَنَّ الْقَرْضَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لِلْحَالِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْرِضُ مَالَ الْيَتِيمِ.وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْإِقْرَاضَ مِنَ الْقَاضِي مِنْ بَابِ حِفْظِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ تَوَى الدَّيْنِ بِالْإِفْلَاسِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَخْتَارُ أَمْلَى النَّاسِ وَأَوْثَقَهُمْ، وَلَهُ وِلَايَةُ التَّفَحُّصِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَيَخْتَارُ مَنْ لَا يَتَحَقَّقُ إِفْلَاسُهُ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا، وَكَذَا الْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْتَوَى بِالْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْقَاضِي هَذِهِ الْوِلَايَةُ، فَبَقِيَ الْإِقْرَاضُ مِنَ الْوَلِيِّ إِزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ فَكَانَ ضَرَرًا فَلَا يَمْلِكُهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ إِقْرَاضُ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنْ خَافَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ، أَوْ أَرَادَ سَفَرًا وَخَافَ عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ إِقْرَاضُهُ مِنْ ثِقَةٍ مَلِيءٍ، لِأَنَّ غَيْرَ الثِّقَةِ يَجْحَدُ، وَغَيْرَ الْمَلِيءِ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ الْبَدَلِ مِنْهُ.

فَإِنْ أَقْرَضَ وَرَأَى أَخْذَ الرَّهْنِ عَلَيْهِ أَخَذَ، وَإِنْ رَأَى تَرْكَ الرَّهْنِ لَمْ يَأْخُذْ.وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْإِيدَاعِ وَالْإِقْرَاضِ فَالْإِقْرَاضُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ بِالْبَدَلِ، وَالْوَدِيعَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَكَانَ الْقَرْضُ أَحْوَطَ.

وَقَالُوا: أَمَّا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ لَهُ إِقْرَاضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَخِلَافًا لِلسُّبْكِيِّ بِشَرْطِ يَسَارِ الْمُقْتَرِضِ وَأَمَانَتِهِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِهِ إِنْ سَلِمَ مِنْهَا مَالُ الْمَحْجُورِ، وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ رَهْنًا إِنْ رَأَى ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لَهُ قَرْضُهُ وَلَوْ بِلَا رَهْنٍ لِمَصْلَحَةٍ، بِأَنْ أَقْرَضَهُ لِمَلِيءٍ يَأْمَنُ جُحُودَهُ، خَوْفًا عَلَى الْمَالِ لِسَفَرٍ وَنَحْوِهِ.وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ كَفِيلًا أَوْ رَهْنًا إِنْ أَمْكَنَهُ احْتِيَاطًا.

59- كَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُطَالِبَ بِحُقُوقِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ، فَيَدَّعِي بِهَا وَيُقِيمُ الْبَيِّنَاتِ، وَيَحْلِفُ الْخَصْمُ إِنْ أَنْكَرَهَا، وَيُصَالِحُ بِدَفْعِ بَعْضِ مَا عَلَى الْمَحْجُورِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ إِذَا كَانَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَيَقْبِضُ بَعْضَ مَا لِلْمَحْجُورِ إِنْ لَمْ تَكُنْ بِهِ بَيِّنَةٌ.

60- أَمَّا شِرَاءُ الْوَلِيِّ مَالَ الْمَحْجُورِ لِنَفْسِهِ أَوْ بَيْعُ مَالِهِ لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا لِلْوَلَدِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِلْأَبِ وَالْجَدِّ فَقَطْ بَيْعُ مَالِ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ وَبَيْعُ مَالِهِ لِلصَّغِيرِ، لِأَنَّهُمَا لَا يُتَّهَمَانِ فِي ذَلِكَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي طَلَبِ الْحَظِّ لَهُ فِي بَيْعِ مَالِهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ وَلِيُّ الْمَحْجُورِ مِنْ مَالِ الْمَحْجُورِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ، إِلاَّ الْأَبُ فَإِنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيَلِي طَرَفَيِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ يَلِي بِنَفْسِهِ، وَالتُّهْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، إِذْ مِنْ طَبْعِهِ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ، وَتَرْكُ حَظِّ نَفْسِهِ لِحَظِّهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْأَبِ شِرَاءُ مَالِ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ وَبَيْعُ مَالِهِ لِوَلَدِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَإِنِ اشْتَرَى مَالَ وَلَدِهِ فَلَا يَبْرَأُ عَنِ الثَّمَنِ حَتَّى يُنَصِّبَ الْقَاضِي لِوَلَدِهِ وَصِيًّا يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ لِيَحْفَظَهُ لِلصَّغِيرِ، دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنِ الْأَبِ.وَإِنْ بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ لِوَلَدِهِ، فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ حَقِيقَةً، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ بِأَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَلَمْ يَحْضُرْ لِتَسَلُّمِهِ بِالنِّيَابَةِ عَنْ وَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْوَلَدِ.وَيَجُوزُ لِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَبِيعَ مَالَ نَفْسِهِ لِلْيَتِيمِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مَالَ الْيَتِيمِ إِنْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا لَهُ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ، فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالْخَيْرِيَّةُ فِي الْعَقَارِ: فِي الشِّرَاءِ التَّضْعِيفُ، وَفِي الْبَيْعِ التَّنْصِيفُ، وَفِي غَيْرِ الْعَقَارِ أَنْ يَبِيعَ مَا يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ بِعَشَرَةٍ مِنَ الصَّغِيرِ، وَيَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ.

وَلَا يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْقَاضِي أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَلَا أَنْ يَبِيعَ مَالَ نَفْسِهِ لِلْيَتِيمِ مُطْلَقًا.

61- أَمَّا أَكْلُ الْوَلِيِّ مِنْ مَالِ مُوَلِّيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ إِذَا عَمِلَ أُجْرَةَ مِثْلِ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا اسْتِحْسَانًا، وَإِلاَّ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ إِذَا كَانَ غَنِيًّا لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} أَمَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُ كِفَايَتِهِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَسْتَحِقُّ الْوَلِيُّ فِي مَالِ مَحْجُورِهِ نَفَقَةً وَلَا أُجْرَةً، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا وَشُغِلَ بِسَبَبِهِ عَنِ الِاكْتِسَابِ أَخَذَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأُجْرَةِ وَالنَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ، لقوله تعالى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.

وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَالِ مَنْ لَا تُمْكِنُ مُوَافَقَتُهُ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَعَامِلِ الصَّدَقَاتِ.وَكَالْأَكْلِ غَيْرُهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمُؤَنِ.وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَلِيِّ غَيْرِ الْحَاكِمِ، أَمَّا هُوَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ وِلَايَتِهِ بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِلْوَلِيِّ غَيْرِ الْحَاكِمِ وَأَمِينِهِ الْأَكْلُ لِحَاجَةٍ مِنْ مَالِ مُوَلِّيهِ: الْأَقَلُّ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ كِفَايَتُهُ، أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ إِذَا فَرَضَ الْحَاكِمُ لَهُ شَيْئًا.أَمَّا الْحَاكِمُ وَأَمِينُهُ فَلَا يَأْكُلَانِ شَيْئًا مِنْهُ لِاسْتِغْنَائِهِمَا بِمَا لَهُمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.

وَمَنَعَ الْجَصَّاصُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْوَلِيَّ مِنَ الْأَكْلِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَطْلَقًا لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} وَحَمَلَ الْأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ الْوَارِدَ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى أَكْلِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِالْمَعْرُوفِ لِئَلاَّ يَحْتَاجَ إِلَى مَالِ الْيَتِيمِ.

62- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْمُجِيزُونَ لِلْوَلِيِّ الْفَقِيرِ الْأَكْلَ مِنْ مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ هَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّ بَدَلِ مَا أَكَلَ عِنْدَ يَسَارِهِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ بَدَلِهِ مُطْلَقًا، كَالْأَجِيرِ وَالْمُضَارِبِ وَكَالرِّزْقِ الَّذِي يَأْكُلُهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ: يَضْمَنُ عِوَضَهُ فِي ذِمَّتِهِ، لِأَنَّهُ مَالٌ لِغَيْرِهِ أُجِيزَ لَهُ أَكْلُهُ لِلْحَاجَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى مَالِ غَيْرِهِ فِي مَخْمَصَةٍ.

63- وَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِمَالِ الْمَحْجُورِ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَضَى الْوَصِيُّ دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ، وَالْأَبُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ، لأَنَّ الْأَبَ لَوْ بَاعَ مَالَ الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ جَازَ، وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ.

64- وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عَلَى الْوَلِيِّ الْإِنْفَاقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى مُوَلِّيهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ قَتَّرَ أَثِمَ، وَإِنْ أَسْرَفَ أَثِمَ وَضَمِنَ لِتَفْرِيطِهِ.

تَنْمِيَةُ الْوَلِيِّ مَالَ الْيَتِيم

65- تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ تَثْمِيرِ مَالِ الْيَتِيمِ وَتَنْمِيَتِهِ مِنْ قِبَلِ الْوَلِيِّ عَلَى مَالِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَيُنَمِّيَهُ لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُحُ لِلْيَتِيمِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي إِبْقَاءِ أَمْوَالِهِ بِدُونِ اسْتِثْمَارٍ، أَمَّا أَنْ يَتَسَلَّفَهَا وَيَتَّجِرَ فِيهَا لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ أَنَّهَا Bمُقَيَّدَةٌ بِمَصْلَحَتِهِ، وَعَلَى مِحْوَرِ هَذَا الْأَصْلِ تَدُورُ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ.

قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَهُمْ، إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَأْذُونًا، فَلَا أَرَى عَلَيْهِ ضَمَانًا.وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه- قَالَ: ابْتَغَوْا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، لَا تَأْكُلْهَا الصَّدَقَةُ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: فَهَذَا إِذْنٌ مِنْهُ فِي إِدَارَتِهَا وَتَنْمِيَتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاظِرَ لِلْيَتِيمِ إِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ لَهُ، فَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ يُنَمِّيَ مَالَهُ وَيُثْمِرَهُ لَهُ، وَلَا يُثْمِرَهُ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَنْظُرُ لِلْيَتِيمِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ لِلْيَتِيمِ، وَإِلاَّ فَلْيَدْفَعْهُ إِلَى ثِقَةٍ يَعْمَلُ فِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كَمَا أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ لِغَيْرِهِ مُضَارَبَةً، وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مُضَارَبَةً أَيْضًا بِحِصَّةٍ شَائِعَةٍ مِنَ الرِّبْحِ.فَإِنْ جَعَلَ مَالَهُ مُضَارَبَةً عِنْدَ نَفْسِهِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ يَحِلُّ لَهُ الرِّبْحُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ.وَكَذَا إِذَا شَارَكَهُ وَرَأْسُ مَالِهِ أَقَلُّ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، فَإِنْ أَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ يَحُلُّ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ، وَيَجْعَلُ الرِّبْحَ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِلْوَلِيِّ مُطْلَقًا الِاتِّجَارُ بِمَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَمْرٍو - رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» وَلِأَنَّهُ أَحَظُّ لَهُ، وَيَكُونُ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ رِبْحُهُ كُلُّهُ، لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ إِلاَّ بِعَقْدٍ.وَلَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ.غَيْرَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ دَفْعَ مَالِهِ إِلَى أَمِينٍ يَتَّجِرُ بِهِ مُضَارَبَةً بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنْ رِبْحِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها- أَنَّهَا «كَانَتْ تُعْطِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى الَّذِينَ فِي حِجْرِهَا مَنْ يَتَّجِرُ لَهُمْ فِيهَا»، وَلِنِيَابَةِ الْوَلِيِّ عَنْ مَحْجُورِهِ فِي كُلِّ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، وَهَذَا مَصْلَحَةٌ لَهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِبْقَاءِ مَالِهِ، وَحِينَئِذٍ Bفَلِلْعَامِلِ مَا شُورِطَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّبْحِ.

وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِذَلِكَ لِغَيْرِهِ، فَجَازَ لَهُ أَخْذُهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَنْمِيَةُ مَالِ الصَّبِيِّ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْمُبَالَغَةُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلْجَصَّاصِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ: وَهُوَ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.وَاسْتَدَلَّ الْجَصَّاصُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}.قَالَ - رحمه الله-: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِالتِّجَارَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ النَّدْبُ وَالْإِرْشَادُ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَيُسْتَحَبُّ التِّجَارَةُ بِمَالِ الْيَتِيمِ لِقَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ «اتَّجِرُوا بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى، كَيْلَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» النَّوْعُ الثَّانِي: الْوِلَايَةُ عَلَى النَّفْسِ

66- الولاية عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: سُلْطَةٌ عَلَى شُؤُونِ الْقَاصِرِ وَنَحْوِهِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَخْصِهِ وَنَفْسِهِ، كَالتَّزْوِيجِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّطْبِيبِ وَالتَّشْغِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، تَقْتَضِي تَنْفِيذَ الْقَوْلِ عَلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى.

وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ أَسْبَابَ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ ثَلَاثَةٌ: الصِّغَرُ، وَالْجُنُونُ وَيَلْحَقُ بِهِ الْعَتَهُ وَالْأُنُوثَةُ.

السَّبَبُ الْأَوَّلُ الصِّغَرُ:

مِحْوَرُ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِ الصَّغِيرِ يَدُورُ عَلَى أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْقِيَامُ عَلَى شُؤُونِهِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّطْبِيبِ وَالتَّشْغِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ثَانِيهُمَا: وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ.

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: وِلَايَةُ التَّرْبِيَةِ وَالتَّأْدِيبِ

67- إِنَّ مَنْشَأَ الْوِلَايَةِ عَلَى تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ وَتَأْدِيبِهِمْ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا مَسْؤُولِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِمْ وَرِعَايَةِ حَالِهِمْ Bفِي شُؤُونِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، لقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».وَقَوْلُه - عليه الصلاة والسلام-: «أَلاَّ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ عَلَى الْأَبِ تَأْدِيبَ وَلَدِهِ وَتَعْلِيمَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ وَظَائِفِ الدِّينِ، وَهَذَا التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَى الْأَبِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ.

فَالطِّفْلُ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ نَقْشٍ، وَقَابِلٌ لِكُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ، وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ إِهْمَالَ الْبَهَائِمِ شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ عَلَيْهِ وَالْوَالِي لَهُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ»، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رضي الله عنه-: أَدِّبِ ابْنَكَ فَإِنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ: مَاذَا أَدَّبْتَهُ، وَمَاذَا عَلَّمْتَهُ؟ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ وَطَوَاعِيَتِهِ لَكَ.بَلْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْأَلُ الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَا أَفْسَدَ الْأَبْنَاءَ مِثْلُ إِهْمَالِ الْآبَاءِ فِي تَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يُصْلِحُ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتَهُمْ، وَتَفْرِيطِهِمْ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَزَجْرِهِمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى شَهَوَاتِهِمْ، يَحْسَبُ الْوَالِدُ أَنَّهُ يُكْرِمُهُ بِذَلِكَ وَقَدْ أَهَانَهُ، وَأَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَقَدْ ظَلَمَهُ وَحَرَمَهُ، فَفَاتَهُ انْتِفَاعُهُ بِوَلَدِهِ، وَفَوَّتَ عَلَيْهِ حَظَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَدْ أَكَّدَ ثُبُوتَ هَذِهِ الْوِلَايَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا Bبَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَاضِحٌ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ فِي الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالضَّرْبِ عَلَيْهَا.

وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَمْرُهُ بِهَا لِتَمَامِ سَبْعِ سِنِينَ، وَتَعْلِيمُهُ إِيَّاهَا، وَضَرْبُهُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، لِيَتَخَلَّقَ بِفِعْلِهَا وَيَعْتَادَهَا- لَا لِافْتِرَاضِهَا عَلَيْهِ- كَمَا يَلْزَمُهُ كَفُّهُ عَنِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا، لِيَنْشَأَ عَلَى الْكَمَالِ وَكَرِيمِ الْخِلَالِ.

وَمِنْ ثَمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي عَلَى تَأْدِيبِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ بِأَمْرِهِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهَا، وَنَهْيِهِ عَنِ اقْتِرَافِ الْمَحْظُورَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَتَأْدِيبِهِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ تَعْوِيدًا لَهُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرِّ، ثُمَّ بِزَجْرِهِ عَنْ سَيِّءِ الْأَخْلَاقِ وَقَبِيحِ الْعَادَاتِ- وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعْصِيَةٌ- اسْتِصْلَاحًا قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَأْمُرُهُ الْوَلِيُّ بِحُضُورِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ وَبِالسِّوَاكِ وَسَائِرِ الْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ، وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْخَمْرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشِبْهِهَا.قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَالَ الْأَئِمَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالشَّرَائِعَ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ، وَضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ.

وَعِلَّةُ ذَلِكَ- كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ- أَنَّ الصَّبِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا، فَوَلِيُّهُ مُكَلَّفٌ، لَا يَحِلُّ لَهُ تَمْكِينُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّهُ يَعْتَادُهُ، وَيَعْسُرُ فِطَامُهُ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

68- عَلَى أَنَّ تَأْدِيبَ الصَّغِيرِ إِنَّمَا يَبْدَأُ بِالْقَوْلِ، ثُمَّ بِالْوَعِيدِ، ثُمَّ بِالتَّعْنِيفِ، ثُمَّ بِالضَّرْبِ.وَهَذَا التَّرْتِيبُ تَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ، فَلَا يَرْقَى إِلَى مَرْتَبَةٍ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا يَفِي بِالْغَرَضِ، وَهُوَ الْإِصْلَاحُ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَمَهْمَا حَصَلَ التَّأْدِيبُ بِالْأَخَفِّ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، لَمْ يُعْدَلْ إِلَى الْأَغْلَظِ، إِذْ هُوَ مَفْسَدَةٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِمَا دُوْنَهُ.

كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الضَّرْبِ عِنْدَ مَشْرُوعِيَّةِ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ تَحْقِيقُهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوَّةِ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا شَاقٍّ، وَأَنْ يَتَوَقَّى فِيهِ الْوَجْهَ وَالْمَوَاضِعَ الْمُهْلِكَةَ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَعَ رُجْحَانِ مَصَالِحِهَا عَلَى مَفَاسِدِهَا: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ.فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ لَا يُصْلِحُهُ إِلاَّ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ، فَهَلْ يَجُوزُ ضَرْبُهُ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ تَأْدِيبِهِ؟ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، لِأَنَّ الضَّرْبَ الَّذِي لَا يُبْرِّحُ مَفْسَدَةٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى مَصْلَحَةِ التَّأْدِيبِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّأْدِيبُ بِهِ، سَقَطَ الضَّرْبُ الْخَفِيفُ كَمَا يَسْقُطُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، لِأَنَّ الْوَسَائِلَ تَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَقَاصِدِ.

ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا جَوَازَ ضَرْبِ الْوَلَدِ حَيْثُ لَزِمَ ضَرْبُهُ بِأَنْ يَكُونَ بِالْيَدِ فَقَطْ، فَلَا يَضْرِبُهُ الْوَلِيُّ بِغَيْرِهَا مِنْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا.وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ بِضَرْبِهِ الثَّلَاثَ.

69- وَإِذَا ضَرَبَ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ أَوِ الْوَصِيُّ الصَّبِيَّ تَأْدِيبًا، فَهَلَكَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ.

وَيُنْظَرُ فِي تَفْصِيلِهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَأْدِيب ف9 11.

70- وَمِنْ مُوجِبَاتِ وِلَايَةِ تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: مُدَاوَاةُ الصَّغِيرِ وَرِعَايَتُهُ الصِّحِّيَّةُ، وَنَظْمُهُ فِي سِلْكِ تَعْلِيمِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ أَوِ الْحَرْفِ وَالصَّنَائِعِ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ مِنْ مَالِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِ، فَأَشْبَهَ ثَمَنَ مَأْكُولِهِ وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَالِهِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ، مِنْ أَجْلِ تَهْيِئَتِهِ وَتَأْهِيلِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِجَارَة ف 24، وَصِغَر ف 39.

الْأَمْرُ الثَّانِي وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ

71- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ تَزْوِيجِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ.

وَأَمَّا هَلْ يُزَوِّجُ الْوَلِيُّ غَيْرُ الْأَبِ الصَّغِيرَ أَوِ الصَّغِيرَةَ؟ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ تَزْوِيجَهُمَا إِلاَّ أَنَّ لَهُمَا الْخِيَارَ إِذَا بَلَغَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، الَّذِي يَرَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا لَوْ زَوَّجَهُمَا الْأَبُ وَالْجَدُّ.

وَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ لِلْوَصِيِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِ إِنْكَاحُهُمَا.

وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: قِيَاسُ غَيْرِ الْأَبِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمَوْجُودَ فِيهِ الَّذِي جَازَ لِلْأَبِ بِهِ أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَ مِنْ وَلَدِهِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْأَبِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ أَجَازَ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وِلَايَةَ تَزْوِيجِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نِكَاح ف 81 85)

السَّبَبُ الثَّانِي الْجُنُونُ

72- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ تَدْبِيرُ شُئُونِهِ وَرِعَايَةُ أُمُورِهِ بِمَا فِيهِ حَظُّ الْمَجْنُونِ، وَبِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَتَهُ، فَيُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَوَائِجِهِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُدَاوِيهِ وَيَرْعَى صِحَّتَهُ، وَيُقَيِّدُهُ وَيَحْجِزُهُ عَنْ أَنْ يَنَالَ النَّاسَ بِالْأَذَى أَوْ يَنَالُوهُ بِهِ إِنْ خِيفَ ذَلِكَ مِنْهُ، صَوْنًا لَهُ، وَحِفْظًا لِلْمُجْتَمَعِ مِنْ ضَرَرِهِ.

73- وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ تَزْوِيجَهُ إِذَا اقْتَضَتْ مُصْلِحَتُهُ ذَلِكَ.

قَالَ الشِّيرَازِيُّ: وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَالُ إِفَاقَةٍ لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِئْذَانُهُ فَلَا يَجُوزُ الِافْتِيَاتُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالُ إِفَاقَةٍ وَرَأَى الْوَلِيُّ تَزْوِيجَهُ لِلْعِفَّةِ أَوِ الْخِدْمَةِ زَوَّجَهُ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ مَصْلَحَةً.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، اُنْظُرْ مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 81 وَمَا بَعْدَهَا).

السَّبَبُ الثَّالِثُ الْأُنُوثَةُ

74- مِنْ أَسْبَابِ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ: الْأُنُوثَةُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُرْتَبِطَةً بِصِغَرٍ أَوْ آفَةٍ مِنَ آفَاتِ الْعَقْلِ، لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.

وَتَنْحَصِرُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي أَمْرَيْنِ: فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ، وَفِي تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ النُّشُوزِ.

أولا: وِلَايَةُ التَّزْوِيجُ

وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ تَنْقَسِمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلَى قِسْمَيْنِ: وِلَايَةُ إِجْبَارٍ، وَوِلَايَةُ اخْتِيَارٍ.

(أ) - وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ:

75- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَّةِ وِلَايَةِ الِاخْتِيَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(الْأَوَّلُ) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّ عِلَّةَ وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ هِيَ الْبَكَارَةُ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وَتَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا كَالصَّغِيرَةِ.

(الثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ عِلَّةَ الْإِجْبَارِ هِيَ الصِّغَرُ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إِنَّمَا ثَبَتَتْ لِقُصُورِ الْعَقْلِ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ يَكْمُلُ الْعَقْلُ بِدَلِيلِ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمَا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيَّمٍ الْجَوْزِيَّةِ. (ر: نِكَاح ف 80 85

(ب) وِلَايَةُ الِاخْتِيَارِ:

76- وِلَايَةُ الِاخْتِيَارِ هِيَ وِلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ عَلَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نِكَاح ف 86، 90

وِلَايَةُ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِ نَفْسِهَا:

77- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلَايَةِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ الْعَامِلَةِ فِي تَزْوِيجِ نَفْسِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا تَوْكِيلَ غَيْرِ وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا، فَإِنْ فَعَلَتْ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ.

الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ Bشَرْطًا لِصِحَّةِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَوَلَّى عَقْدَ نِكَاحِهَا بِنَفْسِهَا، وَأَنَّ تُوَكِّلَ بِهِ مَنْ تَشَاءُ إِذَا كَانَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا، وَهُوَ صَحِيحٌ نَافِذٌ بِلَا وَلِيٍّ.

الثَّالِثُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذَنِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ. (ر.نِكَاح ف 71

عَضْلُ الْوَلِيِّ:

78- الْمُرَادُ بِالْعَضْلِ: مَنْعُ الْوَلِيِّ الْمَرْأَةَ مِنَ التَّزْوِيجِ بِكُفْئِهَا إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَرَغِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ.

وَمُوجِبُهُ انْتِقَالُ الْوِلَايَةِ مِنَ الْوَلِيِّ الْعَاضِلِ إِلَى غَيْرِهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (عَضَل ف 25، وَنِكَاح ف 96

غَيْبَةُ الْوَلِيِّ:

79- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَالِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْوَلِيِّ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نِكَاح ف 97، 101.

تَرْتِيبُ الْأَوْلِيَاءِ:

80- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 91، 95.

ثَانِيًا: وِلَايَةُ الزَّوْجِ التَّأْدِيبِيَّةِ:

81- ذَهَبَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ وِلَايَةَ الزَّوْجِ عَلَى تَأْدِيبِ زَوْجَتِهِ إِذَا اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ وَتَرَفَّعَتْ عَنْ مُطَاوَعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ، لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.

فَيَعِظُهَا أَوَّلًا بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ، لَعَلَّهَا تَقْبَلُ الْمَوْعِظَةَ فَتَدَعُ النُّشُوزَ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ مَعَهَا ذَلِكَ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ، فَإِنْ أَصَرَّتْ عَلَى الْبُغْضِ وَالْعِصْيَانِ ضَرَبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ بِالْقَدْرِ الَّذِي يُصْلِحُهَا لَهُ وَيَحْمِلُهَا عَلَى تَوْفِيَةِ حَقِّهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نُشُوز ف 12، 19.

وِلَايَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ:

82- النِّظَارَةُ عَلَى الْوَقْفِ ضَرْبٌ مِنَ الْوِلَايَةِ Bالْخَاصَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي تَنْفِيذَ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ، شَاءَ الْغَيْرُ أَمْ أَبَى، وَهِيَ حَقٌّ مُقَرَّرٌ شَرْعًا عَلَى كُلِّ عَيْنٍ مَوْقُوفَةٍ، إِذْ لَا بُدَّ لِلْمَوْقُوفِ مِنْ يَدٍ تَرْعَاهُ وَتَتَوَلاَّهُ، وَتَعْمَلُ عَلَى إِبْقَائِهِ صَالِحًا نَامِيًا مُحَقِّقًا لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْوَقْفِ، وَذَلِكَ بِعِمَارَتِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَإِجَارَتِهِ وَزِرَاعَةِ أَرْضِهِ، وَاسْتِغْلَالِ مُسْتَغَلاَّتِهِ، وَصَرْفِ رِيعِهَا إِلَى الْجِهَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ، ثُمَّ أَدَاءِ دُيُونِهِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ شُرُوطِ الْوَاقِفِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا.

وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلاَّ بِوِلَايَةٍ صَالِحَةٍ تَحْفَظُ الْأَعْيَانَ الْمَوْقُوفَةَ وَتَرْعَى شُؤُونَهَا بِأَمَانَةٍ، وَتُوَصِّلُ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا بِلَا تَوَانٍ أَوْ خِيَانَةٍ، وَلِهَذَا لَا يُوَلَّى نِظَارَةَ الْوَقْفِ إِلاَّ الْأَمِينُ الْقَادِرُ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ أَوِ الْعَاجِزِ.

وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْوَقْفِ تَنْقَسِمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

(أ- وِلَايَةٌ أَصْلِيَّةٌ: وَتَثْبُتُ لِلْوَاقِفِ أَوْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْقَاضِي.

(ب- وِلَايَةٌ فَرْعِيَّةٌ: وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِمُوجِبِ شَرْطٍ أَوْ تَفْوِيضٍ أَوْ تَوْكِيلٍ أَوْ إِيصَاءٍ أَوْ إِقْرَارٍ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (وَقْف.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-المعجم الغني (قَتَرَ)

قَتَرَ- [قتر]، (فعل: ثلاثي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، قَتَرْتُ، أَقْتُرُ، اُقْتُرْ، المصدر: قَتْرٌ، قُتُورٌ.

1- "قَتَرَ الرَّجُلُ": ضَاقَ عَيْشُهُ.

2- "قَتَرَ عَلَى عِيَالِهِ": ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ، بَخِلَ عَلَيْهِمْ. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67]:

3- "قَتَرَ اللَّحْمُ": اِنْتَشَرَ قُتَارُهُ فِي دُخَانِهِ وَرَائِحَتِهِ.

4- "قَتَرَ الأَمْرَ": لَزِمَهُ.

5- "قَتَرَتِ النَّارُ": دَخَّنَتْ.

6- "قَتَرَ لِلأَسَدِ": وَضَعَ لَهُ فِي الْمِصْيَدَةِ لَحْمًا لَعَلَّهُ يَجِدُ قُتَارَهُ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


17-تاج العروس (قصد)

[قصد]: القَصْدُ: استقامَةُ الطَّرِيقِ، وهكذا في المُحكم والمُفْرَدات للراغب. قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أَي على الله تَبْيِينُ الطريقِ المستقيمِ والدُّعَاءُ إِليه بالحُجَجِ والبَرَاهينِ الوَاضِحَةِ، {وَمِنْها جائِرٌ}؛ أَي ومِنها طَرِيقٌ غيرُ قاصِدٍ. وطَرِيقٌ قاصِدٌ سَهْلٌ مُستقيمٌ، وسيأْتي. ومثلُه في البصائرِ: وزاد في المفرداتِ: كأَنه يَقْصد الوَجْهَ الذي يَؤُمُّه السالِكُ لا يَعْدِل عنه، فهو كنَهرٍ جارٍ، وأَورده الزمخشريُّ في الأَساس من المجاز. والقَصْدُ الاعْتِمَادُ، والأَمُّ تقول: قَصَدَه وقَصَدَ لَهُ وقَصَدَ إِلَيْهِ، بمعنًى، يَقْصِدُه بالكسر، وكذا يَقْصِد له ويَقْصِد إِليه. وفي اللسانِ والأَساسِ: القَصْدُ: إِتْيَانُ الشيْ‌ءِ، يقال: قَصَدْتُ له وقَصَدْت إِليه. وإِليكَ قَصْدِي.

وأَقْصَدَني إِليك الأَمْرُ. ومن المجاز: القَصْدُ في الشيْ‌ءِ: ضِدُّ الإِفْراطِ، وهو ما بين الإِسرافِ والتَّقْتِير، والقَصْدُ في المَعِيشَة: أَن لا يُسْرِف ولا يُقَتِّرَ، وقَصَدَ في الأَمْرِ لم يَتجاوَزْ فيه الحَدَّ، وَرَضِيَ بالتَّوَسُّطِ، لأَنه في ذلك يَقْصِدُ الأَسَدَّ، كالاقْتِصادِ، يقال: فُلانٌ مُقْتَصِدٌ في المَعِيشة وفي النَّفَقَة، وقد اقْتَصَد. واقْتَصَدَ في أَمرِه: استقامَ. وفي البصائر للمصنِّف: واقْتَصَدَ في النَّفَقَةِ: تَوَسَّطَ بين التَّقْتيرِ والإِسراف، قال صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم: «ولا عَالَ مَن اقْتَصَدَ».

ومن الاقتصاد ما هو مَحْمُودٌ مُطْلَقًا، وذلك فيما له طَرفانِ: إِفراطٌ وتَفْرِيطٌ، كالجُودِ، فإِنه بين الإِسرافِ والبُخْلِ، وكالشَّجاعَة، فإِنها بين التَّهَوُّرِ والجُبْنِ. وإِليه الإِشارةُ بقولِه: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} ومنه ما هو مُتَرَدِّدٌ بين المَحْمُودِ والمَذمومِ، وهو فيما يقع بين محمودٍ ومَذمومٍ، كالوَاقِع بين العَدْلِ والجَوْرِ، وعلى ذلك قولُه تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} انتهى. وفي سرّ الصناعة لابن جِنّي: أَصلُ ق ص بلد ومَواقِعها في كلامِ العرب: الاعتِزامُ والتَّوَجُّه والنُّهُودُ والنُّهُوضُ نحوَ الشيْ‌ءِ، على اعْتِدَالٍ كانَ ذلك أَو جَوْرٍ، هذا أَصلُه في الحقيقة، وإِن كان قد يُخَصُّ في بعْضِ المواضع بقَصْدِ الاستقامَة دُونَ المَيْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقْصِدُ الجَوْرَ تارَةً كما تَقْصِد العَدْلَ أُخْرَى؟ فالاعتزامُ والتَّوَجُّه شامِلٌ لهما جَميعًا وعن ابن بُزُرْجِ: القَصْد: مُوَاصَلَةُ الشاعِرِ عَمَلَ القَصائدِ وإِطالَتُه، كالاقْتِصَادِ، هكذا في النُّسخ التي بأَيدينا، والصواب: كالإِقْصَادِ، قال:

قَدْ وَرَدَتْ مِثْلَ اليَمانِي الهَزْهَازْ *** تَدْفَعُ عَنْ أَعْنَاقِها بِالأَعْجَازْ

أَعْيَتْ عَلَى مُقْصِدِنا والرَّجَّازْ

قال ابن بُزُرْج: أَقْصَدَ الشاعرُ، وأَرْمَل، وأَهْزَج، وأَرْجَزَ، من القَصِيد والرَّمَل والهَزَج والرَّجَز. والقَصْدُ: رَجُلٌ لَيْسَ بالجَسِيمِ ولا بالضَّئِيل، وكُلُّ ما بَيْنَ مُسْتَوٍ غيرِ مُشْرِفٍ ولا ناقِصٍ فهو قَصْدٌ، كالمُقْتَصِدِ والمُقَصَّدِ، كمُعَظَّم، والثاني هو المعروف وفي الحديث عن الجَرِيرِيّ قال: «كنت أَطوفُ بالبَيْتِ مع أَبي الطُّفَيل، فقال: ما بقي أَحدٌ رأَى رسولَ الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم غيري، قال: قلتُ له: وَرَأَيْتَه؟ قال: نعم، قلتُ: فكيف كانَ صِفَتُه؟ قال: كان أَبيضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا». قال: أَراد بالمُقَصَّدِ أَنه كان رَبْعَةً. وقال ابنُ شُمَيْلٍ: المُقَصَّدُ من الرجالِ يكون بمعنَى القَصْدِ وهو الرَّبْعَةُ. وقال الليث: المُقَصَّد من الرجال: الذي ليسَ بِجَسيمٍ ولا قَصيرٍ. وقد يُسْتَعْمَل هذا النعْتُ في غير الرِّجال أَيضًا. وقال ابنُ الأَثير في تفسير المُقصَّد في الحديث: هو الذي ليس بطَويلٍ ولا قَصيرٍ ولا جَسيم، كأَنّ خَلْقَه نُحِيَ به القَصْدُ من الأُمورِ، والمُعْتَدِل الذي لا يَمِيل إِلى أَحدِ طَرَفَيِ التفريطِ والإِفراط.

والقَصْدُ: الكَسْرُ بأَيِّ وَجْهٍ. وفي بعض الأُمهات: في أَيّ وَجْهٍ كَانَ، تقول: قَصَدْتُ العُودَ قَصْدًا: كَسَرْتُه أَو هو الكَسْرُ بِالنِّصْفِ، كالتَّقْصِيد قَصَدْتُه أَقْصِدُه، وقَصَّدْتُه تَقْصيدًا وانْقَصَدَ وتَقَصَّدَ، أَنشد ثعلب:

إِذا بَرَكَتْ خَوَّتْ عَلَى ثَفِنَاتِهَا *** عَلَى قَصَبٍ مِثْلِ اليَرَاعِ المُقَصَّدِ

شَبَّه صوْتَ الناقَةِ بالمَزاميرِ. وقد انقَصَدَ الرُّمْحُ: انكَسَر بِنِصْفَيْنِ حتى يَبِينَ، وفي الحديث: «كانت المُدَاعَسَةُ بالرِّماحِ حتى تَقَصَّدَتْ». أَي تَكَسَّرَتْ وصارَت قِصَدًا؛ أَي قِطَعًا. والقَصْدُ: العَدْلُ قال أَبو اللحام التَّغْلبيّ:

عَلَى الحَكَمِ المَأْتِيِّ يَوْمًا إِذَا قَضَى *** قَضِيَّتَه أَنْ لَا يَجُورَ ويَقْصِدُ

قال الأَخفش: أَراد: ويَنْبَغِي أَن يَقْصِد، فلما حَذَفه وأَوْقَع يَقْصِد مَوقِعَ يَنْبَغِي رفَعه، لوقوعه موقع المَرْفُوع.

وقال الفَرّاءُ: رَفعه للمخالفةِ، لأَن معناه مُخَالِفٌ لما قَبْلَه فخُولِف بينهما في الإِعراب. قال ابن بَرِّيّ: معناه: على الحَكَمِ المَرْضِيِّ بِحُكْمهِ المَأْتِيِّ إِليه لِيَحْكُمَ أَن لا يَجُورَ في حُكْمِه، بل يَقْصِد أَي يَعْدِل، ولهذا رفعه ولم يَنصبه عَطفًا على قوله أَن لا يَجُورَ، لفساد المعنى، لأَنه يَصيرُ التقديرُ: عليه أَن لا يَقْصِد، وليس المَعْنَى على ذلك، بل المَعْنَى: ويَنْبَغِي له أَن يَقْصِد، وهو خَبَرٌ بمعنَى الأَمْرِ؛ أَي ولْيَقْصِدْ.

وفي الحديث: «القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» أَي عليكم بالقَصْدِ في الأُمور، في القول والفِعل، وهو الوَسَطُ بين الطَرفَينِ، وهو منصوبٌ على المَصْدَرِ المُؤَكَّد، وتَكراره للتأْكيد. وفي بعض النسخ: والقول، بدل، والعدل، وهو غلط. والقَصْدُ التَّقْتِيرُ، هكذا في نسختنا، وفي أُخرى مُصحَّحَة التفسير، وكلٌّ منهما غير ملائمٍ للمقامِ، والذي يقتضيه كلامُ أَئمة الغَرِيب: والقَصْدُ: القَسْرُ، بالقاف والسين، ففي اللسان: قَصَدَه قَصْدًا: قَسَرَه؛ أَي قَهَره، وهو الصوابُ. والله أَعلم.

والقَصَدُ، بالتَّحرِيكِ: العَوسَجُ، يَمانية، عن أَبي حنيفة، وقَصَدُ العَوْسَجِ ونَحْوِهِ، كالأَرْطَى والطَّلْحِ: أَغْصَانُه النَّاعِمَةُ وعَبَلُه، وقد قَصَّدَ العَوْسَجُ إِذا أَخرجَ ذلك، كذا في الأَفعال لابن القَطَّاع. والقَصَدُ: الجُوعُ، والقَصَد: مَشْرَةُ العِضَاهِ، وهي بَرَاعِيمُها وما لَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْثُوَ، وقد أَقْصَدَت العِضَاهُ وقَصَّدَتْ، كالقَصِيد، الأَخيرةُ عن أَبي حنيفة، وأَنشد:

وَلَا تَشْعَفَاها بِالجِبَالِ وَتَحْمِيَا *** عَلَيْهَا ظَلِيلَاتٍ يَرِفُّ قَصِيدُهَا

وعن الليث: القَصَدُ: مَشْرَةُ العِضَاه أَيَّامَ الخَرِيف، تُخْرِج بعْدَ القَيْظِ الوَرقُ في العِضَاهِ أَغصانٌ رَطْبَةٌ غَضَّةٌ رِخَاصٌ، تُسَمَّى كُلُّ واحدةٍ منها: قَصَدَةً. أَو القَصَدَةُ مِنْ كُلِّ شَجرةٍ شائِكَةٍ أَي ذات شَوْك: أَنْ يَظْهَرَ نَبَاتُهَا أَوَّلَ ما تَنْبُتُ. وهذا عن ابنِ الأَعرابيّ.

وقَصُدَ البَعِيرُ، ككَرُمَ، قَصَادَةً، بالفتح: سَمِنَ، فهو قَصِيدٌ. نقَلَه الصاغانيّ.

والقِصْدَةُ، بالكسر: القِطْعَةُ مِمَّا يُكْسَرُ، الجمع: قِصَدٌ كعِنَبٍ وكلُّ قِطْعَةٍ قِصْدَة ورُمْحٌ قَصِدٌ، ككَتِفٍ، وقَصِيدٌ كأَمِيرٍ، بَيِّنُ القَصَدِ ورُمْحٌ أَقْصَادٌ أَي مُتَكَسِّرٌ وفي الأَساس: رُمْحٌ قَصِيدٌ: سَريع الانكسارِ؛ وفي التهذيب: وإِذا اشْتَقُّوا له فِعْلًا قالوا: انْقَصَد، وقَلَّمَا يَقولون قَصِدَ، إِلَّا أَنَّ كُلَّ نَعْتٍ على فَعِلٍ لا يمْنع صُدُورُه من انْفَعَلَ. وأَنشد أَبو عُبَيدٍ لقَيْس بنِ الخَطِيمِ:

تَرَى قِصَدَ المُرَّانِ تُلْقَى كَأَنَّهَا *** تَذَرُّعُ خُرْصَانٍ بِأَيْدِي الشَّوَاطِبِ

وقال آخر:

أَقْرُو إِلَيْهِم أَنَابِيبَ القَنَا قِصَدا

يريد: أَمشي إِليهم على كِسَرِ الرِّماح؛ وقال الأَخفش في رُمْحٍ أَقْصَادٍ: هذا أَحَدُ ما جاءَ على بِنَاءِ الجَمْعِ. وفي اللسان: وقَصَدَ له قِصْدَةً مِنْ عَظْمٍ، وهي الثُّلُث أَو الرُّبعُ من الفَخِذ أَو الذِّراعِ أَو السَّاقِ أَو الكَتِف؛ والذي في أَفعال ابن القَطَّاع: وقَصَدَ مِن العَظْمِ قِصْدَةً: دون نِصْفِه إِلى الثُّلُث أَو الرُّبع.

والقَصِيدُ مِن الشِّعْرِ: ما تَمَّ شَطْرُ أَبْيَاتِهِ. وفي التهذيب: شَطْرُ أَبْنِيَتِهِ، سُمِّيَ بذلك لكَماله وصِحَّةِ وَزْنه، وقال ابنُ جِنِّي: سُمِّيَ قَصِيدًا لأَنه قُصِدَ واعْتُمِدَ، وإِن كانَ ما قَصُرَ منه واضْطَرَب بِنَاؤُه نحو الرَّمَل والرَّجَز شِعْرًا مُرَادًا مَقصودًا، وذلك أَن ما تَمَّ من الشِّعر وتَوَفَّر آثَرُ عندَهم وأَشَدُّ تَقَدُّمًا في أَنْفُسِهم مما قَصُرَ واخْتَلَّ، فسَمُّوْا ما طالَ ووَفَرَ قَصِيدًا؛ أَي مُرَادًا مَقصودًا، وإِن كان الرَّملُ والرَّجَز أَيضًا مُرَادَيْنِ مَقْصُودَيْنِ. والجَمْعُ قَصَائِدُ، وربَّما قالوا: قَصِيدَةٌ. وفي الصحاح: القَصِيدُ جَمْعُ القَصِيدَة [من الشعر]. كسَفِينٍ جمعُ سَفِينةٍ، وقيل: الجَمْعُ قَصائدُ وقَصِيدٌ. قال ابن جنِيِّ: فإِذا رأَيْتَ القصيدَةَ الوَاحِدَةَ قد وَقَعَ عليها القَصِيدُ، بلا هاءٍ، فإِنما ذلك لأَنه وُضِعَ على الواحِد اسمُ الجِنْسِ اتِّساعًا، كقولِك: خَرجْتُ فإِذا السَّبعُ، وقتَلْتُ اليومَ الذِّئْبَ، وأَكَلْتُ الخُبْزَ، وشَرِبتُ الماءَ. ولَيْسَ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ فَصَاعِدًا أَو سِتَّةَ عَشَرَ فَصَاعِدًا. قال أَبو الحَسَن الأَخْفَشُ: وممَّا لا يَكاد يُوجَد في الشِّعْر البَيْتَانِ المُوطَآنِ ليس بينهما بيتٌ، والبَيْتَان المُوطَآن وليست القصيدةُ إِلَّا ثلاثَة أَبياتٍ، فجعلَ القصيدَة علَى ثلاثةِ أَبياتٍ؛ قال ابنُ جِنّي: وفي هذا القول من الأَخْفَش جَوَازٌ، وذلك لِتسميته ما كان على ثَلاثَةِ أَبياتٍ قَصِيدةً. قال: والذي في العادة أَنْ يُسَمَّى ما كانَ على ثلاثةِ أَبياتٍ أَو عَشَرَةٍ أَو خَمْسَةَ عَشَرَ: قِطْعَةً. فأَمَّا ما زاد على ذلك فإِنما تُسميه العَرَب قَصِيدةً، وقال الأَخفش مَرَّة: القَصِيدُ من الشعر هو الطَّوِيلُ والبَسِيطُ التَّامُّ والكامِلُ التامُّ والمَدِيد التامُّ، والوافِرُ التامُّ، والرجَز التامُّ، والخَفِيف التامُّ، وهو كلُّ ما تَغَنَّى به الرُّكْبَانُ. قال: ولم نسمعهم يتَغَنَّوْن بالخَفِيف. ومعنَى قولِه: المَدِيدُ التامُّ، والوافِرُ التامُّ، أَتَمُّ ما جاءَ مِنْهُمَا في الاستعمالِ أَعْنِي الضَّرْبَيْنِ الأَوّلَيْنِ مِنْهُمَا، فأَمَّا أَن يَجِيئا على أَصْلِ وَضْعِهما في دائِرتَيْهِما فذلك مَرْفُوض مُطَّرَحٌ، كذا في اللسان. وقيل: سُمِّيَ قَصِيدًا لأَنّ قَائلَه احْتَفَل له فنَقَّحه باللفْظِ الجَيِّد والمَعْنَى المُخْتَار، وأَصْلُه من القَصيد وهو المُخُّ الغليظُ السَّمِينُ الذي يَتَقَصَّد أَي يَتَكَسَّر [إِذا استخرج من قصبه] لِسِمَنِهِ، وضِدُّه الرَّارُ، وهو المُخُّ السائلُ الذي يَمِيعُ كالماءِ ولا يَتَقَصَّدُ.

والعربُ تَستعيرُ السِّمَنَ في الكلامِ الفصيحِ، فتقولُ: هذا كَلَامٌ سَمِينٌ؛ أَي جَيِّد وقالوا: شِعْرٌ قَصِيدٌ، إِذا نُقِّحَ وجُوِّدَ وهُذِّب، وقيل: سُمِّيَ الشِّعْرُ التامُّ قَصيدًا لأَن قائلَه جَعَلَه مِن بَالِه فَقَصَدَ له قَصْدًا ولم يَحْتَسِه حَسْيًا على ما خَطَر بِبَالِه وجَرَى عَلى لِسَانِه، بل رَوَّى فيه خاطِرُه. واجْتَهَد في تَجْوِيده، ولم يَقْتَضِبْهُ اقْتِضَابًا، فهو فَعِيلٌ [بمعنى مفعولٍ] مِن القَصْدِ، وهو الأَمُّ، ومنه قولُ النابِغَةِ:

وقَائلَة مَنْ أَمَّهَا وَاهْتَدَى لَهَا *** زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو أَمَّهَا وَاهْتَدَى لَهَا

أَرادَ قَصِيدَته التي يقول فيها:

يا دَارَميَّةَ بِالعَلْياءِ فَالسَّنَدِ

والقَصِيدةُ: المُخَّةُ إِذا خَرَجَتْ مِنَ العَظْمِ، وإِذا انْفَصلَتْ مِن مَوْضعِها أَو خَرجتْ، قيل: انْقَصَدَتْ وتَقَصَّدَتْ، وقد قَصَدَهَا قَصْدًا، وقَصَّدَهَا: كَسَرَهَا.

أَو دُونَهُ، كالقَصُودِ، بالفتح» قال أَبو عُبَيْدة: مُخٌّ قَصِيدٌ وقَصُودٌ، وهو دونَ السَّمِين وفوقَ المَهْزُولِ، والقَصِيد: العَظْمُ المُمِخُّ، وعَظْمٌ قَصِيدٌ: مُمِخٌّ، أَنشد ثعلبٌ:

وهُمْ تَرَكُوكُمْ لا يُطَعَّمُ عَظْمُكُمْ *** هُزَالًا وكانَ العَظْمُ قَبْلُ قَصِيدَا

أَي مُمِخًّا، وإِن شِئتَ قُلتَ: أَرادَ ذَا قَصِيدٍ؛ أَي مُخٍّ.

وعن الليث: القَصِيدُ: اللَّحْمُ اليَابِسُ، وأَنشد قولَ أَبي زُبَيْدِ:

وإِذَا القَوْمُ كَانَ زَادُهُمُ اللَّحْ *** مَ قَصِيدًا مِنْهُ وغَيْرَ قَصِيدِ

وقيل: القَصِيدُ: السَّمِين هاهُنَا؟؟ وأَنشدَ غيرُه للأَخْطَل:

وَسِيرُوا إِلَى الأَرْضِ التي قَدْ عَلِمْتُمُ *** يَكُنْ زَادُكُمْ فِيها قَصِيدَ الأَباعِرِ

والقَصِيدُ من الإِبل: النَّاقَةُ السَّمِينةُ المُمْتَلِئةُ الجَسِيمَةُ التي بِهَا نِقْيٌ، بالكسر؛ أَي مُخٌّ، أَنشد ابنُ الأَعرابيّ:

وخَفَّتْ بَقَايَا النِّقْيِ إِلَّا قَصِيبَةً *** قَصِيدَ السُّلَامَى أَوْ لَمُوسًا سَنَامُها

وقال الأَعشى:

قَطَعْتُ وصَاحِبِي سُرُحٌ كِنَازٌ *** كَرُكْنِ الرَّعْنِ ذِعْلِبَةٌ قَصِيدُ

والقَصِيد: العَصَا، والجَمْعُ القَصَائِدُ، قال حُمَيْد بن ثَوْرٍ:

فَظَلَّ نِسَاءُ الحَيِّ يَحْشُونَ كُرْسُفًا *** رُؤُوسَ عِظَامٍ أَوْضَحَتْهَا القَصَائدُ

وفي اللسان: سُمِّيَ بِذلك لأَن بها يُقْصَدُ الإِنْسانُ، وهي تَهْدِيه وتَؤُمُّه، كقولِ الأَعْشَى:

إِذَا كَانَ هَادِي الفَتَى فِي البِلَا *** دِ صَدْرَ القَنَاةِ أَطَاعَ الأَمِيرَا

كالقَصِيدَة، فِيهِمَا؛ أَي في الناقَةِ والعَصَا، أَما في الناقَةِ فقد جاءَ ذلك عنِ ابنِ شُمَيْلٍ، يقال: ناقَةٌ قَصِيدٌ وقَصِيدَةٌ.

وأَما في العَصَا فلم يُسْمَع إِلَّا القَصِيد.

والقَصِيد: السَّمِينُ مِنَ الأَسْنِمَةِ، قال المُثَقِّبُ العَبْدِيُّ:

وأَيْقَنْتُ إِنْ شاءَ الإِلهُ بِأَنَّه *** سَيُبْلِغُنِي أَجْلَادُهَا وقَصِيدُهَا

والقَصِيد مِنَ الشِّعْرِ: المُنَقَّحُ المُجَوَّدُ المُهَذَّب، الذي قد أَعْمَلَ فيه الشاعرُ فِكْرتَه ولم يَقْتَضِبْه اقْتِضابًا، كالقَصِيدة، كما تقدَّمَ.

وفي الأَفعال لابن القطاع: أَقْصَدَ السَّهْمُ: أَصَابَ فَقَتَلَ مَكَانَه.

وأَقْصَدَ الرجلُ فُلانًا: طَعَنَه أَو رَماه بسَهْمٍ فلمْ يُخْطِئْهُ؛ أَي لم يُخْطِئ مَقَاتِلَه، فهو مُقْصَدٌ، وفي شعر حُمَيدِ بن ثَورٍ:

أَصْبَح قَلْبِي مِنْ سُلَيْمَى مُقْصَدَا *** إِنْ خَطَأً مِنْهَا وإِنْ تَعَمُّدَا

وأَقْصَدَته الحَيَّةُ: لَدَغَتْ فقَتَلَتْ، قال الأَصمعيُّ: الإِقصادُ: أَنْ تَضْرِبَ الشَّيْ‌ءَ أَو تَرْمِيَه فيَمُوتَ مَكَانَه، وقال الأَخْطَلُ:

فإِنْ كُنتِ قَدْ أَقْصَدْتِني إِذْ رَمَيْتِنِي *** بِسَهْمَيْكِ فَالرَّامِي يَصِيدُ ولا يَدْرِي

أَي ولا يَخْتِلُ. وفي حديثِ عَلِيٍّ: «وأَقْصَدَتْ بأَسْهُمِها».

وقال الليث: الإِقصادُ هو القَتْلُ علَى المَكَانِ، يقال: عَضَّتْه حَيَّةٌ فأَقْصَدَتْه.

والمُقَصَّدَةُ، كمُعَظَّمَةٍ: سِمَةٌ للإِبِلِ في آذَانِهَا، نقَلَه الصاغانيّ.

والمُقْصَد، كمُكْرَمٍ: مَنْ يَمْرَضُ ويَمُوتُ سَرِيعًا، وفي بعض الأُمهات: ثمَّ يَموت.

والمَقْصَدَةُ كالمَحْمَدَةِ: المَرْأَةُ العَظيمةُ التَّامَّةُ، هكذا في سائر النسخ التي بأَيدينا، والذي في اللسان وغيرِه: العَظِيمةُ الهامَةِ التي تُعْجِبُ كُلَّ أَحَدٍ يَرَاها.

والمَقْصَدَةُ، وهذه ضَبَطَهَا بعضُهُم كمُعَظَّمَةٍ، وهي المرأَة التي تَمِيل إِلى القِصَر.

والقَاصِدُ: القَرِيبُ، يقال: سَفَرٌ قاصِدٌ؛ أَي سهْل قَرِيبٌ. وفي التنزيلِ العزيزِ: {لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ} قال ابن عَرَفَة: سَفَرًا قاصِدًا؛ أَي غَيْرَ شَاقٍّ ولا مُتَنَاهِي البُعْدِ؛ كذا في البَصَائِر، وفي الحديث «عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا» أَي طَرِيقًا [مُعْتَدِلًا] وفي الأَفعال لابن القَطَّاع. وقَصَدَ الشي‌ءُ: قَرُبَ معتدلًا.

ومن المجاز، يقال: بَيْنَنَا وبَيْنَ الماءِ لَيْلَةٌ قاصِدَةٌ؛ أَي هَيِّنَةُ السَّيْرِ لا تَعَبَ ولا بُطءَ، وكذلك لَيَالٍ قَواصِدُ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

قَصُدَ قَصَادَةً: أَتَى.

وأَقْصَدَني إِليه الأَمْرُ.

وهو قَصْدُك وقَصْدَكَ أَي تُجَاهَكَ، وكونُه اسمًا أَكْثَرُ في كلامِهم، وقَصَدْتُ قَصْدَه، نَحْوَه.

وقَصَدَ فُلَانٌ في مَشْيِه، إِذا مَشَى مُسْتَوِيًا.

واقْتَصَد في أَمْرِه: استَقَامَ. وقال ابنُ بُزُرْج: أَقْصَدَ الشاعِرُ، وأَرْمَلَ، وأَهْزَج وأَرْجَزَ من القَصِيدِ والرَّمْلِ والهَزَجِ والرَّجَزِ.

وعن ابن شُمَيْلٍ: القَصُودُ من الإِبِل: الجامِسُ المُخِّ.

والقَصْدُ: اللَّحْمُ اليابِسُ، كالقَصِيد.

والقَصَدَةُ، مُحَرَّكَةً: العُنُق، والجمْع أَقْصَادٌ، عن كُراع، وهذا نادِرٌ قال ابنُ سِيدَه: أَعْنِي أَن يَكون أَفْعَالٌ جَمْعَ فَعَلَةٍ إِلَّا عَلَى طَرْحِ الزائدِ، والمَعروف القَصَرَةُ.

وعن أَبي حَنيفة: القَصْدُ يَنْبُتُ في الخَرِيف إِذا بَرَدَ الليْلُ من غَيْرِ مَطَرٍ.

وفي الأَفعال لابن القَطَّاع: تَقَصَّدَ الشْي‌ءُ، إِذا ماتَ، وفي اللسان: تَقَصَّدَ الكَلْبُ وغيرُه؛ أَي مَاتَ، قال لَبِيدٌ:

فَتَقَصَّدَت مِنْهَا كَسَابِ وَضُرِّجَتْ *** بِدَمٍ وغُودِرَ في المَكَرِّ سُحَامُهَا

وفي البصائر: سَهْمٌ قاصِدٌ، وسِهَامٌ قَوَاصِدُ: مُسْتَوِيَةٌ نَحْوَ الرَّمِيَّةِ، ومثلُه في الأَساس.

وبابُك مَقْصِدِي. وأَخَذْت قَصْدَ الوادِي وقَصِيدَه.

وأَقْصَدَتْه المَنِيَّةُ.

وشِعْرٌ مُقَصَّد ومُقَطَّع، ولم يُجْمَع في المُقَطَّعَات كما جَمَعَ أَبو تَمَّام، ولا في المُقَصَّدَات كما جَمَع المُفَضَّل.

ومن المجاز: عَلَيْكَ بما هو أَقْصَدُ وأَقْسَطُ، كُل ذلك في الأَساسِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


18-تاج العروس (قتر)

[قتر]: القَتْرُ والتَّقْتِيرُ: الرُّمْقَةُ من العَيْشِ. وقال اللّيْث: القَتْرُ: الرُّمْقَةُ في النَّفَقَة، قَتَرَ يَقْتُرُ، بالضَّمّ، ويَقْتِرُ، بالكَسْرِ، قَتْرًا وقُتُورًا، كقُعُود، فهو قاتِرٌ وقَتُورٌ، كصَبُور، وقَتَّرَ عَلَيْهِم تَقْتِيرًا وأَقْتَرَ إِقْتَارًا: ضَيَّقَ في النَّفَقَةِ، وقُرِئَ بهما قولُه تعالَى: {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} وقال الفَرّاءُ: لم يُقَتِّرُوا عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِم من النَّفَقَة. وفاتَتْه اللُّغَةُ الثالِثَة، وهي: قَتَرَ عَلَى عِيَالِه يَقْتِرُ ويَقْتُرُ قَتْرًا وقُتُورًا: ضَيَّقَ عليهم، فالقَتْرُ والتَّقْتِيرُ والإِقْتَارُ ثلاثُ لُغَاتٍ، صَرَّح به في المُحْكَم. وفي الحديث: «بِسُقْمٍ في بَدَنِه وإِقْتَارٍ في رِزْقِه» قال ابنُ الأَثِير: يقال: أَقْتَرَ الله رِزْقَه؛ أَي ضَيَّقَهُ وقَلَّلَهُ. وقال المُصَنّف في البَصَائر: كأَنَّ المُقْتِرَ والمُقَتِّرَ يَتَناوَلُ من الشَّيْ‌ءِ قُتَارَهُ.

والقَتَرُ والقَتَرَةُ ـ محرّكَتَيْن ـ والقَتْرُ، بالفَتْح: الغَبَرَةُ ـ ومنه قولُه تَعالَى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ} ـ عن أَبي عُبَيْدَةَ، وأَنشد للفَرَزْدَقِ:

مُتَوَّج برِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُهُ *** مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرّايَاتِ والقتَرَا

وفي التَّهْذِيب: القَتَرَةُ: غَبَرَةٌ يَعْلُوها سَوَادٌ كالدُّخانِ. وفي النّهَايَة: القَتَرَةُ: غَبَرَةُ الجَيْشِ.

والقُتَارُ، كهُمَامٍ: رِيحُ البَخُورِ، وهو العُودُ الذي يُحْرَقُ فَيُدَخَّنُ به، قال الأَزهريّ: وهو صَحِيح. وقال الفَرّاءُ: هو آخِرُ رائِحَةِ العُودِ إِذا بُخِّرَ به؛ قالَه في كِتاب المَصَادِر. وقال طَرَفَةُ:

حينَ قالَ القَوْمُ في مَجْلِسِهِمْ *** أَقُتَارٌ ذاكَ أَمْ رِيحُ القُطُرْ

والقُطُرُ: العُودُ الذي يُتَبَخَّرُ به والقُتَارُ: رِيحُ القِدْرِ، وقد يكونُ من الشِّواءِ والعَظْمِ المُحْرَقِ، ورِيحُ اللّحْمِ المَشْوِيّ. وفي حديث جابرٍ: «لا تَؤْذِ جارَك بقُتَارِ قِدْرِك» هو رِيحُ القِدْرِ والشِّواءِ ونَحْوِهما. وفي التَّهْذِيب: القُتَارُ عند العَرَب: رِيحُ الشِّواءِ إِذا ضُهِّبَ على الجَمْرِ، وأَمّا رائِحَةُ العُودِ [إِذا أُلقي على النار] فإِنّه لا يُقَالُ له القُتَارُ، ولكنّ العرَبَ وَصَفَت اسْتطابَةَ المُجْدِبِينَ رائحَةَ الشِّواءِ أَنّه عندهم لشِدَّةِ قَرَمِهِم إِلى أَكْلِه كرائحَةِ العُودِ لطِيبِه في أُنُوفهم. وقال لَبِيدٌ:

ولا أَضِنُّ بمَعْبُوطِ السَّنَامِ إِذا *** كانَ القُتَارُ كَمَا يُسْتَرْوَحُ القُطُرُ

أَخْبَرَ أَنَّه يَجُودُ بإِطْعَامِ اللَّحْمِ في المَحْلِ إِذا كان رِيحُ قُتَارِ اللَّحْمِ عند القَرِمِين كرائحَةِ العُودِ يُبَخَّر به.

قَترَ اللَّحْمُ، كفَرِحَ ونَصَرَ وضَرَبَ، وقَتَّر تَقْتِيرًا: سَطَعَتْ رائحَتُه؛ أَي رِيحُ قُتَارِه.

والتَّقْتِيرُ: تَهْيِيجُ القُتَارِ. وقَتَّرَ للأَسَدِ تَقْتِيرًا: وَضَعَ له لَحْمًا في الزُّبْيَةِ يجِدُ قُتارَه؛ أَي رِيحَه، وقَتَّرَ الصائدُ للوَحْشِ، إِذا دَخَّنَ بأَوْبارِ الإِبلِ لئلَّا يَجِدَ رِيحَ الصائِدِ فيَهْرُب منه. وقَتَّرَ فُلانًا: صَرَعَه على قُتْرَةٍ، بالضَّمِّ. وقَتَّرَ بَيْنَهُمَا تَقْتِيرًا: قارَبَ، وقال اللَّيْثُ: التَّقْتِيرُ: أَنْ تُدْنِيَ مَتَاعَك بَعْضَه من بَعْض، أَو بَعْضَ رِكَابِكَ من بَعْض.

والقُتْرُ، بالضَّمّ وبضَمَّتَيْن: النّاحِيَة والجانِب، لغةٌ في القُطْرِ، وهي الأَقْتارُ والأَقْطَار.

وتَقَتَّرَ: غَضِبَ وتَنَفَّشَ، وتَقَتَّرَ للأَمْرِ: تَهَيَّأَ لَهُ وغَضِبَ، وتَقَتَّرَ فلانٌ للقِتَالِ: مثل تَقَطَّرَ. وقال الزمخشريّ: تَقَتَّر للأَمْرِ، إِذا تَلَطَّفَ له، وهو مَجاز و. تَقَتَّرَ فُلانًا: حاوَلَ خَتْلَهُ والاسْتِمْكَانَ به، كاسْتَقْتَرَه، الأَخيرةُ عن الفارسيّ، وقد تَقَتَّرَ عَنْه وتَقَطَّرَ، إِذا تَنَحَّى، قال الفرزدقُ:

وكُنَّا به مُسْتَأْنِسِينَ كأَنَّهُ *** أَخٌ أَو خَلِيطٌ عن خَلِيطٍ تَقَتَّرَا

والتَّقَاتُرُ: التَّخاتُل، عنه أَيضًا.

والقَتْرُ، بالفَتْح: القَدْرُ، كالتَّقْتِيرِ؛ هكذا ذَكَرَهُمَا صاحبُ اللّسَان. يقال: قَتَرَ ما بَيْنَ الأَمْرَيْن، وقَتَّرَه: قَدَّرَه. وقال الصاغانيّ: القَتْرُ، بالفَتْح: التَّقْدِيرُ. يقال: اقْتُرْ رُؤُوسَ المَسَامِيرِ؛ أَي قَدِّرْهَا، فلا تُغلِّظْهَا فتَخْرِمَ الحَلْقَةَ، ولا تُدَقِّقها فتَمْرَجَ وتَسْلَس. ويُصِدِّق ذلك قولُ دُرَيْدِ بنِ الصِّمَّة:

بَيْضَاءُ لا تُرْتَدَى إِلَّا إِلى فَزَعٍ *** مِنْ نَسْجِ دَاوُودَ فِيها السَّكُّ مَقْتُورُ

ويُحَرَّك.

والقِتْرُ، بالكَسْرِ: نَصْلٌ لسِهَامِ الهَدَفِ، وقال الجوهريّ: القِتْرُ: ضَرْبٌ من النِّصالِ. وفي التَّكْمِلَة: القِتْرُ: بالكسر: السَّهْمُ الذي لا نَصْلَ فيه، فيما يُقَال. وقال اللَّيْث: هي الأَقْتَارُ، وهي سِهَامٌ صِغارٌ. يقال: أُغَالِيكَ إِلى عَشْرٍ أَو أَقَلَّ، فذلِكَ القِتْرُ بلُغَة هُذَيْل، يُقَال: كم جَعَلْتُم قِتْرَكُم؟ وأَنشد قولَ أَبي ذُؤَيْبٍ يصفُ النَّحْل:

إِذا نَهَضَتْ فِيه تَصَعَّدَ نَفْرَها *** كقِتْرِ الغِلاءِ مُسْتَدِرًّا صِيَابُهَا

القِتْرُ: سَهْمٌ صغيرٌ. والغِلَاءُ: مصدرُ غالَى بالسَّهْمِ، إِذا رَمَاه غَلْوَةً. وقال ابنُ الكَلبيّ: أَهْدَى يَكْسُومُ ابنُ أَخِي الأَشْرَم للنَّبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم سِلاحًا، فيه سَهْمٌ لَغْبٌ، وقد رُكِّبت مِعْبَلَةٌ في رُعْظِه، فقَوَّم فُوقَه، وقال: هو مُسْتَحْكِمُ الرِّصافِ، وسَمّاهُ قِتْرَ الغِلَاءِ.

والقِتْرُ والقِتْرَةُ أَيضًا: نَصْلٌ كالزُّجِّ حَدِيدُ الطَّرْفِ قَصِيرٌ نحوٌ من قَدْرِ الإِصبع، أَو قَصَبٌ يُرْمَى بها الْهَدَفُ. وقِيلَ: القتْرَةُ وَاحِدَة، والقِتْرُ جَمْعٌ، فهو على هذا من بابِ سِدْرَةٍ وسِدْرٍ. وقال أَبو حَنيفَةَ: القِتْرُ من السِّهام: مثلُ القُطْبِ، واحِدَتُه قِتْرَةٌ، والقِتْرَةُ والسِّرْوَة واحِدٌ.

والقَتِرُ، ككَتِفٍ: المُتَكَبِّرُ، عن ثعلب، وأَنشد:

نَحْنُ أَجَزْنَا كُلَّ ذَيّالٍ قَتِرْ *** في الحَجِّ من قَبْلِ دَآدِي المُؤْتَمِرْ

ومن المَجَاز: لاحَ به القَتِيرُ، كَأَمِير: الشِّيْبُ، أَوْ أَوّلُه.

وأَصلُ القَتِير رُؤُوسُ مَسَامِير حَلَقِ الدُّرُوعِ تَلُوحُ فيها، شَبَّهَ به الشَّيْبَ إِذا نَقَّبَ في سَوَادِ الشَّعرِ، ولو قال «الدِّرْع» كما في الصحاح كانَ أَحسنَ. وقرأْتُ في كِتاب «الدِّرْع والبَيْضَة» لأَبي عُبَيْدَةَ مَا نصّه: ويُقَال لطَرَفَيِ الحِرْباءِ اللَّذَيْنِ هُمَا نِهَايَةُ الحِرْبَاءِ، من ناحِيَتَيْ طَرَفَيِ الحَلْقَةِ، ثم يُدَقَّانِ فيَعْرُضَانِ لئلّا يَخرُجَا من الخَرْت، وكأَنّهما عَيْنَا الجَرَادَةِ: قَتِيرَانِ، والجَمْع قَتَائِرُ وقُتُرٌ، ويُقَال للقَتِيرِ إِذا كانَ مُدَاخَلًا ولا يَكَادُ يُرَى من اسْتوَائه بالحَلْقَةِ: قَتِيرٌ مُعَقْرَبٌ، قال:

وزُرْق من الماذِيِّ كَرَّهَ طَعْمَهَا *** إِلى المَشْرَفِيّاتِ القَتِيرُ المُعَقْرَبُ

ويُشَبَّهُ القَتِيرُ بحَذَقِ الجَرادِ، وبحَدَقِ الأَساوِدِ، وبالقَطْر من المَطَرِ. وذَكَرَ لها شَواهِدَ ليس هذا مَحَلَّها.

والقاتِرُ والمُقْتِرُ، كمُحْسِن، الأَخيرةُ للصاغانيّ، مِنَ الرِّحالِ والسُّرُوجِ: الجَيِّدُ الوُقُوعِ على الظَّهْرِ؛ أَي ظَهْرِ البَعِيرِ، أَو اللَّطِيفُ منها، وقِيل: هو الذي لا يَسْتَقْدِمُ ولا يَسْتَأْخِرُ وقال أَبو زَيْد: هو أَصْغَرُ السُّروجِ. وقَرأْتُ في «كتاب السَّرْج واللِّجام» لابنِ دُرَيْد، في بابِ صفاتِ السَّرْج: وسَرْجٌ قاتِرٌ، إِذا كَانَ حَسَنَ القَدِّ مُعْتَدِلًا، ويُقَابِلُهُ الحَرَجُ.

والقُتْرَةُ، بالضَّمّ: نامُوسُ الصائدِ الحَافِظُ لِقُتَارِ الإِنْسَان؛ أَي رِيحِه، كما في البَصَائر، وقد أَقْتَرَ فِيها، هكذا في النُّسَخ من باب الإِفْعَال، والصَّوابُ كما في اللّسَان والأَسَاس: «اقْتَتَرَ فيها» من باب الافْتِعَال، قال الزمخشريّ: أَي اسْتَتَر. وتَقَتَّر للصَّيدِ: تَخَفَّى في القُتْرَة ليَخْتِلَه. وقال أَبو عُبَيْدَة: القُتْرَةُ: البِئْرُ يَحْتَفِرُهَا الصائدُ يَكْمُنُ فِيها، وجَمْعُهَا قُتَرٌ والقُتْرَةُ: كُثْبَةٌ من بَعرِ أَو حَصًى تكونُ قُتَرًا قُتَرًا. قال الأَزهريّ: أَخاف أَنْ يَكُونَ تصحيفًا، وصَوابُه القُمْزَةُ، والجَمْعُ قُمَز، للكُثْبَةِ من الحَصَى وغَيْرِه.

وقَتَرَ الشي‌ءَ: ضَمَّ بعضَه إِلى بَعْضٍ، وكذلك قَتَّرَه، بالتَّشْدِيد، كما تقدّم، وقَتَرَ الدِّرْعَ: جَعَلَ لها قَتِيرًا؛ أَي مِسْمَارًا؛ نَقله الصاغانيّ. وقَتَرَ الشَّيْ‌ءَ: لَزِمَه، كأَقْتَرَ، نقله الصاغانيّ، ونَصّ عِبَارِته: وأَقْتَرَ الرَّجُلُ، إِذا لَزِمَ، مِثْلُ قَتَرَ.

ومن المَجَازِ: عَضَّهُ ابنُ قِتْرَةَ، بالكَسْرِ: حَيَّةٌ خَبِيثَةٌ إِلى الصِّغَر ما هُوَ، لا يَنْجُو سَمِيمُهَا مشتقٌّ من قِتْرَةِ السَّهْمِ، وقيل: هو بِكْرُ الأَفْعَى، وهو نَحْوُ الشِّبْر، يِنْزُو ثمّ يَقَعُ. وقال شَمِرٌ: ابنُ قِتْرَةَ: حَيَّةٌ صغيرةٌ تَنْطَوِي ثم تَنْزُو في الرَّأْس، والجمعُ بَناتُ قِتْرَةَ. وقال ابنُ شُمَيْل: هو أُغَيْبرُ اللَّوْنِ صَغِيرٌ أَرْقَطُ يَنْطَوِي ثم يَنْقُزُ ذِراعًا أَو نحوَها؛ وهو لا يُجْرَى، يُقَالُ: هذا ابنُ قِتْرَةَ. وأَنشد:

له مَنْزِلٌ أَنْفُ ابنِ قِتْرَةَ يَقْتَرِي *** بِهِ السّمَّ لم يَطْعَمْ نُقَاخًا ولا بَرْدَا

وقِتْرَةُ مَعْرِفةٌ لا يَنْصرِف. وصَرَّحَ الزَّمخشريّ أَنّها إِنّمَا سُمِّيَتْ بذلك كأَنَّ لها قِتْرَةً تَرْمِي بها، قال:

أَحْدُو لِمَوْلاتِي وتُلْقِي كِسْرَهْ *** وإِنْ أَبَتْ فعَضَّها ابنُ قِتْرَهْ

ومن المَجاز: أَبو قِتْرَةَ: إِبْلِيسُ، لَعَنَهُ الله تعالَى، وهي كُنْيَتُه، أَو قِتْرَةُ: عَلَمٌ للشَّيْطَانِ، وفي الحَدِيث: «تَعَوَّذُوا بالله من الأَعْمَيَيْنِ، ومن قِتْرَةَ وما وَلَدَ».

قال الخَطّابِيّ في إِصلاح الأَلفاظ: يُرِيدُ بالأَعْمَيَيْن الحَرِيقَ والسَّيْلَ.. وقِتْرَةُ، بكَسْرٍ فَسُكُون: من أَسماءِ إِبْلِيسَ. وقيل: كُنْيَتُه أَبو قِتْرَةَ.

وهكذا نقَلَهُ الحَافِظُ في التَّبْصِير.

وأَقْتَرَ الرَّجُلُ: افْتَقَر، قال:

لَكُمْ مَسْجِدَ الله المَزُورَانِ، والحَصَى *** لَكُمْ قِبْصُهُ من بَيْنِ أَثْرَى وأَقْتَرَا

يريدُ من بَيْنِ من أَثْرَى وأَقْتَر. وفي الحَدِيثِ: «فَأَقْتَرَ أَبَواه حَتَّى جَلَسَا مع الأَوْفاض»؛ أَي افْتَقَرا حَتّى جَلَسَا مع الفُقَرَاءِ. ويُقَالُ: أَقْتَر: قَلَّ مالُه ولَهُ بَقِيَّةٌ مع ذلك. فهو مُقْتِرٌ. وأَقْترَتِ المَرْأَةُ فهي مُقْتِرَةٌ، إِذا تَبَخَّرَت بالعُودِ، قال الشاعِر:

تَرَاهَا الدَّهْرَ مُقْتِرَةً كِبَاءً *** ومِقْدَحَ صَفْحَةٍ فيها نَقِيعُ

والقَتُورُ، كصَبُور: البَخِيلُ، يقال: رَجُلٌ مُقَتِّرٌ وقَتُورٌ.

وقولُه تعالى: {وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا} تَنْبيهٌ على ما جُبِلَ عليه الإِنْسَانُ من البُخْل؛ كذا في البَصَائر.

وقُتَيْرَةُ، كجُهَيْنَةَ: اسمٌ، وقُتَيْرَةُ: أَبو قَبِيلَةٍ من تُجِيبَ، منهم المُحَدِّثانِ مُحَمّدُ بنُ رَوْحٍ، حَدَّث عن جماعَة، وعنه الحَسَنُ بنُ داوُودَ بنِ وَرْدَانَ؛ والحَسَنُ بنُ العَلاءِ القُتَيْرِيّانِ، عن عَبْدِ الصَّمَدِ بنِ حَسّانَ، وعنه جابِرُ بنُ قَطَنٍ الخُجَنْديّ. وفاتَهُ حَبِيبُ بنُ الشّهِيدِ القُتَيْرِيُّ، مَوْلَى عُقْبَةَ بنِ نَجْدَةَ القُتَيْرِيِّ، رَوَى عنه يَزِيدُ بن أَبِي حَبِيب؛ هكذا ضَبَطَهُ الأَئِمَّة بالتَّصْغِيرِ في كلّ ذلك، وضَبَطَهُ الحافِظُ في التَّبْصِير بفَتْح فكَسر.

* ومّما يُسْتَدْرك عليه:

الْقُتْرَة، بالضَّمِّ: ضِيقُ العَيْشِ، وهو مَجازٌ.

ولحمٌ قاتِرٌ، إِذا كانَ لَهُ قُتَارٌ، لِدَسَمِه، ورُبّمَا جَعَلَتِ العربُ الشَّحْمَ واللَّحْمَ قُتَارًا، ومنه قولُ الفَرَزْدَقِ:

إِلَيْكَ تَعَرَّقْنَا الذُّرَا برِحَالِنَا *** وكُلَّ قُتَارٍ في سُلامَى وفي صُلْبِ

وكِبَاءٌ مُقَتَّر، كمُعَظَّم.

وقَتَرَتِ النارُ: دَخَّنَت. وأَقْتَرتُهَا أَنا.

واسْتَقْتَرَهُ: حاوَلَ الاسْتمكانَ به؛ عن الفَارِسيّ.

والقُتْرَةُ، بالضَّمّ: صُنْبُورُ القَنَاةِ. وقِيل: هو الخَرْقُ الَّذِي يَدْخُل منه الماءُ الحائطَ، وهو مَجاز.

ورَحْلٌ قاتِرٌ؛ أَي قَلقٌ لا يَعْقِرُ ظَهْرَ البَعِيرِ. وفي الأَساسِ: إِذا كانَ قَدْرًا لا يَمُوجُ فيَعْقِر.

والقَتِيرُ: الدِّرْعُ نَفْسُها، قال سَاعِدَةُ بن جُؤَيَّةَ:

ضَبْرٌ لِبَاسُهُمُ القَتِيرُ مُؤَلَّبُ

وهو مما جاءَ بَعْض ما في الدّرعِ فقامَ مَقَامَ الدِّرْعِ، وهو مستدرَكٌ على أَبي عُبَيْدَة، فإِنّه لم يذكُرْه في كِتابه.

والقُتْرَة، بالضَّمّ: الكُوَّةُ، والجَمْعُ القُتَر، ومنه قولُهم: اطَّلَعْنَ من القُتَرِ؛ أَي الكُوَى وهُوَ مجازٌ، وبه فُسِّرَ حَدِيثُ أَبي أُمَامَة رضي ‌الله‌ عنه: «مَن اطَّلعَ من قُتْرَةٍ ففُقِئَتْ عَيْنُه فَهِيَ هَدَرٌ».

والقُتْرَةُ أَيضًا: النافِذَة، وعَيْنُ التَّنُّورِ، وحَلْقَةُ الدِّرْعِ. وقُتْرةُ البابِ: مَكانُ الغَلقِ؛ وكُلُّ ذلك مَجاز.

وجَوْبٌ قاتِرٌ؛ أَي تُرْسٌ حَسَنُ التَّقْدِيرِ. ومنه قولُ أَبي دَهْبَلٍ الجُمَحِيّ:

دِرْعِي دِلَاصٌ شَكُّهَا شَكٌّ عَجَبْ *** وَجَوْبُهَا القاتِرُ من سَيْرِ اليَلَبْ

وفي الحَدِيث: «يُقَتِّرُ بَيْنَ يَدَيْه» قال ابنُ الأَثِير: أَي يُسوِّي لَهُ النُّصُولَ، ويَجْمَع له السِّهَامَ. من التَّقْتِير، وهو إِدْنَاءُ أَحَدِهِمَا إِلى الآخَر.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


19-لسان العرب (قتر)

قتر: القَتْرُ والتَّقْتِيرُ: الرُّمْقةُ مِنَ الْعَيْشِ.

قَتَرَ يَقْتِرُ ويَقْتُر قَتْرًا وقُتورًا، فَهُوَ قاتِرٌ وقَتُور وأَقْتَرُ، وأَقْتَرَ الرَّجُلُ: افْتَقَرَ؛ قَالَ:

لَكُمْ مَسْجِدا اللهِ: المَزورانِ، والحَصى ***لَكُمْ قِبْصُهُ مِنْ بَيْنِ أَثْرَى وأَقْتَرَا

يُرِيدُ مِنْ بَيْنِ مَنْ أَثْرَى وأَقْتَر؛ وَقَالَ آخَرُ: " وَلَمْ أُقْتِرْ لَدُنْ أَني غلامُ وقَتَّر وأَقْتَرَ، كِلَاهُمَا: كَقَتَر.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}، وَلَمْ يَقْتُرُوا "؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يُقَتِّروا عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ.

يُقَالُ: قَتَرَ وأَقْتَر وقَتَّر بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وقَتَرَ عَلَى عِيَالِهِ يَقْتُرُ ويَقْتِرُ قَتْرًا وقُتُورًا أَي ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ.

وَكَذَلِكَ التَّقْتيرُ والإِقْتارُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ.

اللَّيْثُ: القَتْرُ الرُّمْقةُ فِي النَّفَقَةِ.

يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُنْفِقُ عَلَى عِيَالِهِ إِلا رُمْقةً أَي مَا يُمْسِكَ إِلا الرَّمَقَ.

وَيُقَالُ: إِنه لَقَتُور مُقَتِّرٌ.

وأَقْتر الرجلُ إِذا أَقَلَّ، فَهُوَ مُقتِرٌ، وقُتِرَ فَهُوَ مَقْتُور عَلَيْهِ.

والمُقْترُ: عَقِيبُ المُكْثرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «بسُقْمٍ فِي بَدَنِهِ وإِقْتارٍ في رزقه»؛ والإِقْتارُ: التَّضْيِيقُ عَلَى الإِنسان فِي الرِّزْقِ.

وَيُقَالُ: أَقْتَر اللَّهُ رِزْقَهُ أَي ضَيَّقه وَقَلَّلَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مُوسَّع عَلَيْهِ فِي الدُّنِيَا ومَقْتُور عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ».

وَفِي الْحَدِيثِ: «فأَقْتَر أَبواه حَتَّى جَلسَا مَعَ الأَوْفاضِ»أَي افْتَقَرَا حَتَّى جَلَسَا مَعَ الْفُقَرَاءِ.

والقَتْر: ضِيقُ الْعَيْشِ، وَكَذَلِكَ الإِقْتار.

وأَقْتَر: قلَّ مَالُهُ وَلَهُ بَقِيَّةٌ مَعَ ذَلِكَ.

والقَتَرُ: جَمْعُ القَتَرةِ، وَهِيَ الغَبَرة؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ}؛ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ، وأَنشد لِلْفَرَزْدَقِ:

مُتَوَّج برِداء المُلْكِ يَتْبَعُه ***مَوْجٌ، تَرى فوقَه الرَّاياتِ والقَتَرا

التَّهْذِيبِ: القَتَرةُ غَبَرة يَعْلُوهَا سَوَادٌ كَالدُّخَانِ، والقُتارُ رِيحُ القِدْر، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الشِّواءِ وَالْعَظْمِ المُحْرَقِ وَرِيحِ اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ.

ولحمٌ قاترٌ إِذا كَانَ لَهُ قُتار لدَسَمه، وَرُبَّمَا جَعَلَتِ الْعَرَبُ الشَّحْمَ وَالدَّسَمَ قُتارًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الفرزدق:

إِليكَ تَعَرَّفْنَا الذُّرَى بِرحالِنا، ***وكلِّ قُتارٍ فِي سُلامَى وَفِي صُلْبِ

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا تُؤْذِ جارَك بقُتار قِدْرك»؛ هُوَ رِيحُ القِدْر والشِّواءِ وَنَحْوِهِمَا.

وقَتِرَ اللحمُ.

وقَتَرَ يَقْتِرُ، بِالْكَسْرِ، ويَقْتُر وقَتَّرَ: سَطَعَتْ رِيحُ قُتارِهِ.

وقَتَّرَ للأَسد: وَضَعَ لَهُ لَحْمًا فِي الزُّبْيةِ يَجِدُ قُتارَهُ.

والقُتارُ: رِيحُ العُودِ الَّذِي يُحْرق فَيُدَخَّنُ بِهِ؛ قَالَ الأَزهري: هَذَا وَجْهٌ صَحِيحٌ وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ آخِرُ رَائِحَةِ العُود إِذا بُخِّرَ بِهِ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ الْمَصَادِرِ، قَالَ: والقُتارُ عِنْدَ الْعَرَبِ رِيحُ الشِّواءِ إِذا ضُهّبَ عَلَى الجَمْر، وأَما رَائِحَةُ العُود إِذا أُلقي عَلَى النَّارِ فإِنه لَا يُقَالُ لَهُ القُتارُ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ وَصَفَتِ اسْتِطَابَةَ المُجْدِبين رائحةَ الشِّواءِ أَنه عِنْدَهُمْ لِشِدَّةُ قَرَمِهم إِلى أَكله كَرَائِحَةِ العُود لِطيبِهِ فِي أُنوفهم.

والتَّقْتيرُ: تَهْيِيجُ القُتارِ، والقُتارُ: رِيحُ البَخُور؛ قَالَ طَرَفَةُ:

حِينَ قَالَ القومُ فِي مَجْلِسِهمْ: ***أَقُتَارٌ ذَاكَ أَم رِيحُ قُطُرْ؟

والقُطْرُ: العُود الَّذِي يُتَبَخَّر بِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الأَعشى:

وإِذا مَا الدُّخان شُبِّهَ بالآنُفِ ***يَوْمًا بشَتْوَةٍ أَهْضامَا

والأَهْضام: الْعُودُ الَّذِي يُوقَدُ ليُسْتَجْمَر بِهِ؛ قَالَ لَبِيدٌ فِي مثله:

ولا أَضِنُّ بمَغْبوطِ السَّنَامِ، إِذا ***كَانَ القُتَارُ كما يُسْتَرْوحُ القُطُرُ

أَخْبَرَ أَنه يَجُود بإِطعام اللَّحْمِ فِي المَحْل إِذا كَانَ رِيحُ قُتارِ اللَّحْمِ عِنْدَ القَرِمينَ كَرَائِحَةِ الْعُودِ يُبَخَّر بِهِ.

وكِباءٌ مُقَتَّر، وقَتَرت النارُ: دَخَّنَت، وأَقْتَرْتُها أَنا؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

تَراها، الدَّهْرَ، مُقْتِرةً كِباءً، ***ومِقْدَحَ صَفْحةٍ، فِيهَا نَقِيعُ

وأَقْتَرَت المرأَةُ، فَهِيَ مُقْترةٌ إِذا تَبَخَّرَتْ بِالْعُودِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «وَقَدْ خَلَفَتْهم قَتَرةُ رسولِ الله، صلى الله عليه وَسَلَّمَ»؛ القَتَرةُ: غَبَرةُ الْجَيْشِ، وخَلَفَتْهم أَي جَاءَتْ بَعْدَهُمْ.

وقَتَّر الصائدُ لِلْوَحْشِ إِذا دَخَّن بأَوبار الإِبل لِئَلَّا يَجِدَ الصيدُ ريحَه فَيهْرُبَ مِنْهُ.

والقُتْر والقُتُر: النَّاحِيَةُ وَالْجَانِبُ، لُغَةٌ فِي القُطْر، وَهِيَ الأَقْتار والأَقْطار، وَجَمْعُ القُتْر والقُتُر أَقْتار.

وقَتَّرهُ: صَرَعَهُ عَلَى قُتْرة.

وتَقَتَّر فلانٌ أَي تهيأَ لِلْقِتَالِ مِثْلُ تَقَطَّرَ.

وتَقَتَّر للأَمر: تهيأَ لَهُ وَغَضِبَ، وتَقَتَّرهُ واسْتَقْتَرهُ: حاولَ خَتْلَه والاسْتِمكانَ بِهِ؛ الأَخيرة عَنِ الْفَارِسِيِّ، والتَّقَاتُر: التَّخاتل؛ عَنْهُ أَيضًا، وَقَدْ تَقَتَّر فُلَانٌ عَنَّا وتَقَطَّر إِذا تَنَحَّى؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

وكُنَّا بهِ مُسْتَأْنِسين، كأَنّهُ ***أَخٌ أَو خَلِيطٌ عَنْ خَليطٍ تَقَتَّرَا

والقَتِرُ: الْمُتَكَبِّرُ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ، وأَنشد:

نَحْنُ أَجَزْنا كلَّ ذَيَّالٍ قَتِرْ ***فِي الحَجِّ، مِنْ قَبْلِ دَآدِي المُؤْتَمِرْ

وقَتَرَ مَا بَيْنَ الأَمرين وقَتَّره: قَدَّره.

اللَّيْثُ: التَّقتيرُ أَن تُدْنِي مَتَاعَكَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ أَو بعضَ رِكابك إِلى بَعْضٍ، تَقُولُ: قَتَّر بَيْنَهَا أَي قَارَبَ.

والقُتْرةُ: صُنْبور الْقَنَاةِ، وَقِيلَ هُوَ الخَرْق الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ الْمَاءُ الْحَائِطَ.

والقُتْرةُ: نَامُوسُ الصَّائِدِ، وَقَدِ اقْتَتَرَ فِيهَا.

أَبو عُبَيْدَةَ: القُتْرةُ الْبِئْرُ يَحْتَفِرُهَا الصَّائِدُ يَكْمُن فِيهَا، وَجَمْعُهُا قُتَر.

والقُتْرةُ: كُثْبَةٌ مِنْ بَعْرٍ أَو حَصًى تَكُونُ قُتَرًا قُتَرًا.

قَالَ الأَزهري: أَخاف أَن يَكُونَ تَصْحِيفًا وَصَوَابُهُ القُمْزة، وَالْجَمْعُ القُمَزُ، والكُثْبة مِنَ الْحَصَى وَغَيْرِهِ.

وقَتَرَ الشيءَ: ضمَّ بعضَه إِلى بَعْضٍ.

والقاترُ مِنَ الرِّحَالِ وَالسُّرُوجِ: الجَيِّدُ الوقوعِ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ، وَقِيلَ: اللَّطِيفُ مِنْهَا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَقْدمُ وَلَا يَسْتَأْخِرُ، وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: هُوَ أَصغر السُّرُوجِ.

ورحْل قاتِرٌ أَي قَلِقٌ لَا يَعْقِرُ ظهرَ الْبَعِيرِ.

والقَتِيرُ: الشَّيْبُ، وَقِيلَ: هُوَ أَوّل مَا يَظْهَرُ مِنْهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن رَجُلًا سأَله عَنِ امرأَة أَراد نِكَاحَهَا قَالَ: وبِقَدْرِ أَيّ النِّسَاءِ هِي؟ قَالَ: قَدْ رَأَتِ القَتِيرَ، قَالَ: دَعْها»؛ القَتيرُ: المَشيب، وأَصلُ القَتِير رؤوسُ مَسَامِيرِ حَلَق الدُّرُوعِ تُلَوِّحُ فِيهَا، شُبّه بِهَا الشَّيْبُ إِذا نَقَبَ فِي سَوَادِ الشَّعْرِ.

الْجَوْهَرِيُّ: والقَتِيرُ رؤوس الْمَسَامِيرِ فِي الدِّرْعِ؛ قَالَ الزَّفَيانُ: " جَوارنًا تَرَى لَهَا قَتِيرَا وَقَوْلُ سَاعِدَةَ بْنِ جُؤَيَّةَ: ضَبْرٌ لباسُهُمُ القَتِيرُ مُؤَلَّب القَتِيرُ: مَسَامِيرُ الدِّرْعِ، وأَراد بِهِ هَاهُنَا الدِّرْعَ نَفْسِهَا.

وَفِي حَدِيثِ أَبي أُمَامَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: «مَنِ اطَّلَعَ مِنْ قُتْرةٍ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ فَهِيَ هَدَرٌ»؛ الْقُتْرَةُ، بِالضَّمِّ: الكُوَّة النَّافِذَةُ وَعَيْنُ التَّنُّور وَحَلْقَةُ الدِّرْعِ وَبَيْتُ الصَّائِدِ، وَالْمُرَادُ الأَول.

وجَوْبٌ قاتِرٌ أَي تُرْس حَسَنُ التَّقْدِيرِ؛ وَمِنْهُ قول" أَبي دَهْبَلٍ الجُمَحي:

دِرْعِي دِلاصٌ شَكُّها شَكٌّ عَجَبْ، ***وجَوْبُها القاتِرُ مِنْ سَيْرِ اليَلَبْ

والقِتْرُ والقِتْرةُ: نِصال الأَهْداف، وَقِيلَ: هُوَ نَصْل كالزُّجّ حديدُ الطَّرَفِ قَصِيرٌ نَحْوٌ مِنْ قَدْرِ الأُصبع، وَهُوَ أَيضًا الْقَصَبُ الَّذِي تُرْمَى بِهِ الأَهداف، وَقِيلَ: القِتْرةُ وَاحِدٌ والقِتْرُ جَمْعٌ، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنْ بَابِ سِدْرة وسِدْرٍ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ يَصِفُ النَّخْلَ:

إِذا نَهَضَتْ فِيهِ تَصَعَّدَ نَفْرُها، ***كقِتْرِ الغِلاءِ مُسْتَدِرٌّ صِيَابُها

الْجَوْهَرِيُّ: والقِتْرُ، بِالْكَسْرِ، ضَرْبٌ مِنَ النِّصال نَحْوٌ مِنَ المَرْماة وَهِيَ سَهْمُ الهَدَف، وَقَالَ اللَّيْثُ: هِيَ الأَقْتار وَهِيَ سِهام صِغَارٌ؛ يُقَالُ: أُغاليك إِلى عَشَرٍ أَو أَقلّ وَذَلِكَ القِتْرُ بِلُغَةِ هُذَيْل.

يُقَالُ: كَمْ فَعَلْتُمْ قِتْرَكُمْ، وأَنشد بَيْتَ أَبي ذُؤَيْبٍ.

ابْنُ الْكَلْبِيِّ: أَهْدى يَكْسُومُ ابْنُ أَخي الأَشْرَم لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحًا فِيهِ سَهْمُ لَعِبٍ قَدْ رُكِّبَتْ مِعْبَلَةٌ فِي رُعْظِهِ فَقَوَّم فُوقَهُ وَقَالَ: هُوَ مُسْتَحْكِمُ الرِّصافِ، وَسَمَّاهُ قِتْرَ الغِلاء.

وَرَوَىحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ثَابِتٍ عَنْ أَنس: أَن أَبا طَلْحَةَ كَانَ يَرْمي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَتِّر بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَانَ رَامِيًا، فَكَانَ أَبو طَلْحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، يَشُور نَفْسَه وَيَقُولُ لَهُ إِذا رَفَع شَخْصه: نَحْري دُونَ نَحْرِك يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ يُقَتِّرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ ابْنُ الأَثير: يُقَتِّر بَيْنَ يَدَيْهِ أَي يُسَوّي لَهُ النصالَ ويَجْمع لَهُ السهامَ، مِنَ التَّقْتِير، وَهُوَ الْمُقَارَبَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وإِدناء أَحدهما مِنَ الْآخَرِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ من القِتْر، وَهُوَ نَصْل الأَهداف، وَقِيلَ: القِتْرُ سَهْمٌ صَغِيرٌ، والغِلاءُ مَصْدَرُ غَالَى بِالسَّهْمِ إِذا رَمَاهُ غَلْوةً؛ وَقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: القِتْر مِنَ السِّهَامِ مِثْلُ القُطْب، وَاحِدَتُهُ قِتْرةٌ؛ والقِتْرَة والسِّرْوَةُ وَاحِدٌ.

وَابْنُ قِتْرَةَ: ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ خَبِيثٌ إِلى الصِّغَرِ مَا هُوَ لَا يُسْلَمُ مِنْ لَدْغِهَا، مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ بِكْر الأَفْعى، وَهُوَ نَحْوٌ مَنِ الشِّبْرِ يَنْزو ثُمَّ يَقَعُ؛ شَمِرٌ: ابْنُ قِتْرَةَ حَيَّةٌ صَغِيرَةٌ تَنْطَوِي ثُمَّ تَنْزو فِي الرأْس، وَالْجَمْعُ بَنَاتُ قِتْرةَ؛ وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: هُوَ أُغَيْبِرُ اللَّوْنِ صَغِيرٌ أَرْقَطُ يَنْطَوِي ثُمَّ يَنْقُز ذِرَاعًا أَو نَحْوَهَا، وَهُوَ لَا يُجْرَى؛ يُقَالُ: هَذَا ابنُ قِتْرَة؛ وأَنشد:

لَهُ منزلٌ أَنْفُ ابنِ قِتْرَةَ يَقْتَري ***بِهِ السَّمَّ، لَمْ يَطْعَمْ نُقاخًا وَلَا بَرْدَا

وقِتْرَةُ مُعَرَّفَةً لَا يَنْصَرِفُ.

وأَبو قِتْرة: كُنْيَةُ إِبليس.

وَفِي الْحَدِيثِ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ قِتْرةَ وَمَا وَلَد»؛ هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التاء، اسم إِبليس.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


20-لسان العرب (سرف)

سرف: السَّرَف والإِسْرَافُ: مُجاوزةُ القَصْدِ.

وأَسْرَفَ فِي مَالِهِ: عَجِلَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وأَما السَّرَفُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، قَلِيلًا كَانَ أَو كَثِيرًا.

والإِسْرافُ فِي النَّفَقَةِ: التبذيرُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}؛ قَالَ سُفْيَانُ: لَمْ يُسْرِفُواأَي لَمْ يضَعُوه فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلَمْ يَقْتُرُوا لَمْ يُقَصِّروا بِهِ عَنْ حَقِّهِ؛ وَقَوْلُهُ وَلَا تُسْرِفُوا، الإِسْرافُ أَكل مَا لَا يَحِلُّ أَكله، وَقِيلَ: هُوَ مُجاوزةُ الْقَصْدِ فِي الأَكل مِمَّا أَحلَّه اللَّهُ، وَقَالَ سُفْيَانُ: الإِسْراف كُلُّ مَا أُنفق فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ إياسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: الإِسرافُ مَا قُصِّر بِهِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ.

والسَّرَفُ: ضِدَّ القصد.

وأَكَلَه" سَرَفًا أَي في عَجَلة.

وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافًا وَبِدارًا أَنْ يَكْبَرُوا أَي ومُبادَرة كِبَرهِم، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِسْرافًا أَي لَا تَأَثَّلُوا مِنْهَا وَكُلُوا الْقُوتَ عَلَى قَدْرِ نَفْعِكم إِيَّاهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى مَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أَي يأْكل قَرْضًا وَلَا يأْخذْ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا لأَن الْمَعْرُوفَ أَن يأْكل الإِنسان مَالَهُ وَلَا يأْكل مَالَ غَيْرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}.

وأَسْرَفَ فِي الْكَلَامِ وَفِي الْقَتْلِ: أَفْرَط.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: اخْتُلِفَ فِي الإِسراف فِي الْقَتْلِ فَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِ صَاحِبِهِ، وَقِيلَ: أَن يَقْتُلَ هُوَ القاتلَ دُونَ السُّلْطَانِ، وَقِيلَ: هُوَ أَن لَا يَرْضى بِقَتْلِ وَاحِدٍ حَتَّى يَقْتُلَ جَمَاعَةً لِشَرَفِ الْمَقْتُولِ وخَساسة الْقَاتِلِ أَو أَن يَقْتُلَ أَشرف مِنَ الْقَاتِلِ؛ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ وَإِذَا قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ فَقَدْ أَسْرَفَ، والسَّرَفُ: تجاوُزُ مَا حُدَّ لَكَ.

والسَّرَفُ: الخطأُ، وأَخطأَ الشيءَ: وَضَعَه فِي غَيْرِ حَقِّه؛ قَالَ جَرِيرٌ يَمْدَحُ بَنِي أُمية:

أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدوها ثمانِيةٌ، ***مَا فِي عَطائِهمُ مَنٌّ وَلَا سَرَفُ

أَي إغْفالٌ، وَقِيلَ: وَلَا خَطَأٌ، يُرِيدُ أَنهم لَمْ يُخْطِئوا فِي عَطِيَّتِهم وَلَكِنَّهُمْ وضَعُوها مَوْضِعَهَا أَي لَا يخْطِئون مَوْضِعَ العَطاء بأَن يُعْطُوه مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَيَحْرِمُوهُ الْمُسْتَحِقَّ.

شِمْرٌ: سَرَفُ الْمَاءِ مَا ذهَب مِنْهُ فِي غَيْرِ سَقْي وَلَا نَفْع، يُقَالُ: أَروت البئرُ النخيلَ وَذَهَبَ بَقِيَّةُ الْمَاءِ سَرَفًا؛ قَالَ الْهُذَلِيُّ:

فكأَنَّ أَوساطَ الجَدِيّةِ وَسْطَها، ***سَرَفُ الدِّلاء مِنَ القَلِيبِ الخِضْرِم

وسَرِفْتُ يَمينَه أَي لَمْ أَعْرِفْها؛ قَالَ ساعِدةُ الهذلي:

حَلِفَ امْرِئٍ بَرٍّ سَرِفْتُ يَمِينَه، ***ولِكُلِّ مَا قَالَ النُّفُوسُ مُجَرّبُ

يَقُولُ: مَا أَخْفَيْتُك وأَظْهَرْت فَإِنَّهُ سَيَظْهَرُ فِي التَّجْرِبةِ.

والسَّرَفُ: الضَّراوةُ.

والسَّرَفُ: اللَّهَجُ بِالشَّيْءِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: إنَّ للَّحْم سَرَفًا كسَرَفِ الْخَمْرِ»؛ يُقَالُ: هُوَ مِنَ الإِسْرافِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: أَي ضَراوةً كضراوةِ الْخَمْرِ وَشِدَّةً كشدَّتها، لأَن مَنِ اعتادَه ضَرِيَ بأَكله فأَسْرَفَ فِيهِ، فِعْلَ مُدْمِن الْخَمْرِ فِي ضَراوته بِهَا وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَقِيلَ: أَراد بالسرَفِ الْغَفْلَةَ؛ قَالَ شَمِرٌ: وَلَمْ أَسمع أَن أَحَدًا ذَهب بالسَّرَفِ إِلَى الضَّرَاوَةِ، قَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لَهُ وَهُوَ ضِدُّهُ؟ وَالضَّرَاوَةُ لِلشَّيْءِ: كثرةُ الاعتِياد لَهُ، والسَّرَف بِالشَّيْءِ: الجهلُ بِهِ، إِلَّا أَن تَصِيرَ الضراوةُ نفسُها سَرَفًا، أَي اعتيادُه وَكَثْرَةُ أَكله سَرَفٌ، وَقِيلَ: السَّرَفُ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الإِسرافِ وَالتَّبْذِيرِ فِي النَّفَقَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَو فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، شَبَّهَتْ مَا يَخْرج فِي الإِكثار مِنَ اللَّحْمِ بِمَا يَخْرُجُ فِي الْخَمْرِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الإِسراف فِي الْحَدِيثِ، وَالْغَالِبُ عَلَى ذِكْرِهِ الإِكثار مِنَ الذُّنُوب وَالْخَطَايَا واحْتِقابِ الأَوْزار وَالْآثَامِ.

والسَّرَفُ: الخَطَأُ.

وسَرِفَ الشيءَ، بِالْكَسْرِ، سَرَفًا: أَغْفَلَه وأَخطأَه وجَهِلَه، وَذَلِكَ سَرْفَتُه وسِرْفَتُه.

والسَّرَفُ: الإِغفالُ.

والسَّرَفُ: الجَهْلُ.

وسَرِفَ القومَ: جاوَزهم.

والسَّرِفُ: الجاهلُ وَرَجُلٌ سَرِفُ الفُؤاد: مُخْطِئُ الفُؤادِ غافِلُه؛ قَالَ طَرَفةُ:

إنَّ امْرأً سَرِفَ الفُؤاد يَرى ***عَسَلًا بِمَاءِ سَحابةٍ شَتْمِي

سَرِفُ الْفُؤَادِ أَي غَافِلٌ، وسَرِفُ الْعَقْلِ أَي قَلِيلٌ.

أَبو زيادٍ الْكِلَابِيُّ فِي حَدِيثِ: «أَرَدْتكم فسَرِفْتُكم»؛ أي أَغْفَلْتُكم.

وَقَوْلُهُ تعالى: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ}؛ كَافِرٌ شاكٌّ.

والسَّرَفُ: الْجَهْلُ.

والسَّرَفُ: الإِغْفال.

ابْنُ الأَعرابي: أَسْرَفَ الرَّجُلُ إِذَا جَاوَزَ الحَدَّ، وأَسْرَفَ إِذَا أَخْطأَ، وأَسْرَفَ إِذَا غَفَل، وأَسْرَفَ إِذا جهِلَ.

وَحَكَى الأَصمعي عَنْ بَعْضِ الأَعراب وَوَاعَدَهُ أَصحاب لَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ مَكَانًا فَأَخْلَفَهُمْ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَرَرْتُ فسَرِفْتُكم أَي أَغْفَلْتُكم.

والسُّرْفةُ: دُودةُ القَزِّ، وَقِيلَ: هِيَ دُوَيْبَّةٌ غَبْراء تَبْنِي بَيْتًا حسَنًا تَكُونُ فِيهِ، وَهِيَ الَّتِي يُضرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فَيُقَالُ: أَصْنَعُ مِنْ سُرْفةٍ، وَقِيلَ: هِيَ دُويبَّة صَغِيرَةٌ مِثْلُ نِصْفِ العَدَسة تَثْقُبُ الشَّجَرَةَ ثُمَّ تَبْنِي فِيهَا بَيْتًا مِنْ عِيدانٍ تَجْمَعُهَا بِمِثْلِ غَزْلِ الْعَنْكَبُوتِ، وَقِيلَ: هِيَ دَابَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا غَبْراء تأْتي الْخَشَبَةَ فَتَحْفِرُها، ثُمَّ تأْتي بِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ فَتَضَعُهَا فِيهَا ثُمَّ أُخرى ثُمَّ أُخرى ثُمَّ تَنْسِج مِثْلَ نَسْج الْعَنْكَبُوتِ؛ قَالَ أَبو حَنِيفَةَ: وَقِيلَ السُّرْفةُ دويبَّة مِثْلُ الدُّودَةِ إِلَى السَّوَادِ مَا هِيَ، تَكُونُ فِي الحَمْض تَبْنِي بَيْتًا مِنْ عِيدَانٍ مربعًا، تَشُدُّ أَطراف الْعِيدَانِ بِشَيْءٍ مِثْلِ غَزْل الْعَنْكَبُوتِ، وَقِيلَ: هِيَ الدُّودَةُ الَّتِي تَنْسِجُ عَلَى بَعْضِ الشَّجَرِ وتأْكل وَرَقَهُ وتُهْلِكُ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ النَّسْجِ، وَقِيلَ: هِيَ دُودَةٌ مِثْلُ الإِصبع شَعْراء رَقْطاء تأْكل وَرَقَ الشَّجَرِ حَتَّى تُعَرِّيَها، وَقِيلَ: هِيَ دُودَةٌ تَنْسِجُ عَلَى نَفْسِهَا قَدْرَ الإِصْبع طُولًا كَالْقِرْطَاسِ ثُمَّ تُدْخِلُهُ فَلَا يُوصل إِلَيْهَا، وَقِيلَ: هِيَ دويبَّة خفيفة كأَنها عنكبوت، وَقِيلَ: هِيَ دويبَّة تَتَّخِذُ لِنَفْسِهَا بَيْتًا مُرَبَّعًا مِنْ دِقَاقِ الْعِيدَانِ تُضَمُّ بَعضها إِلَى بَعْضٍ بِلُعَابِهَا عَلَى مِثَالِ النَّاوُوسِ ثُمَّ تَدْخُلُ فِيهِ وَتَمُوتُ.

وَيُقَالُ: أَخفُّ مِنْ سُرْفَة.

وأَرض سَرِفةٌ: كَثِيرَةُ السُّرْفةِ، ووادٍ سَرِفٌ كَذَلِكَ.

وسَرِفَ الطعامُ إِذَا ائْتَكل حَتَّى كأَنَّ السُّرْفَةَ أَصابته.

وسُرِفَتِ الشجرةُ: أَصابتها السُّرْفةُ.

وسَرِفَتِ السُّرْفةُ الشجرةَ تَسْرُفها سَرْفًا إِذَا أَكلت ورَقها؛ حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنه قَالَ لِرَجُلٍ: «إِذَا أَتيتَ مِنًى فَانْتَهَيْتَ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَإِنَّ هُنَاكَ سَرْحةً لَمْ تُجْرَدْ وَلَمْ تُسْرَفْ، سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا فَانْزِلْ تَحْتَهَا»؛ قَالَ الْيَزِيدِيُّ: لَمْ تُسْرَفْ لَمْ تُصِبْها السُّرْفةُ وَهِيَ هَذِهِ الدُّودَةُ الَّتِي تقدَّم شَرْحُهَا.

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: السَّرْفُ، سَاكِنُ الرَّاءِ، مَصْدَرُ سُرِفَتِ الشجرةُ تُسْرَفُ سَرْفًا إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا السُّرْفةُ، فَهِيَ مَسْرُوفةٌ.

وَشَاةٌ مَسْرُوفَةٌ: مَقْطُوعَةُ الأُذن أَصلًا.

والأُسْرُفُّ: الآنُكُ، فَارِسِيَّةٌ معرَّبة.

وسَرِفٌ: مَوْضِعٌ؛ قَالَ قَيْسُ بْنُ ذَريحٍ: " عَفا سَرِفٌ مِنْ أَهْله فَسُراوِعُ "وَقَدْ تَرَكَ بَعْضُهُمْ صَرْفَه جَعَلَهُ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عِيسَى بْنِ أَبي جَهْمَةَ اللَّيْثِيِّ وَذَكَرَ قَيْسًا فَقَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ ذَريحٍ منَّا، وَكَانَ ظَرِيفًا شَاعِرًا، وَكَانَ يَكُونُ بِمَكَّةَ وَدُونَهَا مِنْ قُدَيْدٍ وسَرِف وحولَ مَكَّةَ فِي بَوَادِيهَا.

غَيْرُهُ: وسَرِف اسْمُ مَوْضِعٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه تَزَوَّجَ مَيْمُونةَ بِسَرِف»، هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، مَوْضِعٌ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَشَرَةِ أَميال، وَقِيلَ: أَقل وَأَكْثَرُ.

ومُسْرِفٌ: اسْمٌ، وَقِيلَ: هُوَ لَقَبُ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ المُرِّي صَاحِبِ وقْعةِ الحَرَّة لأَنه قَدْ أَسْرفَ فِيهَا؛ قَالَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ:

هُمُ مَنَعُوا ذِمارِي، يومَ جاءتْ ***كتائِبُ مُسْرِفٍ، وَبَنُو اللَّكِيعَهْ

وإسرافيلُ: اسْمٌ أعْجمي كأَنه مُضَافٍ إِلَى إِيلٍ، قَالَ الأَخفش: وَيُقَالُ فِي لُغَةٍ إسْرافِينُ كَمَا قَالُوا جِبْرِينَ وإِسْمعِينَ وإسْرائين، والله أَعلم.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


21-أساس البلاغة (قتر)

قتر

بات الصائد في قترته، وباتوا في قترهم. قال امرؤ القيس:

رب رامٍ من بني ثعلٍ *** متلج كفّيه في قتره

واقتتر الصائد: استتر في القترة، وتقتر للصيد: تخفّى في القترة ليختله. ورماه بالقترة وهي سهم صغير النصل يقال لها: القطبة. وبوجهه قتر وقترةٌ وهو ما يغشاه من غبرة الكرب والموت. وقتر على أهله يقتر ويقتِر، وأقتر وقتّر عليهم «لم يسرفوا ولم يقتروا» وقريء ولم يقتّروا، ولا ينفق على عياله إلا قترًا وهو الرّمقة في النفقة والمساك، ورجل مقتر: مقلٌّ «وعلى المقتر قدره» وفعل ذلك من بين أثرى وأقتر أي من بين خلق أثرى وأقتر وهم الناس أو من بين ذي أثرى وأقتر أي صاحب هذا الكلام المقول فيه. قال الكميت:

لكم مسجدا الله المزورا والحصى *** لكم قبصه من بين أثرى وأقترا

ووجدت قتار الشواء والطبيخ، وقتّر الشّواء: هيّج القتار. وقتر اللحم يقتر ويقتر، وقتر يقتر: ارتفع قتاره، ولا تؤذ جارك بقتار قدرك. ورحلٌ قاترٌ إذا كان قدرًا لا يموج فيعقر.

ومن المجاز: لاح به القتير: أوائل الشيب وأصله: رءوس مسامير الدرع وسميَ قتيرًا لأنه قتر أي قدّر فعيل بمعنى مفعول. وعضّه ابن قترة وهي حيّة خبيثة لا ينجو سليمها كأن لها قترة ترمى بها. قال:

أحدو لمولاتي وتلقى كسره *** وإن أبت فعضّها ابن قتره

ولعن الله أبا قترة: كنية إبليس. وأرسل الماء في قترة البستان وهي الخرق الذي يدخل الماء منه. وفتح قترة التنّور: خرقه. وأدخل يده في قترة الباب وهي مكان الغلق. وأحكم قتر الدرع: لحقها. واطلعن من القتر: من الكوى. وهو في قترة من العيش: في ضيق. وقتّروا بين الأمتعة والركاب: قاربوا. وتقتّر لك فلان: سوّى عليك منصوبة. وتقتّر لأمر كذا: تلطّف له. وتقتّر للرمي وتبوّأ له: تهيأ له.

أساس البلاغة-أبوالقاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م


22-مقاييس اللغة (قتر)

(قَتَرَ) الْقَافُ وَالتَّاءُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى تَجْمِيعٍ وَتَضْيِيقٍ.

"مِنْ ذَلِكَ الْقُتْرَةُ: بَيْتُ الصَّائِدِ; وَسُمِّيَ قُتْرَةً لِضِيقِهِ وَتَجَمُّعِ الصَّائِدِ فِيهِ; وَالْجَمْعُ قُتَرٌ."

وَالْإِقْتَارُ: التَّضْيِيقُ.

يُقَالُ: قَتَرَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَقْتُرُ، وَأَقْتَرَ وَقَتَّرَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالذَّينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا.

وَمِنَ الْبَابِ: الْقَتَرُ: مَا يَغْشَى الْوَجْهَ مِنْ كَرْبٍ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26] [يُونُسَ 26].

وَالْقَتَرُ: الْغُبَارُ.

وَالْقَاتِرُ مِنَ الرِّحَالِ: الْحَسَنُ الْوُقُوعِ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ.

وَهُوَ مِنَ الْبَابِ، لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ وُقُوعًا حَسَنًا ضُمَّ السَّنَامُ.

فَأَمَّا الْقُتَارُ فَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ صَيَّادَ الْأَسَدِ كَانَ يُقَتِّرُ فِي قُتْرَتِهِ بِلَحْمٍ يَجِدُ الْأَسَدُ رِيحَهُ فَيُقْبِلُ إِلَى الزُّبْيَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ رِيحُ اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ كَيْفَ كَانَ قُتَارًا.

قَالَ طَرَفَةُ:

وَتَنَادَى الْقَوْمُ فِي نَادِيهِمُ *** أَقُتَارٌ ذَاكَ أَمْ رِيحُ قُطُرْ

وَقَتَّرَتْ لِلْأَسَدِ، إِذَا وَضَعْتَ لَهُ لَحْمًا يَجِدُ قُتَارَهُ.

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَتَرَ اللَّحْمُ.

يَقْتُرُ: ارْتَفَعَ دُخَانُهُ، وَهُوَ قَاتِرٌ.

وَمِنَ الْبَابِ الْقَتِيرُ، وَهُوَ رُؤُوسُ الْحَلَقِ فِي السَّرْدِ.

وَالشَّيْبُ يُسَمَّى قَتِيرًا تَشْبِيهًا بِرُؤُوسِ الْمَسَامِيرِ فِي الْبَيَاضِ وَالْإِضَاءَةِ.

وَأَمَّا الْقُتْرُ فَالْجَانِبُ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا لِأَنَّهُ مِنَ الْإِبْدَالِ، وَهُوَ الْقُطْرُ، وَقَدْ ذُكِرَ.

وَمِمَّا شَذَّ عَنْ هَذَا الْبَابِ: ابْنُ قِتْرَةَ: حَيَّةٌ خَبِيثَةٌ، إِلَى الصِّغَرِ مَا هُوَ.

كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ.

قَالَ: كَأَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ بِالسَّهْمِ الَّذِي لَا حَدِيدَةَ فِيهِ، يُقَالُ لَهُ قِتْرَةُ، وَالْجَمْعُ قِتْرٌ.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


23-تهذيب اللغة (قتر)

قتر: قال الله جلَّ وعزَّ: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67]، قرئ {لم يَقْتِروا} و {لَمْ يَقْتُرُوا}.

وقرئ: {ولم يُقتِروا}.

وقال الفراء: (لَمْ يَقْتُرُوا): لم يقصِّروا عما يجب عليهم من النفقة، ويقال: قَتَر وأَقتَر بمعنى واحد.

وقال الليث: القَتْرُ: الرُّمْقة في النَّفقة، ويقال: فلان لا يُنفق على عياله إلّا رُمْقةً، أي: يُمسِك الرّمَق.

ويقال: إنّه لَقتورٌ مقتر.

قال: وأقتَر الرجل: إذا أَقَلّ، فهو مُقْتِرٌ.

قال: والمقتِّر عقيبُ المكثِّر، والمُقْتِر عقيبُ المكْثِر.

أبو عبيد عن الأموي: قتَّرت للأسد: إذا وضَعْتَ له لحْمًا يَجِدُ قُتارَه.

قال: وقال غيره: القُتار: ريح القِدْر.

وقال الليث: القُتار رِيح اللحم المشويّ ونحو ذلك.

قال: والقتار أيضًا ريح العُود الذي يُحرَق فيذكَّى به.

وقال الفرّاء: هو آخر رائحة العود إذا بخّر به.

[قاله] في كتاب «المصادر».

قلت: هذا التفسير للقُتار من أباطيل الليث.

والقُتار عند العرب: رِيحُ الشِّواء إذا ضُهِّب على الجمر.

وأما رائحة العود إذا أُلقي على النار فإنَّه لا يقال له قُتار، ولكنّ العرب تصف استطابةَ القَرِمين إلى اللحم ورائحة شِوائه، فشبَّهتها برائحة العود إذا أُحْرِق.

ومنه قول طرفة:

أقُتارٌ ذاك أم رِيحُ قُطُرْ

والقُطُر: العُود الذي يُتبخَّر به.

ونحو ذلك قول الأعشى:

وإذا ما الدخان شُبّه بالآ *** نُف يومًا، بشَتْوةٍ، أهضاما

والأهضام: العود الذي يُوَقَّص ليُستَجمَر به.

وقال لبيدٌ في مثله:

ولا أضِنُّ بمعْبوط السَّنَام إذا *** كان القُتار كما يُستَروَح القُطُر

أخبر أنَّه يجود بإطعام الطعام إذا عزَّ اللحم، وكان ريح قُتار اللحم عند القَرِمِين إليه كرائحة العود الذي يُتبخَّر به.

ويقال: لحمٌ قاتر: إذا كان له قُتارٌ لدَسَمِه، وقد قتَر اللحمُ يَقْتِر.

وربما جَعلتِ العرب الشَّحم والدَّسَم قُتارًا.

ومنه قول الفرزدق:

إليك تَعَرَّقْنا الذُّرى برِحالنا *** وكلّ قُتار في سُلامَى وفي صُلْبِ

وقال أبو عبيد: القُتْرة: البئر يحتفرها الصائد يَكمنُ فيها، وجمعُها قُتَر.

وقال الليث: القُتْرة: كُثْبة من بَعْرٍ أو حَصًى تكون قُتَرًا قُتَرًا.

قلت: أخاف أن يكون قوله قُتَرًا قُتَرًا تصحيفًا، وصوابه قُمَزًا قُمَزًا، والقُمْزة: الصُّوبة من الحَصَى وغيره، وجمعها القُمَز.

والقَتَرَة: غَبَرة يعلوها سواد كالدخان.

قال الله جلّ وعزّ: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ} [عبس: 40، 41].

وكذلك القَتَر بلا هاء.

أبو عبيد: القاتر من الرجال: الجيِّد الوُقوع على ظهر البعير.

وقال الليث: هو الذي لا يَستقدم ولا يستأخر.

أبو عبيد عن الأصمعيّ: القِتْر: نِصال الأهداف.

وقال الليث: هي الأقتار، وهي سهامٌ صغار.

يقال: أُغالِيكَ إلى عشرٍ أو أقلّ، فذلك القِتْر بلغة هُذَيل، يقال: كم جَعلتُم قِتْركم.

وقال أبو ذؤيب:

كسهم الغِلاءِ مستدرًّا صيابُها

وقال ابن الكلبي: أهدى يكسوم ابن أخي الأشرم للنبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم سِلاحًا فيه سهمٌ لَغْبٌ قد ركبت مِعبلةٌ في رُعْظِه، فقوَّم فُوقَه وقال: هو مستحكم الرِّصاف، وسماه: «قِتْر الغِلاء».

وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنَّ أبا طلحة كان يَرمي والنبي يُقتّر بين يديه، وكان راميًا وكان أبو طلحة يَشُور نفسَه ويقول له إذا رَفَع شخصه: نحري دونَ نحرِك يا رسول الله!.

قال غيره: هي والأقتار والأقطارُ: النواحي، واحدها قُتْر وقُطْر.

وقد تَقتَّر فلانٌ عنّا وتقطّر: إذا تنحّى.

وقال الفرزدق:

وكُنّا به مستأنسين كأنه *** أَخٌ أو خَليطٌ عن خليطِ تَقتَّرا

وقال أبو عبيد: تَقطَّر فلان وتَقتَّر وتَشذَّر، كلُّه تهيّأ للقتال وتحرَّف لذلك.

وقال الفرزدق أيضًا:

لطيف إذا ما انغَلَّ أدْرك ما ابتغى *** إذا هو للمُطنِي المَخُوفِ تَقتّرا

وقال شمر: ابن قتْرةَ: حيَّة صغيرة تنطوي ثم تَنْزُو في الرأس، والجميع بنات قتْرة.

وقال ابن شميل: هو أُغَيبر اللَّون صغيرٌ أرقط ينطوي ثم ينقُز ذراعًا أو نحوَها.

وهو لا يُجرَى؛ يقال: هذا ابن قتْرَةَ.

وأنشد:

له مَنزِلٌ أنفُ ابنِ قتْرةَ يَقتري *** به السمَّ لم يَطعَم نُقَاخًا ولا بَرْدا

وقال الفرّاء: سمّيَ ابن قترة بالسهم الذي لا حديدةَ فيه، يقال له قترةٌ، ويجمع القِتَرَ.

وقال الليث: القَتير أنْ تدنيَ متاعك بعضَه من بعض، أو بعض ركابك إلى بعض، تقول: قتِّر بينها، أي: قارِبْ.

أبو عبيد: القَتير: الشَّيب.

وقال غيره: القَتير: مَسامِير حَلَق الدُّروع تَراها لائحةً، يشبَّه بها الشيب إذا ثقَّب بين الشعر الأسود.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


24-تهذيب اللغة (سرف)

سرف: قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].

قال المفسرون: معناه: لا يَقتُل غيرَ قاتله، وإذا قَتلَ غيرَ قاتله فقد أسرَف.

أبو العباس عن ابن الأعرابي أنه قال: السَّرَف: تجاوز ما حُدَّ لك.

والسَّرَف الخطأ؛ وإخطاءُ الشيء: وضعُه في غير موضعه.

قال: والسَّرَف: الإغفال.

والسَّرَف: الجهل.

ورُوي عن عائشةَ أَنها قالت: إن لِلَّحم سَرَفًا كسَرَف الخمر.

أبو عُبيد عن أبي عمرو: يقال: سَرِفْتُ الشيءَ، أي: أخطأته وأغفَلْتُه.

وقال أبو زياد الكلابيّ في حديث: «أَرَدْتُكُم فَسَرِفْتُكم»، أي: أَخْطَأْتُكم.

وقال جرير يَمْدح بني أميّة:

أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوها ثمانيةٌ *** ما في عطائِهمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ

يُرِيدُ أنهم لم يُخطِئُوا في عَطِيَّتِهم، ولكنهم وضَعوها موضِعَها.

وقال شَمِر: سَرَفُ الماءِ: ما ذهب منه في غير سقْي ولا نفع، يقال: أرْوَت البئرُ النخيلَ، وذهبَ بقيَّةُ الماءِ سَرَفًا؛ وقال الهُذَليّ:

فَكَأَنَّ أَوْساطَ الجَدِيَّةِ وَسَطَها *** سَرَفُ الدِّلاءِ من القَلِيبِ الخِضْرِمِ

قال: سَرِفْتُ يَمِينَه، أي: لم أعرفها.

وقال ساعِدَةَ الهُذَليّ:

حَلِفَ امرىءٍ بَرٍّ سَرِفْتِ يَمينَه *** ولكلِّ ما قال النُّفوسُ مُجَرّبُ

يقول: ما أخفَيتُ وما أظهَرْت فإنّه سيظهر عند التّجربة.

وقال سُفيانُ في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67]، أي: لم يَضَعوه في غير موضعه، {وَلَمْ يَقْتُرُوا}، أي: لم يقصِّروا به عن حقّه.

قوله: {وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]: إن الإِسراف أكلُ ما لا يحل أكله، وقيل: هو مجاوزة القصد في الأكل مما أحله الله.

وقال سفيان: الإسراف: أكل ما أنفِق في غير طاعة الله.

وقال إياس بن معاوية: الإسراف ما قُصِّر به عن حق الله.

والسَّرَفُ: ضد القصد.

وقوله تعالى: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ} [غافر: 34]: كافر شاك.

والسَّرفُ: الجهلُ.

والسرفُ: الإغفال، أردتكم فسرِفتكم، أي: أغفلتكم.

وقال شمر: رُوي عن محمّد بن عمرو أنه قال في قول عائشة: «إنّ للّحم سَرَفًا كسرَف الخمر»، أي: ضَراوةً كضَراوة الْخَمر.

قال شَمِر: لم أَسمَع أحدًا ذَهَب بالسَّرَف إلى الضَّراوة، وكيف يكون ذلك تفسيرًا له وهو ضدّه، والضَّراوة للشيء: كثرةُ الاعتياد له، والسّرَف بالشيء: الجهلُ به إلا أَن تصير الضَّراوة نفسُها سَرَفًا، أي: اعتيادُه وكثرةُ شِرائه سَرَف.

وفي حديث ابن عمرَ أنه قال لرجل: إذا أَتيتَ مِنًى، فانتهيتَ إلى موضِع كذا فإن هناك سَرْحةً لم تُجْرَد ولم تُسْرَف، سُرَّ تحتَها سبعون نبيًا فانزل تحتها.

قال أبو عُبيد: قال اليزيديّ: لم تُسرَف يَعنِي لم تُصِبْها السُّرْفة، وهي دُوَيْبَة صغيرةٌ تَثقُب الشجر وتَبنِي فيها بيتًا.

قال: وهي التي يُضْرَب بها المَثَل فيقال: أصنَع من سُرْفَة.

وقال ابن السكيت: السَّرْفُ ـ ساكنُ الراء ـ: مصدرُ سُرِفت الشّجرة تُسرَف سَرْفًا: إذا وقعتْ فيها السُّرْفة.

أبو عُبيد: السَّرِف: الجاهل.

وقال طَرَفة:

إنَّ امرأً سَرِفَ الفُؤادِ يَرَى *** عَسَلًا بماءِ سَحابةٍ شَتْمِي

والأُسْرُفُ: الآنكُ، فارسيَّة معرّبة.

وقال ابن الأعرابيّ: أَسرَف الرجلُ: إذا جاوَزَ الحد، وأسرَف إذا أخطأَ، وأسرَف: إذا غَفَل.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com